وعرفت بعد مدة أن صاحبنا غني أمواله كما يقولون، فأم كندا، وهنالك زادت بلواه؛ لأن البلاد باردة جدا وهو ذو نحافة بدنه، ولم ير ما يشبع نفسه من المطامح ولا ما يريه اللقمة الأولى من تلك المطامح.
وقد أخبرني سوري كندي صادفته في نيويورك أنه يعرف حبيبا بحالة يرثى لها، وأن آخر ما عرفه عنه أن إنسانا حركته عوامل الشفقة عليه فنقده بعض ريالات ليعود إلى مدينة ذلك التاجر في إحدى مدن الداخلية.
وقلت في نفسي: سبحان الله! كيف أن الدهر يضغط على النفس البشرية فتكسر إرادتها وتقوم إرادته!
ومضى على هذا خمس سنوات لم أعد أسمع عنه شيئا خلالها، حتى طرحتني النوى مطارحها فرمتني في بلد التاجر المذكور آنفا، وهناك دخلت محله فشاهدت حبيبا وعلى وجهه كتب السقم سفرا طويلا، إلا أنه حسن الهندام جميل الملبس، فسلمت عليه وبدلا من أن أدعوه لمناولة العشاء معي سبقني وألح علي بالذهاب معه إلى مطعم في المدينة، فقبلت معه، وفي الميعاد المعين اجتمعت به فسألته عن حاله وماذا يعمل، ورجوت منه الإفاضة عن تاريخ حياته، ففتح فاه بالكلام، وأول ما قال لي كانت هذه العبارة بعد تنهد عميق: أنا حي دفين! - عجبا! تشكو وأراك أحسن حالا مما مضى! ألعلك تشكو ألما؟ - كلا، لا أشكو شيئا، لا الألم ولا العسر ولا شيئا من ذلك، وإن ما أشكوه فقداني ثمينا كان معي يوم عرفتني في أول الأمر. - أعذرني إذا كلمتك بعدم تكليف؛ فقد رأيت منك يوم عرفتك أنك خلو من كل ثمين، فالحاجة كانت سلطانة عليك. - كنت محتاجا، ولكن نفسي كانت حية، أما اليوم فأنا غني وقد حصلت على غناي كما ترى على ضريح نفسي، فأنا حي دفين. - لقد أعدت علي هذه العبارة «حي دفين»، فماذا تعني بها؟ - اعلم أني جئت إلى أميركا بشهادتي العلمية، فلم تساعدني على دهري، فلما صرفت كل ما كان معي من مال أبي اضطررت إلى الاشتغال للناس غصبا عن نفسي التي كانت تأبى، وقد حاولت قبلها أن أعمل كما يعمل أبناء بلادي الذين يشتغلون إما بالبيع وإما بالأجرة، فلم أجد من نفسي مقدرة على العمل، ولما كان الفكر يحدثني أن أرجع إلى بيت أبي كانت النفس تنازعه حياء من والدي اللذين تركتهما ولم يريا مني ما يحقق آمالهما بعدما أنهيت علومي، بالرغم من إلحاحهما علي بالبقاء تحت عنايتهما؛ توهما مني بأن أميركا مطمح أمثالي. فخابت آمالي، ولما غالبت النفس غلبتني فلذت إلى عزتها وأنا أضمر لها انتقاما هائلا، وهكذا عدت إلى هذه المدينة إلى محلي القديم، ولكي أتخلص من التحكم والفقر سايرت صاحب المحل فتزوجت من ابنته، وقتلت نفسي، فأنا اليوم كما تراني رب محل كبير ورب بيت ذي آثاث فخيم، ولي زوجة صالحة، ولكني لم أنظر إليها نظرة حب في حياتي. تراني اليوم أتمنى أن أعود إلى حالتي القديمة يوم كانت نفسي لا تزال في قيد الحياة.
مسكين حبيب الزيتوني، إنه في الحقيقة حي دفين!
زواننا لا قمحهم
لا يكاد الشاب تطأ قدمه أرض أميركا ويبدأ العمل في ميدانها الواسع، ولا يكاد يبسم له النجاح حتى يسير مع تيار النسيان لما كان عليه مغترا بحاضره.
يدخل الشاب السوري ميدان أميركا خائفا مذعورا أمام عظمة هذه البلاد وكثرة حركتها، ثم يتدرج فيها، حتى إذا تم له الانخلاط بين مجموع العناصر تصور أنه أصبح بعيدا عن حالته القديمة.
يقول المثل العربي: «من تعلم الألف والباء بلغ أنفه السماء.» وهو مثل ينطبق تمام الانطباق على كثير من الشبان السوريين، يتعلمون الألف من مدنية أميركا فيتوهمون أنهم صاروا من أساطينها، وأنهم في ما حصلوه منها لا يشق لهم غبار، ولو أن الدعوى تقتصر منهم على هذا الوهم لما أضرت كثيرا، ولكنها تحملهم إلى إنكار أصلهم أحيانا لتوهمهم أنه معيب عند القوم الأجانب.
هذه كانت حالة الشاب رفيق المدور بعدما دخل عراك أميركا التجاري، وصار قادرا على كسب معاشه فيها. كان في بلاده يلبس العباء والمداس، وإذا اشتاق إلى المدينة لبس الطربوش، ولكنه في أميركا كان يخيط ثيابه عند أحسن الخياطين، وكان لا يخلو صندوقه من أربعة طقوم في كل سنة، كل واحد بلون وزي، وكان يلبس لكل يوم قبة وربطة وجراباته تماثل ألوانها ألوان الربطة والقميص.
अज्ञात पृष्ठ