وما زلت كذلك حتى نال مني الأين والسغب منالهما، وحتى حل القنوط بالقلب، واستولى اليأس على النفس، فارتميت في مكان لست أدري ماذا ساقني إليه، وتناولت صخرا أشده إلى بطني؛ لتعتمد الأمعاء عليه، وإني لأشد ذلك الصخر إذ بصرت بين الصخور والرمال بجراب من جلد الغزال، فظننت فيه رطبا جنيا، وأن ما فيه سوف ينقذني من العدم، ويريحني من العناء والألم، وكنت والله من الجوع بحيث لو رأيت صخرة لقضمتها، أو حية تسعى لالتهمتها، فما بالك بالرطب بعد الشقة والتعب؟! فأهويت بيدي إليه أريده، فما قاسيت والله في حياتي ألما أشد من ألمي لما فككت عقدته، وفضضت ختامه، ورأيت أن حشوه لآلئ غالية، وجواهر ثمينة، ومنذ ذلك اليوم علمت أن رغيفا من الخبز في المهمه القفر خير من الجوهر الغالي والدر:
لعمرك لا ينيل المجد مال
ولا خيل ولا إبل ترود
ولا ثوب على طرفيه وشي
ولا قصر على تل مشيد
فإن المجد في أدب غزير
وإن المجد في علم يفيد
خنازير البشر
بصرت بغني بادن مكسو ثيابا مطروزة، معتم بالدمقس، وممتط مهرة عربية وهو يسير في الطريق مختالا، مصعرا خده، معجبا بنفسه، فقال لي رفيق: ماذا ترى في هذا الخنزير يلبس الديباج، ويركب الهملاج؟ فقلت: مثله كمثل فحش القول منقوشا بماء الذهب، ولولا العمامة والقنطار والفرس لكان الإصطبل أجدر بهذا الفحل؛ لأنه لا قيمة له إلا بها، ولا قدر له إلا قدرها، واعلم أن العاقل مهما نالت منه الحاجة فهو غني بنفسه، والجاهل وإن صاغ بابه من ذهب، ورصف بيته بالزبرجد، واكتسى ثوبا منسوجا بخيوط العسجد، فلا هذا يعلي من قدره، ولا ذاك يرفع من ذكره.
الطبيب والملك
अज्ञात पृष्ठ