बुद्धि का सपना: ग्रीक युग से रेनेसां युग तक दार्शनिकता का इतिहास

मुहम्मद तल्बा नस्सार d. 1450 AH
28

बुद्धि का सपना: ग्रीक युग से रेनेसां युग तक दार्शनिकता का इतिहास

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

शैलियों

وقد شرح هرقليطس جانبا من نظريته عن «التغير المستمر» بمثال تشبيهي قد يستعصي فهمه لأول وهلة فقال: «حتى الجرعة يمكن أن تنفصل ما لم تقلب.» وتتكون الجرعة التي يشير إليها هرقليطس من الشعير والجبن المبشور حيث يقلبان في دورق من الخمر. وعملية التقليب هذه هي بيت القصيد في هذا المثال، فإذا لم يكن الشعير والجبن في حالة دوران مستمر أثناء تناولها لترسبا في قاع الدورق ووجدت نفسك تحتسي خمرا عادية. إذن فالجرعة تعتمد على الحركة. ويجسد هذا المثال ما يعتبره هرقليطس حقيقة مبهمة عن الطبيعة ككل، بمعنى أن خصائص الطبيعة تعتمد على الحركة أو التغيير. ثم يضرب مثالا آخر بالأنهار قائلا: «إذا نزل الإنسان في النهر ذاته مرتين فسيجد ماء جديدا في كل مرة.» ويلفت هرقليطس أنظارنا في هذا المثال إلى حقيقة أن كل نهر يتكون من مياه تتغير باستمرار، فإذا ما نزلت اليوم في مكان معين من نهر التيمز مثلا ثم نزلت غدا في المكان نفسه فأنت في الحقيقة تنزل في ماء جديد كل مرة. ويرى هرقليطس أن ما يحدث مع الأنهار ينطبق بشكل أو بآخر على كل شيء حولنا بما في ذلك النفس البشرية، فالأمر كما ذكر في أحد الشعارات القديمة: «كل شيء يطفو.»

ولا يحدث هذا التدفق بصورة هادئة «فالحرب أصل كل شيء وذروة كل شيء» كما يقول هرقليطس بشكل مأساوي. ولكن لماذا طعم هرقليطس نظريته عن التغير المستمر بفكرة خيالية حول وجود الصراع؟ بما أن الطبيعة تؤثر الخفاء والإبهام فليس حتما أن يكون كل ما توصل إليه هرقليطس موافقا للسليقة. وقد تكشف مقولته التالية عن الأضداد جانبا من الإجابة؛ إذ يقول:

كان هوميروس مخطئا عندما قال: «هل سيأتي يوم وتضع الصراعات والحروب بين الآلهة والبشر أوزارها؟» ذلك أنه لا يمكن أن يصدر نغم دون أصوات عالية وأخرى منخفضة، وكذلك لا يمكن أن توجد حيوانات دون الذكور والإناث، وكلها تمثل أضدادا.

ويمثل الضد عند هرقليطس الغريم أو الخصم؛ وبذلك فإن الموسيقى تنطوي على صراع داخلها لأنها تستخدم كلا من الأصوات العالية والمنخفضة التي تقع على نهايات مختلفة في السلم الموسيقي. وفي الواقع إن انتقال هرقليطس من مصطلح «الضد» إلى «الخصم» ثم إلى «الصراع» ومنه إلى «الحرب» كما لو كان الأمر جليا أن كل ضد مستغرق بشكل ما في حالة من الحرب، قد يعكس صورة المعركة الأبدية بين العناصر المادية كما يصفها أناكسيماندر حين يتحدث عن مفاهيم العقاب والقصاص والعدالة. وبينما كان أهل ملطية يرون أن الحرب متمثلة في التفاعل بين العناصر، وهو شكل التغيير الذي اهتموا به أكثر من غيره؛ فإن هرقليطس قد وسع فكرة التغيير أو الاختلاف وخرج بها إلى رحاب أوسع، واقتبس صورة النزاع التي رسموها في كتاباته وأعماله؛ ففي مثال الأنهار التي لا تخلو من جموح أو عنف بأي حال من الأحوال نجد أنه ليس من الحكمة أن نبحث عن دليل وجود الصراع في الشيء الواحد؛ لأن هذا سيفقدنا تركيزنا ويجعلنا لا نرى الأمور على حقيقتها. ويرى هرقليطس أن الأنهار المتدفقة تمثل جزءا من صورة الصراع الدائر بين العناصر فيقول: «يولد الهواء حال موت النار، وتولد المياه بموت الهواء.»

وقد وضع هرقليطس أحد هذه العناصر في منزلة تعلو سائر العناصر الأخرى؛ فقد كان أحد هؤلاء المفكرين الذين هوستهم النار؛ فالكون عنده «نار أبدية لا تنطفئ، بل تشتعل بمقدار وتخبو بمقدار.» بل قال: «إن جميع الأشياء تعد معادلة للنار، تماما كما نحصل على البضائع عن طريق الذهب ونحصل على الذهب عن طريق بيع البضائع.» وهنا يشبه هرقليطس الدور الذي يلعبه الذهب في عملية التبادل التجاري بالنار ودورها في إحداث التغيير المادي، ولكن هذا ينطوي على شيء من المبالغة، فالنار (على الأقل بمعناها المتداول) لا تدخل في كل عملية للتغيير المادي، إذن ما الذي يجعلها فريدة بين العناصر الأخرى؟ ربما كان هرقليطس يتبنى نظرية التغير الدوري للكون، والتي تقول إن كل شيء يتحول بصفة دورية إلى نار في سلسلة متعاقبة من الحرائق الكونية. وإذا كان الأمر كذلك فإن هذا يعد مؤشرا على أن النار تدخل في تكوين جميع الأشياء من حولنا. وإذا ما سلمنا بصحة هذه الفكرة فإننا نجد أن النار تتلاءم بشكل كبير مع مفهومه عن الطبيعة على أنها في حالة من الهياج والاضطراب الدائمين، حتى وإن لم نر مواقد كونية بأعيننا؛ لأن ألسنة اللهب تجسد صورة الصراع الدائر في قلب الأشياء؛ وبهذا فإن لهبا مشتعلا بشكل منتظم (كلهب شمعة على سبيل المثال) يعد أحد تجليات هذا التغيير المستمر الذي يحدث في الخفاء تحت قناع الاستقرار الظاهري؛ حيث إنه يستطيع أن يظهر في حالة من الاستقرار أو الثبات الظاهري لأنه يتغذى على بعض الوقود بشكل دائم، تماما مثل النهر الذي يحتاج إلى تدفق دائم من المواد الجديدة. هذا بالإضافة إلى أن النار هي العنصر الوحيد الذي يمكن ملاحظة كيف يقوم بتحويل شيء ما إلى شيء آخر (كتحويل الخشب إلى رماد مثلا)؛ وبهذا فهو يلعب الدور الحيوي في إحداث التغيير. وكل هذا يتلاءم مع الصورة والمفهوم العامين لدى هرقليطس عن الهياج والاضطراب الدائمين.

وكذلك ربط هرقليطس أيضا بين النار والروح والرب و«المبادئ» التي تحكم العالم، إلا أنه لا يبدو ثمة أي رابط بين هذه العناصر من الوهلة الأولى. وهنا يفرق هرقليطس بين نوعين من النار؛ فالنار الإلهية أو النار الروحية تختلف عن ذلك اللهب العادي الذي نراه يحرق الأشياء على الموقد، فهي «أثير» السماء؛ ذلك الهواء المخلخل الساخن الجاف الذي يهبط من الممالك العليا، وهي التي اعتبرها المفكرون الأوائل الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح. وكما نرى، لقد اعتبر هرقليطس الروح كيانا عاقلا يفكر؛ ولذلك فهو يرى أن ثمة تشابها قويا بين الينبوع الذي خرجت منه كافة الأرواح والمبادئ المسيرة للطبيعة، فكما ينظر للروح على أنها الدافع وراء أفعال الإنسان والقوة المحركة لها؛ فإن الروح التي تهيمن على العالم أيضا هي المبدأ الحاكم له ومصدر كل ما نراه فيه من أحداث وظواهر. وليس من الغريب أن يصف الإغريق هذه الروح المهيمنة على العالم والتي تتصف ب «السرمدية». وقد اعتدنا أن ننظر للنار كآلة للدمار العشوائي، ولكن هرقليطس يعتبرها القوة المنظمة التي تحفظ التوازن بين العناصر. وكانت النار تدخل بشكل جوهري في عمليات التناوب بين الساخن والبارد والرطب والجاف. وقد اهتم الملطيون بذلك الأمر كثيرا (فقالوا: «إن البارد يسخن، والساخن يبرد، والرطب يجف، والجاف يترطب»).

وأشار هرقليطس في أكثر من موضع إلى مسألة تعاقب النوم واليقظة والحياة والموت، وكان يعزو هذه التغيرات التي تصيب العالم إلى ظاهرة المد والجزر التي تحدث بين العناصر المادية؛ فيقول على سبيل المثال إن الموت يحدث عندما تصبح الروح رطبة للغاية، ولكن هذه الرطوبة تتحول إلى حياة في النهاية فقال: «إن الأرواح يصيبها الموت عندما تتحول إلى مياه، وتموت المياه عندما تتحول إلى تراب، ومن هذا التراب تنبع المياه مرة أخرى لتخرج منها روح جديدة.» وهذه العملية الدورية التي تقود فيها المياه إلى الحياة وإلى الموت أيضا تبعا لمكانها في الدورة تبين إلى أي مدى يمكن للأضداد أن تتضافر.

ويأخذنا هذا إلى المكون الأخير في الصورة التي رسمها هرقليطس؛ ألا وهو وحدة الأشياء، والذي يتناول كيف تتماثل الأضداد. وقد كفر هرقليطس لسابقيه من الحكماء عدم تقديرهم لهذه الحقيقة، حتى هسيود الذي يعتبره هرقليطس أكثر الفلاسفة حكمة وأوفرهم علما لم يستطع أن يدرك حقيقة الليل والنهار وأنهما «شيء واحد». كان هسيود يرى أن الليل نوع من قوى الظلام التي تغطي مؤقتا على النهار، وهو ما يشبه اعتقاد أحد الفلاسفة الخرافيين لدى الكاتب الروائي الهزلي (فلان أوبراين) أن الليل حالة غير صحية للجو تسببها تراكمات من الهواء الأسود. ويبدو أن هسيود لم يكن ليدرك حقيقة أن الليل والنهار وجهان لعملة واحدة؛ ولذلك رأى هرقليطس أن هسيود قد فاته أمر جلل عن العالم. وهناك من الأمثلة الكثير الذي يدلل على فكرة وحدة الأضداد نذكر منها:

إن الطريقين الصاعد والهابط ليسا سوى طريق واحد.

إن الحي والميت والنائم واليقظ والصغير والكبير ... كلها أشكال لشيء واحد.

अज्ञात पृष्ठ