Last
تأليف لورود روزبري).
بعد أن كان بونابرت يسكن القصور الفخمة ويتقلب في الديباج ويتناول الطعام في أوان من الذهب الخالص، أمسى في مسكن حقير مملوء بالجرذان في غرفة ضيقة قبيحة المنظر، وكان هذا المقدام الذي جاب الأرض سيدا فاتحا يحرم الخروج من بيته دون رقابة الرقباء الأجلاف الأنذال أتباع هدسون لو، الذي كان يلذ له رؤية آلام البطل المغوار كما يلذ للذئب تعذيب الأسد، وهناك انتابته الأمراض والآلام، وقضى أيامه الأخيرة بحسرة لا يعادلها في العظم إلا مجده، ومات بعيدا عن وطنه وشعبه وولده الوحيد وأصدقائه الذين تركوه واحدا بعد الآخر.
إن في حياة البطل الذي يعده بعض المغالين من المؤرخين نصف إله لعبرة للورى، عبرة للصغار الذين يطلبون المجد كما كان يطلبه، فيلقون من العقبات في بداية الأمر ما يكاد يقلل من همتهم، عبرة للكبار الذين بلغوا أبعد من غايتهم فظنوا قوتهم خالدة وظنوا مجدهم باقيا حتى الأبد، عبرة لمن ليسوا من الفريقين وهم قراء التاريخ للاستفادة؛ فهم يجدون في تاريخ نابوليون أعجوبة الأعاجيب؛ لأنه لم يستطع خيال أحذق مؤلفي القصص الخيالية حشر مثل الغرائب التي حشرها القضاء بيده في تاريخ بونابرت العجيب.
يقال إن عظماء الرجال ثمرة عصورهم، وأنهم يولدون أنى دعت إليهم الحاجة، وأنهم أبناء المصادفات تخلقهم الأحوال المحيطة بهم. ويقول البعض إنهم هم يخلقون الأحوال ويهيئون الوسط الذي ينشئون فيه، وأتباع كل مذهب من هذين المذهبين يؤيدونه بأمثال يضربونها، وحقيقة الأمر أن المذهبين صحيحان، يجوز تطبيقهما في أحوال شتى.
فمن العظماء رجال هم ثمرة عصرهم يولدون لما تدعو إليهم الحاجة، ومن هذا القبيل رجال الإصلاح الديني والاجتماعي، فإن هؤلاء المصلحين تسبقهم الحاجة إلى الإصلاح والدعوة، ومن يقرأ تراجم موسى وعيسى ومحمد - عليهم السلام - ولوثيروس وإزبخويل وبطرس الأكبر، يستبين صحة هذا القول، فإن هؤلاء الرجال يولدون في بيئة متشبعة بالحاجة الماسة للإصلاح فينشئون وهم يشعرون في الجو المحيط بهم بضرورة جلائل الأعمال التي يوفقون لقضائها. ولا ريب في أن قارئ تاريخ هؤلاء العظماء يفطن للوهلة الأولى إلى أمر يشتركون فيه جميعا، وهو أنهم يقضون شطرا وافرا من أعمارهم قبل إظهار الدعوة التي يقفون أعمارهم عليها بعد، وقد يفقدون تلك الأعمار في سبيلها.
بيد أن هذا لا يقلل من قدر الرسالة أو النبوة؛ لأنه قد يجمع الرجل بين الخلتين، فيكون مصلحا ويكون نبيا، وبيان ذلك أن موهبة الإصلاح واستعداد الرجل إليه مستقلة تمام الاستقلال عن وظيفته المقدسة الربانية، فإن الرسول يقوم بعمل واحد وهو تأدية الرسالة الإلهية، وهو بشير ونذير، والنبي كذلك يتنبأ بما سوف يقع لشعبه، فيحاول هديهم لينجيهم مما يقعون فيه لو خالفوا نصحه وهديه. وكلاهما (النبي والرسول) ينسب دعوته إلى الإرادة الربانية، فهما أداة في يد العناية لتبليغ أمم الأرض إرادتها لكون الله - جل وعلا - أرفع من أن يشافه الناس، حتى إنه يأتي بالمعجزات الباهرة على أيدي هؤلاء الرسل لتذهب بظنون الكافرين والجاحدين والمرتابين.
أما المصلح فهو الرجل الذي يدعو إلى الإصلاح بصفته الذاتية دون الاستعانة بصفة الرسالة أو النبوة، وليست غايته تبليغ بشرى أو إنذار أو ذكر نبأ عظيم، إنما غايته إصلاح أمر من الأمور التي يراها فاسدة؛ اجتماعية كانت أو دينية، بمجهوداته الشخصية، وهو لا يكتفي بالتنبيه للخطأ أو للشر إنما يمتاز بالتفاني في العمل في سبيل الإصلاح، معرضا في ذلك منافعه وحياته، وهو مشترك في ذلك مع الأنبياء والرسل وأولياء الله؛ لأن كثيرين منهم استهدفوا لانتقام الشعوب الكافرة، ولقوا منها التعذيب والتنكيل والقتل، ولكن - كما ذكرنا في أول الأمر - كل من النبي والمصلح قائم بذاته وصفاته علما على عمل معلوم، ولا يجوز الخلط بين عمليهما.
ولا يلزم عما تقدم أن يكون المصلح الذي يقوم بعمل أرضي إنساني لا حاجة فيه إلى إقناع البشر بقوة خارقة للطبيعة (كمن يشير على أمة شرقية بتهذيب المرأة وتقريبها جهد المستطاع في الفكر والتربية من الرجل) محتاجا لتعضيد العالم في عمله، وبعبارة أخرى مثل هذا المصلح لا يحتاج لإحياء الموتى أو برء الأجرب أو استنطاق الناقة، ليثبت للملأ ضرورة هذا الإصلاح؛ لأن كل فرد من الأمم الشرقية التي لا تزال متأخرة يشعر في نفسه إذا كان وصل إلى درجة معلومة من التهذيب بضرورة هذا الإصلاح ليكون سعيدا في بيته وأسرته. ولكن الذي يريد أن يقنع أمة وثنية بوجود إله واحد فقط دون ألف إله، وبقدرة هذا الإله الفرد على كل شيء، وبإعداد الجنة للمحسن والنار للمسيء، هذا الرجل الذي يدعو إلى مثل هذه الدعوة محتاج لإظهار أمور خارقة للعادة ليقنع البشر البله الكافرين الذين يصعب إقناعهم بالقول بأن هناك إلها قديرا، وأن هذا الإله القادر قد منح هذا النبي قسطا من قوته ليبلغ غايته من النبوة.
جئت بهذا لأثبت حاجة النبي لقوة خارقة واستغناء المصلح عنها. ولكن النبي لا يستطيع الأخذ بأعنة رسالته أخذا حقيقيا منتجا، إلا إذا كان يجمع إلى الرسالة صفات المصلح. على أن لدينا أمثلة شتى من الأنبياء الذين جمعوا بين النبوة والإصلاح، والأنبياء الذين تحلوا بالنبوة دون سواها، فمن الفريق الأول النبي العربي عليه الصلاة والتحية، ومن الفريق الثاني نوح طاب ثراه. فمحمد أقام أمة أسست دولا وأمما وشعوبا، والثاني اكتفى بتغريق قومه، ثم أنقذ نفسه وفي صحبته عدد عظيم من الوحوش والحيوانات الداجنة والطيور الأنيسة التي آمنت به. وأظن أن إنقاذ إنسان مهما كان كافرا، أفضل وأنفع من إنقاذ حدائق حيوانات الأرض بأسرها.
अज्ञात पृष्ठ