وازداد سوء الحال حتى أصبح أبو حنا مكروها من الأولاد والأم بسبب الشجارات إلى حد أنهم ما كانوا ينامون ليلة بملء جفونهم، والحقيقة أن الأم المسكينة كانت أتعسهم؛ فإنها كانت بين ويلين عظيمين، واختارت الوقوف بجانب فلذات أكبادها، تاركة زوجها المسكين يعاني أمر ضروب المعيشة، فلا هو يفهم الأولاد ولا الأولاد يفهمونه، حتى اضطر أخيرا أن يهجر البيت دون أن يودع عائلته؛ تخلصا مما كان فيه من الحالات.
في إحدى مدائن أميركا العظيمة شوهد أبو حنا لابسا طقما أبيض، رافعا عصا كبيرة وفي رأسها ضمة من القش الطويل، وأمامه علبة ذات دولابين يسوقها بيده اليسرى، وكان الشاهد ابن بلده الذي احتضنه وعائلته في الأسبوع الأول لوصوله إلى نيويورك، وعندما رآه قال مترددا: «هذا أبو حنا، والله هذا هو ... ألست أبا حنا؟» - نعم يا صاحب، كيف الحال؟ - ما لك؟ وماذا تعمل ها هنا؟ وأين أم حنا والأولاد؟ - تعلم يا صديق أني جئت بأم حنا وحنا إلى هذه البلاد، وقد صار عندي أربعة أولاد غير حنا في هذه السنين، وكنت قد خجلت أن أخبرك لدى وصولي إلى أميركا أني لم أر فيها ما كنت أعلل نفسي به؛ فقد كنت آمل أن أكنس كم سلة من الذهب من الشوارع، ولكن ... - ماذا صار لك؟ - جئنا لنكنس الذهب فضيعنا المرأة والأولاد، وصرنا نكنس الوسخ والأقذار ...
مدرسة الغربة
«أهل بلادنا مساكين، متأخرون بكل شيء، ولولا الغربة لكانوا لا يفرقون عن أهل أفريقيا، الغربة علمت أكثرهم وفتحت بصائرهم، فصاروا يعرفون ما هي الدنيا.»
هذه بعض عبارة طويلة قالها إلياس شدراوي في حضرة جمهور من المواطنين في إحدى قهوات السوريين، وكان الحديث عن تذكارات عنت لبعضهم في الوطن، ولما أراد واحد منهم أن يرد عليه قائلا إنه في الماضي كانت حال السوريين في سوريا كما ذكر، ولكن منذ عشرين سنة - أي بعد أن هاجر إلياس شدراوي من سوريا - امتلأت بالمدارس، فصار الأهلون هناك يعرفون كل شيء، وهم لذكائهم الفطري صاروا أبرع من الأوروبيين والأميركان بكل شأن.
أما إلياس الشدراوي فلم يقتنع بهذا الرد بل نشل النرييج من فمه، فخال الحاضرون أنه سل من فمه أسنانه وقال: «في بلادنا لا يزالون يعتقدون أن شوارع أميركا مرصوفة بالزجاج، وأن المرء يستطيع أن يحفر أينما كان فيجد الذهب بكثرة، وكثيرا ما نسمع أنهم يعتقدون بغرائب الأمور في أميركا، ونحن قد صار لنا عشرات السنين فيها لم نر أثرا لذلك.»
أما الذي فتح باب الاعتراض على حديث إلياس الشدراوي؛ فقد أقفله بنهوضه ومغادرته الجماعة بعد أن قال: «هذا كله مضى عهده من زمان، والآن حانت ساعة الصلاة لقداس الأحد، نهاركم سعيد جميعا.»
ذهب المعترض تاركا في القوم حديثا عن سوريا والسوريين لا يلتئم، وكلما أراد أحدهم جمعه في نقطة يظهر غيره فيشعبه إلى جهات عديدة حتى ضاعت الطاسة بينهم، وبعد ساعتين تماما - أي قرب الظهر - كان الحديث قد انتقل منهم من معارف السوريين بالمقابلة بينها وبين معارف المهاجرين إلى مصر والمصريين والحكومة الإنكليزية وحادثة عرابي وشئون عديدة، والحديث كما يقولون شجون.
لا أزال أذكر ذلك الاجتماع الوطني، وقد مضى عليه أكثر من عشر سنوات في مدينة بعيدة عن نيويورك، وقد أوقعتني رحلاتي في تلك القهوة صبيحة أحد من الآحاد، فجلست إلى طاولة أمتص القهوة، وأسمع من بعيد حديث القوم لأقتل الوقت الفارغ، ولما لم أكن أعرف أحدا منهم جلست غير مشترك بالحديث أتسلى بما أسمع إلا أن تفرع الطرق التي سلكوها في أحاديثهم، قاد عيني إلى النعاس فصرت أكبو دقيقة ولما يطرق رأسي بالحائط أصحو، ثم يعود بي حديثهم إلى طرقة ثانية، وكثيرا ما هممت بالرحيل، ولكني لم أجد في قوة كافية على النهوض؛ وبالتالي كنت غريبا في تلك المدينة، وليس لي من مكان أذهب إليه إلا تلك القهوة والنزل الذي نزلت فيه؛ ولهذا وقعت إرادتي تحت كابوس النعاس فلبثت كمن في حلم مزعج، يشاهد أدوارا غريبة، فيقول في نفسه: قد أكون في حلم. فيجهد قريحته في معرفة ما إذا كان في حلم أم في يقظة.
وفيما أنا بمثل ما ذكرت من الحالات إذا بيد هزت كتفي، فانتبهت مذعورا، وإذا بصديق تعرفت عليه من سفرة ماضية، فقال لي: «أتنام في الصباح، اصح يا فلان، واخلط نفسك بين الإخوان فتتسلى، وتقصي عنك النعاس.»
अज्ञात पृष्ठ