बुद्धि का सपना: ग्रीक युग से रेनेसां युग तक दार्शनिकता का इतिहास
حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة
शैलियों
إن المرض هو الذي يجعل الصحة أمرا جميلا فيه من الخير الكثير، والجوع هو ما يسبب التخمة، والتعب يمهد طريقا للراحة.
إن البحر هو أكثر منابع الماء نقاء وأكثرها تلوثا؛ فهو للأسماك صالح للشرب وحافظ للحياة، بينما لدى الناس غير مستساغ الشرب ويوردهم المهالك.
وهذه أمثلة أربع تجسد علاقة الوحدة بين الأشياء المتضادة ظاهريا لدى هرقليطس. أما المثال الأول فهو مثال واضح وصريح؛ فالطريق المؤدية إلى أعلى التل هي نفسها طريق النزول منه، تماما كالمدخل يخرج الإنسان منه. أما المثال الثاني فيعتريه بعض الغموض حيث إن من على قيد الحياة ليس بالطبع ميتا، والفتاة الصغيرة ليست فتاة كبيرة في الوقت ذاته، وكذلك الإنسان النائم ليس يقظان، ولكن كما يرى هرقليطس ووفقا لرؤيته ومفهومه حول عملية إعادة تدوير الكون؛ فإن هذه الأضداد تنتهي إلى الشيء ذاته، فالنائم لا بد وأن يستيقظ، واليقظ لا بد وأن ينام، وكذلك الحي لا محيص له من الموت، والأموات يبعثون إلى الحياة مرة أخرى (وكذلك فكل قديم سيصبح جديدا). أما المثال الثالث الذي يتحدث عن الصحة والمرض والأزواج الأخرى فيبدو أن هرقليطس يقصد أن الإرهاق هو ما يعطي للراحة معنى والمرض هو ما يعطي للصحة معنى والعكس صحيح. أما المثال الرابع فيعرض شكلا جديدا من أشكال الترابط بين الأضداد، فيقول فيه إن المادة الواحدة قد تكون لها تأثيرات متناقضة على الكائنات المختلفة.
ونستخلص من هذه الأمثلة أن هرقليطس يرى أن كل ضدين ليسا شيئين في حقيقتيهما بل شيء واحد كما هو الحال مع الليل والنهار؛ فهما شيء واحد لا شيئين. ولكننا نرى أن هذا يعد من قبيل التعميم المبالغ فيه ولا نجد فيه من الأهمية إلا قليلا. ويمكننا على سبيل المثال توضيح المظاهر التي يكون النوم فيها مختلفا عن اليقظة على الرغم من وجود رابط بينهما، ويمكننا أن نسرد العديد من الفوارق بين ما تعنيه كلمة «الضد» وكلمة «الشيء نفسه»، وهو ما يجعل حديث هرقليطس يعجز عن إقناعنا بالحكم على الأضداد بالتشابه. ولكن كما نعتقد أن سرد هذه الفوارق من الأهمية بمكان، فقد بدا لهرقليطس أن تسليط الضوء على العلاقات القائمة بين الشباب والشيخوخة والصحة والمرض وطرق الصعود وطرق النزول وغيرها شيء ذو أهمية بالغة، حيث اعتقد أن ذلك سيساعده على فهم هذه الأشياء. وكما كان فيثاغورس مفتونا بالعلاقة بين الإيقاع الموسيقي والأرقام - وهو ما جعله يقول إن جميع الظواهر يمكن تفسيرها عن طريق الأرقام بطريقة أو بأخرى - فإن هرقليطس كان مولعا بفكرة العلاقة بين الأضداد مما حدا به إلى القول في النهاية: «إن كل الأشياء شيء واحد.» •••
ومن بين الأشياء العديدة التي لا تبدو من النظرة الأولى أنها تنطبق عليها فكرة «أن كل الأشياء شيء واحد» هو فكر هرقليطس نفسه؛ إذ يبدو مناقضا لنفسه كما سيتضح لنا الآن. فمن جانب يرى هرقليطس التغير الدائم والصراع أينما ولى وجهه، ومن جانب آخر يبدو هذا الصراع وكأنه معركة تثير الضحك حيث إن الأضداد المتناحرة - مثل العناصر أو الليل والنهار أو الشباب والشيخوخة - ينتهي بها الحال إلى طريق واحد. ويبقى السؤال إذن: هل ثمة تغير مستمر وصراع كما يقول هرقليطس أم لا؟ والإجابة هي نعم، توجد هذه الأشياء ولكن التغير المستمر والاستقرار والوحدة والتنوع وجهان لعملة واحدة كالليل والنهار. ولنمعن النظر في مثال النهر مرة أخرى، فهو نهر واحد، لكنه يتكون من مياه عدة، ورغم أنه يتكون من مياه عدة فهو يبقى نهرا واحدا. ومن هنا يمكننا أن نجمع جل أفكار هرقليطس عن الصراع والوحدة في إطار واحد، ورغم أنه لم يصرح بهذه الفكرة أبدا فهذا التفسير المزدوج للتغير المستمر في الشيء الواحد أو لوحدة الأشياء المتغيرة يبدو هو المبدأ الذي اعتقد أن المفكرين الأوائل لم يدركوه. •••
وقد عجز بعض المفكرين اللاحقين عن إدراك ما كان يحدث حتى بعد محاولات هرقليطس لشرحه وتفسيره؛ فقد أساء أفلاطون مثلا لهرقليطس حينما قام بنشر أفكاره بشكل يشوبه التحريف والتشويه، فقد اعتمد أفلاطون على فيلسوف يدعى قراطيلوس ألم بجانب واحد من فكر هرقليطس ثم هب يتحدث به دون مراعاة لباقي الجوانب. وقد ردد أفلاطون ومن بعده تلميذه أرسطو آراء قراطيلوس، ثم فسر غالبية من تلاهم من المفكرين أفكار قراطيلوس من وجهة نظرهم الشخصية فحسب.
ويرى قراطيلوس أن جميع الأشياء تعاني حالة من التغير الدائم والمستمر؛ وبهذا فلا يمكن لإنسان أن يقول أية معلومة صحيحة عن شيء ما إذ هو في تغير مستمر وسريع. ولذلك أشار أرسطو إلى «أفكار ... هرقليطس وأتباعه مثل ... قراطيلوس، الذين انتهوا إلى أنه ليس من الصواب أن يقول الإنسان شيئا بل أن يشير بإصبعه فقط.» وفي إحدى محاورات أفلاطون قام سقراط بتحليل هذه الفكرة المتطرفة التي نتجت عن حالة سيئة من التغير العقلي فقال:
في سعيهم للوقوف على حقيقة طبيعة الأشياء، دائما ما يصاب كثير من الفلاسفة المعاصرين بحالة من الدوار نتيجة سعيهم المستمر في كل اتجاه، ولكن يخيل لهم أن العالم هو الذي يدور من حولهم ويتحرك في جميع الاتجاهات. ويعتقدون أن هذه هي طبيعة الطبيعة على الرغم من أنها تنبع من داخلهم؛ فهم يظنون أنه ليس ثمة شيء ثابت أو مستقر ولا يوجد إلا التغير المستمر والحركة.
وما إن نسب أفلاطون هذا الهراء إلى هرقليطس حتى سهل عليه أن يسخر ممن يزعمون أنهم أتباع هرقليطس (الذين لم يتبق منهم سوى قراطيلوس) فقال:
لا سبيل لمناقشة مبادئ هرقليطس ... فحتى عندما تتحدث مع أهل مدينة أفسس الذين يزعمون أنهم على علاقة حميمة بأتباع هرقليطس، قد تشعر أنك تتحدث مع شخص مجنون؛ فهم في حالة من الحركة السرمدية تماما مثل أطروحاتهم ... وعندما تطرح سؤالا تجدهم في الإجابة يتصيدون من منهجهم المضطرب حكمة أو مثلا تنبئيا ليشنوا به هجومهم عليك، وإذا ما حاولت أن تصل إلى أي معنى لحديثهم فسيباغتونك بمثل آخر ويطعمونه باستعارة جديدة زائفة؛ ولذلك فلن تصل إلى أية إجابة شافية عند الحديث إلى أي منهم؛ إذ إنهم ببساطة لا يتفقون حول رأي واحد، ولكنهم يصبون جل تركيزهم على عدم ترك أية أرض صلبة يمكنك الوقوف عليها سواء في خطابهم أو في عقولهم.
अज्ञात पृष्ठ