مقدمة
منذ دخلت أميركا منخرطا بين عالمها السوري، ونفسي ترى أشكالا وأوضاعا في حالتنا الاجتماعية، وصورا شتى لحياتنا السورية الأميركية، وكنت كثيرا ما أسائل نفسي: متى يا ترى يتحرك قلم أحد كتابنا، فيدون هذه المشاهد لحمل الناس على درس أسرارها؟
أما المشاهد التي أعنيها فهي مرئيات لأسرار ومظاهر لما خفي في النفوس، وقد كنت أراها وأقرؤها وأسمعها وأحس بها، فأجد سعة ميدان لمن شاء من الكتاب تصوير الحياة السورية بأسلوب القصص القصيرة.
ولقد ظل هذا الفكر يراودني حتى كتبت أول قصة «عبد الفطرة» لخاطرة خطرت ببالي، أملأ بها بعض فسحة من صفحات السائح، ولم أدر إلا وأنا مدفوع من نفسي في ذلك الميدان، الذي رغبت لغيري من الكتاب في ولوجه، فما ظهرت تلك القصة حتى رأيتني محاطا بأصدقاء يسائلونني كيف خطر ببالي تصنيف قصة هي صورة طبق الأصل لمشهد من مشاهد حياتنا في ديار المهجر، ثم شعرت بيد لطيفة ممسكة بيدي، تلك كانت يد عميد الرابطة القلمية جبران خليل جبران، وسمعته يقول لي: «أريد أن أقرأ لك قصة من هذا النوع في كل عدد من أعداد جريدتك، ولا عذر لك عن القيام بذلك العمل، فأمامك ميدان واسع ولجته، فتعمق في حناياه، وغص إلى قاعه، وجئنا بما تغوص عليه.»
ثم جاءني بعد حين يحاول إقناعي بأن أجمع هذه القصص بكتاب على حدة، فلم أر بدا من ذلك؛ لأن ما سمعته من هذا الصديق الحبيب وغيره من الأصدقاء الغير على آداب اللغة، التائقين إلى نزع ما تقادم عهده من ألبستها وجلببتها بألبسة تناسب هذا العصر، قد فتح في نفسي آذانا وعيونا، فساقني الميل الطبيعي إلى القيام بما تمنيت أن يقوم به غيري؛ ولهذا أطلقت للمخيلة العنان في درس حياتنا السورية في المهجر تترصد مشهدا من مشاهدها، فأصوره بقالب حكاية صغيرة حتى جمعت هذا الكتاب، ولعله مقدمة لغيره إن شاء الله.
أقول مقدمة لغيره؛ لأني رأيتني قد ولعت بهذا الدرس، وأدركت أني سائر مع الجدول الصغير، ناشدا مياه الخضم؛ فإن كنت بهذه الأقاصيص لم أبلغ الغاية، ولم أرسم ما يجب رسمه من مشاهد النفس السورية العميقة، فلسوف يقذف بي الجدول الذي أنا فيه إلى العمق حيث أستطيع التعمق في درس الحياة السورية من وجوه عديدة منذ ابتدأت المهاجرة إلى ما صرنا إليه.
نحن بحاجة إلى مرآة نرى فيها أنفسنا، ونشاهد بعيوننا مظهرنا، فنصلح فيه مواطن الخطل. وإذا كان المرء يلجأ إلى المرآة لإصلاح شعره وفرقه وربط عقدة رقبته، فبالمرآة النفسية يصلح ما يلزم من مظاهره النفسية. ولعمري، إن هذه المرآة المعنوية ليست إلا الرواية المصورة لعادة من عاداتنا وتقليد من تقاليدنا، فيها ترى عيننا النفسية حسنات حياتنا الاجتماعية وسيئاتها.
ولهذا، فجريا وراء هذه المنشودة - مرآة النفس - أقدمت على كتابة هذه الأقاصيص، ودعوتها «حكايات المهجر» لأنها تختص بالمهجر؛ عساني أفيد بها، وإلا فحسبي النية وعليهم السلام.
عبد المسيح حداد
نيويورك، في 1 نيسان 1921
अज्ञात पृष्ठ