हिदा
الحيدة والاعتذار
अन्वेषक
علي بن محمد بن ناصر الفقهي
प्रकाशक
مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية
संस्करण संख्या
الثانية، 1423هـ/2002م
शैलियों
بسم الله الرحمن الرحيم
وعلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (3/أ)
ذكر ما جرى بين عبد العزيز بن يحيى رحمه الله وبين بشر المريسي
قرأت على أبي عمر أحمد بن خالد في ربيع الآخر عام اثنين وخمسين وثلاثمائة، حدثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن عبد الله بن السماك قال ثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن أزهر بن حسين القطايعي، قال: حدثني أبو عبد الله العباس ابن محمد بن فرقد، قال: حدثني أبي محمد بن فرقد بهذا الكتاب من أوله إلى آخره، قال: قال عبد العزيز بن مسلم الكناني1:
اتصل بي وأنا بمكة ما قد أظهره بشر بن غياث المريسي ببغداد من القول بخلق القرآن، ودعائه الناس إلى موافقته على قوله ومذهبه وتشبيهه على أمير المؤمنين المأمون وعامة الناس وما قد دفع الناس إليه من المحنة، والأخذ في الدخول في هذا الكفر2 والضلالة، ورهبة الناس وفزعهم من مناظرته، وإحجامهم عن الرد عليه بما يكسرون به قوله، ويدحضون به حجته ويبطلون به مذهبه، واستتار المؤمنين في بيوتهم وانقطاعهم عن الجمعات والجماعات، وهريهم من بلد إلى بلد، خوفا على أنفسهم وأديانهم، وكثرة موافقة الجهال والرعاع من الناس لبشر على مذهبه وكفره وضلالته، والدخول في بدعته، والانتحال لمذهبه، رغبة في الدنيا ورهبة من العقاب الذي كان يعاقب به من خالفه على مذهبه.
قال عبد العزيز بن يحي: فأزعجني ذلك وأقلقني وأسهر ليلي وأطال غمي
पृष्ठ 21
وهمي فخرجت من بلدي متوجها إلى ربي عزوجل أسأله سلامتي وتبليغي، حتى قدمت بغداد فشاهدت من غلظ الأمر واحتداده أضعاف ما كان يصل إلي، ففزعت إلى ربي أدعوه وأتضرع إليه راغبا وراهبا، واضعا له خدي، وباسطا إليه يدي، أسأله إرشادي وتسديدي، وتوفيقي ومعونتي، والأخذ بيدي وأن لا يسلمني ولا يكلني إلى نفسي، وأن يفتح لفهم كتابه قلبي، وأن يطلق لشرح بيانه لساني، وأخلصت لله عزوجل نيتي ووهبت له نفسي، فعجل تبارك وتعالى إجابتي، وثبت عزمي، وشجع وفتح لفهم كتابه قلبي، وأطلق به لساني، وشرح به صدري، فأبصرت رشدي بتوفيقه إياي، وأنست إلى معونته ونصره وتأييده ولم أسكن إلى مشاورة أحد من خلق الله في أمري، وجعلت أستر أمري وأخفي خبري عن الناس جميعا ((خوفا)) من أن يشيع خبري، ويعلم بمكاني، فأقتل قبل أن تسمع كلامي، فأجمع رأي على إظهار نفسي وإشهار قولي ومذهبي على رؤوس الخلائق والأشهاد، والقول بمخالفة أهل الكفر والضلال والردة عليهم وذكر كفرهم وتبيين ضلالتهم، وأن يكون ذلك في مسجد الجامع في يوم الجمعة، وأيقنت أنهم لا يحدثوا علي حادثة، ولا يعجلون علي بقتل وغيره من العقوبة بعد إشهاري نفسي، والنداء بمخالفتهم على رؤوس الخلائق إلا بعد مناظرتي والاستماع مني. (وكان ذلك كله بتوفيق الله عز وجل لي، ومعونته إياي) .
قال عبد العزيز بن يحي: "وكان الناس في ذلك الزمان وذلك الوقت في أمر عظيم، قد منع الفقهاء والمحدثون والمذكرون والداعون من القعود في الجامعين ببغداد وفي غير هما من سائر المواضع، إلا بشر المريسي وابن الجهم، ومن كان موافقا لهما على مذهبهما، فإنهم كانوا يقعدون يعني (الجهم بن صفوان الذي به تعرف الجهمية،1 يجتمع الناس إليهم فيعلمونهم الكفر والضلال، وكل من
पृष्ठ 22
أظهر مخالفتهم، وذم مذهبهم، أو اتهم بذلك أحضر، فإن وافقهم ودخل في كفرهم، وأجابهم إلى ما يدعونه إليه وإلا قتلوه سرا، وحملوه من بلد إلى بلد، فكم من قتيل لم تعلم به، وكم فين مضروب قد ظهر أمره وكم ممن قد أجابهم واتبعهم على قولهم من العلماء خوفا على أنفسهم لما عرضوا على السيف والقتل أجابوا كرها، وفارقوا الحق عيانا، وهم يعلمون لما حذروا، من بأسهم والوقوع بهم.
قال عبد العزيز: فلما كان في الجمعة التي اعتزمت فيها على إظهار نفسي، وإشهار قولي، واعتقادي، صليت الجمعة بالمسجد الجامع بالرصافة من الجانب الشرقي بحيال القبلة والمنبر بأول صف من صفوف العامة، فلما سلم الإمام من صلاة الجمعة، وثبت قائما على رجلي ليراني الناس وسمعوا كلامي، ولا تخفى عليهم مقالتي، وناديت بأعلى صوتي لابني، وكنت قد أقمت ابني بحيالي عند الاسطوانة الأخرى ، فقلت له: يا ابني ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله غير مخلوق"..
قال عبد العزيز: "فلما سمع الناس كلامي، ومسألتي لابني وجوابه إياي، هربوا على وجوههم خارجين من المسجد إلا يسير من الناس خوفا على أنفسهم، وذلك أنهم سمعوا ما لم يكونوا يستمعون، وظهر لهم ما كانوا يخفون ويكتمون، فلم يستتم ابني الجواب حتى أتاني أصحاب السلطان، واحتملوني وابني فأوقفوني بين يدي عمرو بن مسعدة1 وكان قد جاء ليصلي الجمعة، فلما نظر إلى وجهي، وكان قد سمع كلامي ومسألتي لابني، وجواب ابني إياي، فلم يحتج أن يسألني عن كلامي، فقال لي: أمجنون أنت؟ قلت،: لا. قال: فموسوس أنت؟ قلت: لا. قال: أفمعتوه أنت؟ قلت: لا. إني لصحيح العقل جيد الفهم ثابت المعرفة والحمد لله كثيرا. قال: فمظلوم أنت؟ قلت: لا. فقال لأصحابه ورجاله: مروا بهما إلى منزلي".
قال عبد العزيز: "فحملنا على أيد الرجال حتى أخرجنا من المسجد ثم جعلوا يتعادون بنا سحبا شديدا وأيدينا في أيد الرجال يمنة ويسرة، وسائر أصحابه خلفنا وقدامنا، حتى صرنا إلى منزل عمرو بن مسعدة على تلك الحال
पृष्ठ 23
العنيفة الغليظة، فوقفنا على بابه حتى دخل، وأمر بنا فأدخلنا عليه وهو جالس في صحن داره على كرسي حديد، ووسادة عليه، فلما صرنا بين يديه، أقبل في فقال: من أين أنت؟ قلت: من أهل مكة، فقال: ما حملك على ما فعلت بنفسك"؟ قلت: "طلب القربة إلى الله عز وجل وطلب الزلفة لديه". قال: "فهلا فعلت ذلك سرا من غير نداء ولا إظهار لمخالفة أمير المؤمنين، أطال الله بقاه. ولكنك أردت الشهرة والرياء والتسوق لتأخذ أموال الناس. فقلت: ما أردت من هذا شيئا، ولا أردت إلا الوصول إلى أمير المؤمنين والمناظرة بين يديه لا غير ذلك. فقال: أو تفعل ذلك؟ قلت: نعم. ولذلك قصدت وبلغت بنفسي ما ترى بعد خروجي من بلدي وتغريري بنفسي مع سلوكي البراري أنا وولدي، رجاء تأدية حق الله عز وجل فيما استودعني من الفهم والعلم وما أخذ علي وعلى العلماء من البيان". فقال: "إن كنت إنما جعلت هذا سببا لغيره إذا وصلت إلى أمير المؤمنين فقد حل دمك بمخالفتك أمير المؤمنين". فقلت له: "إن تكلمت في شيء غير هذا، أو جعلت هذا ذريعة إلى غيره فدمي حلال لأمر المؤمنين".
قال عبد العزيز: "فوثب عمرو قائما على رجليه، وقال: أخرجوه بين يدي إلى أمير المؤمنين. قال: فأخرجت، وركب من الجانب الغربي وأنا بين يديه وولدي يعدي بنا على وجوهنا، وأيدينا في أيدي الرجال حتى صار إلى أمير المؤمنين من الجانب الشرقي، فدخل وأنا في. الدهليز قائم على رجلي، فأطال عند أمير المؤمنين، ثم خرج فقعد في حجرة له، وأمر بي فأدخلت عليه، فقال لي: قد أخبرت أمير المؤمنين أطال الله بقاه بخبرك وما فعلت، وما قلت وما سألت من الجمع بينك وبين مخالفيك من المناظرة بين يديه، وقد أمر أطال الله بقاه، بإجابتك إلى ما سألت وجمع المناظرين عن هذه المقالة إلى مجلسه أعلاه الله في يوم الاثنين الآتي وتحضر معهم ليناظروا بين يديه أيده الله ويكون هو الحاكم بينكم.
قال عبد العزيز: فأكثرت حمد الله على ذلك وشكرته وأظهرت الشكر والدعاء لأمير المؤمنين، فقال لي عمرو بن مسعدة: أعطنا كفيلا بنفسك حتى تحضر معهم يوم الاثنين وليس بنا حاجة إلى حبسك".
فقلت له: "أعزك الله أنا رجل غريب ولست أعرف في هذا البلد أحدا ولا يعرفني من أهله أحد، فمن أين لي من يكفلني، وخاصة مع إظهار مقالتي
पृष्ठ 24
لو كان الخلق يعرفوني لتبرؤا مني، وهربوا من قربي وأنكروا معرفتي، قال: فنوكل بك من يكون معك حتى يحضرك في ذلك اليوم، وتنصرف فتصلح من شأنك وتفكر في أمرك فلعلك أن ترجع عن غيك وتتوب من فعلك فيصفح أمير المؤمنين عن جرمك، فقلت ذلك إليك أعزك الله فافعل ما رأيت".
قال عبد العزيز: "فوكل بي من يكون معي في منزلي وانصرفت".
قال عبد العزيز: "فلما كان يوم الاثنين، صليت الغداة في مسجدي الذي كان على باب منزلي، فلما فرغت من الصلاة إذ بخليفة عمرو بن مسعدة قد جاء ومعه خلق كثير من الفرسان والرجال فحملوني مكرما على دابة حتى صاروا بي على باب أمير المؤمنين فأوقفوني حتى جاء عمرو بن مسعدة فدخل فجلس في حجرته التي كان يجلس فيها، ثم أذن لي بالدخول عليه فدخلت.. فلما صرت بين يديه أجلسني" ثم قال لي: "أنت مقيم على ما كنت عليه"، أو قد رجعت عنه، فقلت: "بل مقيم على ما كنت وقد ازددت بتوفيق الله إياي بصيرة في أمري"، فقال لي عمرو: "أيها الرجل قد حملت نفسك على أمر عظيم وبلغت الغاية في مكروهها وتعرضت لما لا قوام لك به، من مخالفة أمير المؤمنين أطال الله بقاه، وادعيت ما لا يثبت لك به حجة على مخالفيك ولا لأحد غيرك، وليس وراءك بعد الحجة عليك إلا السيف، فانظر لنفسك وبادر أمرك قبل أن تقع المناظرة، وتظهر عليك الحجة، فلا تنفعك الندامة، ولا تقبل لك معذرة، ولا تقال لك عثرة، فقد رحمتك وأشفقت عليك مما هو نازل بك، وأنا استقبل أمير المؤمنين أطال الله بقاه وأسأله الصفح عن جرمك وعظيم ما كان منك، إن أظهرت الرجوع عنه، والندم على ما كان منك، وآخذ لك الأمان منه أيده الله والجائزة، وإن كانت لك ظلامة أزلتها عنك، وإن كانت لك حاجة قضيتها لك، فإنما جلست رحمة لك مما هو نازل بك بعد ساعة إن أقمت على ما أنت عليه، ورجوت أن يخلصك الله على يدي من عظيم ما أوقعت بنفسك فيه"، فقلت له: "ما ندمت أعزك الله ولا رجعت، ولا خرجت عن بلدي، وغررت بنفسي إلا في طلب هذا اليوم، وهذا المجلس رجاء أن يبلغني الله ما أؤمل من إقامة الحق فيه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل".
पृष्ठ 25
قال محمد بن الحسن1 سمعت أبا عبد الله2 يقول: قال لي أبي3 جاء عبد العزيز إلى أبي عبد الله أحمد بن حنبل رضي الله عنه وهو في الحبس فقال: "إن هذا الأمر الذي أنت فيه ليس تطيقه على دقته، فاذكرني فبعث إليه أبو عبد الله أنا قد وقعت، وأخاف أن أذكرك فأشيط بدمك، فيكون قتلك على يدي، فأقتل أنا أحب إلي، فانصرف بسلام".
قال عبد العزيز: "فقام عمرو بن مسعدة على رجليه، وقال: "قد حرصت في كلامك جهدي، وأنت حريص مجتهد في سفك دمك وقتل نفسك، فقلت له: معونة الله أعظم، والله عزوجل ألطف من أن يسلمني ويكلني إلى نفسي، وعدل أمير المؤمنين أطال الله بقاه أوسع من أن يقصر عني، وأنا أقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
قال عبد العزيز: "وأمر بي فأخرجت إلى الدهليز الأول، ومعي جماعة موكلون بي، وكان قد تقدم إلى سائر بني هاشم ممن يحضر مجلس أمير المؤمنين أطال الله بقاه، أن يركبوا ووجه إلى الفقهاء والقضاة والموافقين لهم على مذهبهم. وسائر المتكلمين، والمناظرين أن يحضروا دار أمير المؤمنين، فأمر القواد والأمراء أن يركبوا في السلاح كل ذلك ليرهبوني بهم. ومنع الناس من الانصراف إلى أن ينقضي المجلس، فلما اجتمع الناس وتأهبوا ولم يتخلف منهم أحد ممن يعرفون بالكلام والجدال، أذن لي في الدخول، فلم أزل أنقل من دهليز إلى دهليز حتى صرت إلى الحاجب "صاحب " الستر الذي على باب الصحن، فلما رآني أمربي فأدخلت إلى حجرته، ودخل معي فقال لي: إن احتجت إلى أن تجدد طهرا فافعل، فقلت: لا حاجة لي بذلك، فقال: صل ركعتين قبل دخولك، فصليت أربع ركعات ودعوت الله وتضرعت إليه، فلما فرغت، أمر من كان بحجرته فخرج من الحجرة، ثم تقدم إلي فقال لي وهو يسارني: يا هذا إن أمير المؤمنين بشر مثلك رجل من ولد
पृष्ठ 26
آدم، وكذلك كل من يناظرك بحضرته فهو بشر مثلك، فلا تتهيبهم، واجمع فهمك وعقلك لمناظرتهم، وإياك والجزع، واعلم علما يقينا أنه إن ظهرت حجتك عليهم انكسروا وانقطع كلامهم عنك، وأذللتهم وغلبتهم ولم يقدروا على ضر ولا مكروه وصار أمير المؤمنين أطال الله بقاه وسائر الأولياء والرعية معك عليهم، وإن ظهرت حجتهم عليك أذلوك وقتلوك وأشهروك وجعلوك للخلق عبرة ، فاجمع همتك ومعرفتك ولا تدع شيئا مما تحسنة وتحتاج إليه أن تتكلم به خوفا من أمير المؤمنين أو من أحد غيره وتوكل على الله واستخر الله، وقم فادخل".
فقلت له: "جزاك الله خيرا فقد أديت النصيحة وسكنت الروعة وآنست الوحشة، وخرج، وخرجت معه إلى باب الصحن".
قال عبد العزيز: "فشال الستر، وأخذ الرجال بيدي وعضدي وجعل أقوام يتعادون بي، وأيديهم في ظهري وعلى عنقي، فجعلت أسمع أمير المؤمنين وهو يقول: خلو عنه خلو عنه، وكثر الضجيج من الحجاب والأولياء بمثل ذلك، فخلي عني وقد كاد عقلي أن يتغير من شدة الجزع وعظيم ما رأيت في ذلك الصحن من السلاح والرجال، وقد انبسطت الشمس عليهم، وملأ الصحن صفوفا، وكنت قليل الخبرة بدار أمير المؤمنين، ما رأيتها قبل ذلك ولا دخلتها، فلما صرت على باب الإيوان، وقفت هناك فسمعته يقول: قربوه قربوه، فلما دخلت من باب الإيوان وقعت عيني عليه، وقبل ذلك لم أتبينه لما كان على باب الإيوان من الحجاب والقواد، فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: أدن مني، فدنوت منه، ثم قال: أدن مني زاده تكرارا، وأنا أدنو منه خطوة خطوة، حتى صرت في الموضع الذي يجلس فيه المناظرون، ويسمع كلامهم، والحاجب معي يقدمني، فلما انتهيت إلى الموضع. قال لي المأمون: اجلس فجلست".
قال عيد العزيز: "فسمعت رجلا من جلسائه يقول وقد دخلت من الإيوان":
يا أمير المؤمنين يكفيك من كلام هذا قبح وجهه، لا والله ما أريت خلق الله قط أقبح وجها منه، فسمعته يقول هذا وفهمت كلامه كله ورأيت شخصه على ما بي من الروعة والجزع والخوف، وجعل ينظر إلي وأنا أرتعد وأنتفض، فأحب أن
पृष्ठ 27
يؤنسني وأن يسكن عني ما قد لحقني وأن ينشطني، فجعل يكثر كلام جلسائه ويكلم خليفته عمرو بن مسعدة، ويتكلم بأشياء كثيرة مما لا يحتاج أن يتكلم بها يريد بذلك كله إيناسي، وجعل يطيل النظر إلى الإيوان، ويدير طرفه فيه، فوقعت عينه على موضع من نقش الجص قد انتفخ، فقال : يا عمرو أما ترى هذا الذي قد انتفخ من هذا النقش، وسيقع فبادره في يومنا هذا، فقال عمرو: قطع الله يد صانعه، فإنه قد استحق العقوبة على عمله هذا.
قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون فقال لي: "الاسم"، فقلت: "عبد العزيز". فقال لي: "ابن من"؟ فقلت: "ابن يحي"قال: "ابن من"؟ قلت: "ابن عبد العزيز"، قال لي: "ابن من"؟ قلت: "ابن مسلم." قال: "ابن من"؟ قلت: "ابن ميمون الكناني". قال: "وأنت من كنانة". قلت: "نعم،" يا أمير المؤمنين، فتركني ولم يكلمني هنيهة، ثم أقبل علي فقال: "من أين الرجل"، قلت: "من الحجاز"، قال: "من أي الحجاز"، قلت: "من مكة"، قال: "ومن تعرف من أهلهاط، قلت: "يا أمير المؤمنين كل من بها من أهلها أعرفه إلا رجلا ضوى إليها وجاور بها من الغرباء فإني لا أعرفه، قال: فهل تعرف فلانا، هل تعرف فلانا حتى عد جماعة من بني هاشم كلهم أعرفهم حق معرفتهم، فجعلت أقول: نعم أعرفه، وسألني عن أولادهم وأنسابهم فأخبره من غير حاجة به إلى شيء من ذلك، ولا مما تقدم من مسألتي وإنما يريد به إيناسي وبسطي للكلام، وتسكين روعتي وجزعي، فذهب عني ما كان لحقني من الجزع، وجاءت المعونة من الله عزوجل، فقوى بها ظهري، واشتد بها قلبي، واجتمع بها فهمني، وعلا بها جدي، وانشرح بها صدري، وانطلق بها لساني، ورجوت بها النصر على عدوي".
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: "يا عبد العزيز إنه اتصل بي ما كان منك في قيامك في المسجد الجامع، وقولك إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وبحضرة الخلق على رؤوس الأشهاد، ومسألتك بعد ذلك الجمع بينك وبين مناظريك على هذه المقالة بحضرتي وفي مجلسي، والاستماع منك ومنهم، وقد جمعتك والمخالفين لك لتتناظروا بين يدي وأكون آنا الحكم فيما بينكم فإن تكن لك الحجة والحق معك تبعناك، وإن تكن لهم الحجة عليك والحق معهم عاقبناك. ثم أقبل المأمون على بشر المريسي" فقال: "يا بشر قم إلى عبد العزيز نناظره وأنصفه ".
पृष्ठ 28
قال عبد العزيز: "فوثب إلي بشر من موضعه الذي كان فيه كالأسد يثب إلى فريسته، فجاء فانحط علي، فوضع فخذه الأيسر على فخذي الأيمن، فكاد أن يحطمها، واعتمد علي بقوته كلها. فقلت له: مهلا فإن أمير المؤمنين أطال الله بقاه لم يأمرك بقتلي ولا بظلمي، وإنما أمرك بمناظرتي وإنصافي، فصاح به المأمون تنح عنه، وكرر ذلك عليه حتى باعده مني".
قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون فقال: يا عبد العزيز ناظره على ما تريد واحتج عليه، ويحتج عليك، وسله ويسألك، وتناصفا في كلامكما، وتحفظا ألفاظكما، فإني مستمع إليكما ويحفظ ألفاظكما".
قال عبد العزيز: "فقلت السمع والطاعة يا أمير المؤمنين، ولكني أقول شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أبقاه الله تعالى أن يأذن لي في ذلك فعلت. فقال: قل ما تريد. فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إني رجل عربي، وفي كلامي دقة، ولم يسمع أمير المؤمنين أطال الله بقاه من كلامي شيئا قبل هذا الوقت، فجليل كلامي في سمع أمير المؤمنين دقيق، وبشر يا أمير المؤمنين كثير سماع أمير المؤمنين دقيق كلامه، فصار في سمع أمير المؤمنين جليلا، فإن رأى أمير المؤمنين أطال الله بقاه أن يأذن لي فأقدم شيئا من كلامي في هذا المجلس ليقيس ما يدق بعده من كلامي على ما تقدم، ويعرف مذهبي في كلامي، ثم يجمعني ومن أحب لمناظرتي بعد هذا في أي وقت شاء".
قال المأمون: "أنا مشغول عن هذا بما يلزمني من أمر المسلمين، وإنما جمعتك ومخالفيك لما أظهرت من مخالفتك إياهم وذمك لمذهبهم، وادعائك الرد عليهم، ومسألتك الجمع "بينك " وبينهم ولست أجمعك وإياهم بعد هذا المجلس إلا عن مناظرة تجري بينك وبينهم فتحتاجون إلى عودة لاستمام ما بقي عليكما من المناظرة فأجمعكما لذلك".
قال عبد العزيز: "فقلت في نفسي، هذا الذي سألت الله عز وجل أن يبلغنيه وعاهدته لأن بلغني لأقومن بحقه ولأذبن عن دينه بما يلهمني بتوفيقه صابرا محتسبا وإن عرضت على السيف والقتل حتى إذا بلغني الله ما أملته وأعطاني ما سألته، وأيدني بالمعونة، وكفاني المؤونة وعطف قلوب عباده علي، وصرف عتي ما كنت أحاذر من سوء بادرة تكون قبل قيامي بحق الله تعالى، أأنقض عهده، وأخلف
पृष्ठ 29
وعده، وأكفر نعمه، فيسخط علي ويخذلني ويكلني إلى نفسي، والله والله لا فعلت ولو تلفت نفسي".
قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنة إني لم أتهيب المناظرة ولم أعجز عنها، وإنما أحببت أن أقدم في هذا المجلس شيئا من كلامي ليقف من بحضرة أمير المؤمنين أطال الله بقاه ومن في مجلسه على معنى كلامي ودقته فلا يخفى عليهم بعض ما يجري بيننا".
قال: فقال أمير المؤمنين المأمون لبشر: "ناظر صاحبك على ما تريد".
قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك إن رأيت أن تأذن لي أن أتكلم بشيء قد شغل قلبي قبل مناظرتي لبشر. فقال لي: تكلم بما شئت فقد أذنت لك".
فقلت: "أسألك بالله يا أمير المؤمنين من بلغك إنه كان أجمل ولد آدم صلى الله عليه وسلم. فأطرق مليا، ثم رفع رأسه" فقال: "يوسف عليه السلام". فقلت: "صدقت يا أمير المؤمنين- فوالله ما أعطي يوسف على حسن وجهه بعرتين، ولقد سجن وضيق عليه من أجل حسن وجهه بعد أن وقف على براءته بالشاهد الذي أنطقه الله عز وجل بتصديقه وبيان قوله وبعد إقرار امرأة العزيز إنها هي راودته عن نفسه فاستعصم فحبس بعد ذلك كله لحسن وجهه، قال الله تعالى: {ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين} 1 فدل بقوله عز وجل إنه سجن بغير ذنب لعلة حسن وجهه وليغيبوه عنها وعن غيرها، فطال في السجن حبسه حتى إذا عثر الرؤيا ووقف الملك على علمه ومعرفته اشتاق إليه، ورغب في صحبته فقال عز وجل: {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} 2 فكان هذا القول من الملك عندما وقف عليه من علم يوسف ومعرفته قبل أن يسمع كلامه، فلما دخل عليه وسمع كلامه وحسن عبارته صيره على خافي خزائن الأرض، وفوض إليه
पृष्ठ 30
الأمور كلها وتبرأ منها وصار كأنه من تحت يده، فكان هذا الذي بلغه يوسف عليه السلام بكلامه وعلمه لا بجماله، قال عز وجل: {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين، قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم} 1 ولم يقل إني حسن جميل، قال الله عز وجل: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء} 2 فوالله يا أمير المؤمنين ما أبالي إن وجهي أقبح مما هو، وإني أحسن من الفهم والعلم أكثر مما أحسن".
قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون وأي شيء أردت بهذا القول، وما الذي دعاك إلى ذكر هذا؟ فقلت سمعت بعض من هاهنا يقول لأمير المؤمنين: يفيك من كلامه قبح وجهه، فما يضرني قبح وجهي مع ما رزقني الله عزوجل من فهم كتابه، والعلم بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه، ثم قلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك فقد رأيتك تنظر إلى هذا النقش وانتفاخ الجص وتذكره، وسمعت عمرا يعيب ذلك ويدعو على صانعه، ولا يعيب الجص، ولا يدعو عليه، فقال المأمون: العيب لا يقع على الشيء المصنوع، وإنما يقع العيب على الصانع. قال: قلت: صدقت يا أمير المؤمنين، ولكن هذا يعيب ربي لم خلقني قبيحا فازداد تبسما حتى ظهرت (ثناياه) ".
قال عبد العزيز: "فأقبل علي المأمون" وقال: يا عبد العزيز: "ناظر صاحبك فقد طال المجلس بغير مناظرة"، فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، كل متناظرين على غير أصل يكون بينهما يرجعان إليه إذا اختلفا في شيء من الفروع، فهما كالسائر على غير الطريق، لا يعرف الحجة فيتبعها ويسلكها وهو لا يعرف الموضع الذي يريد فيقصده، ولا يدري من أين جاء فيرجع يطلب الطريق فهو على ضلال أبدا.
ولكننا نؤصل بيننا أصلا، فإذا اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى الأصل، فإن وجدناه فيه وإلا رمينا به ولم نلتفت إليه".
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون: "نعم ما قلت، فاذكر الأصل الذي تريد أن يكود بينكما، ويذكر أيضا هو مثله حتى تتفقا على الأصل فتؤصلاه بينكما".
पृष्ठ 31
قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك: أو أصل بيني وبينه ما أمرنا الله به واختاره لنا وأدبنا به وعلمنا ودلنا عليه عند التنازع والاختلاف، ولم يكلنا إلى أنفسنا ولا إلى اختيارنا".
فقال المأمون: "وذلك موجود عن الله عز وجل"؟ قلت: "نعم يا أمير المؤمنين قال الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} 1
وهذا تعليم الله عز وجل وتأديبه واختياره لعباده المؤمنين وهو خير وأحسن ما أصله المتنازعون بينهم، وقد تنازعت أنا وبشر يا أمير المؤمنين فنحن نؤصل بيننا كتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم كما أمرنا فإن اختلفنا في شيء من الفروع رددناه إلى كتاب الله عز وجل، فإن وجدناه فيه وإلا رددناه إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم فإن وجدناه فيها وإلا ضربنا به الحائط ولم نلتفت إليه".
فقال بشر: "وأين أمرنا الله أن نرد ما اختلفنا فيه إلى كتاب الله وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم" قلت: "كأنك لم تسمع ما جرى وما ابتدأت به، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} 2. قال بشر: "فإنما أمر الله أن يرد إليه وإلى الرسول، ولم يأمرنا أن نرده إلى كتابه العزيز وإلى سنة نبيه عليه السلام".
قال عبد العزيز: "هذا مالا خلاف فيه بين المؤمنين وأهل العلم إن رددناه إلى الله فهو إلى كتاب الله، وإن رددناه إلى رسوله بعد وفاته رددناه إلى سنته، وإنما يشك في هذا الملحد لأن، وقد روى هذا بهذا اللفظ عن ابن عباس3 وعن جماعة من الأئمة4 الذين اخذ العلم عنهم رحمة الله عليهم".
قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون: فافعلا وأصلا بينكما يا عبد العزيز أصلا واتفقا عليه وأنا الشاهد بينكما إن شاء الله تعالى".
पृष्ठ 32
قال عبد العزيز. فقلت يا أمير المؤمنين: "إنه من الحد في كتاب الله عز وجل جاحدا أو زائدا لم يناظر بالتأويل، ولا بالتفسير، ولا بالحديث".
فقال المأمون: "وبأي شيء تناظره"، قلت: "بنص التنزيل كما قال الله عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} 1 وقال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} 2 وقال حين ادعت اليهود تحريم أشياء لم تحرم عليهم: {قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين} 3 وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} 4.
فإنما أمر الله نبيه بالتلاوة، ولم يأمره بالتأويل، وإنما يكون التأويل لمن أقر بالتنزيل، وأما من الحد في التنزيل فكيف يناظر بتأويله. فقال لي المأمون: ويخالفك في التنزيل؟ قلت: نعم ليخالفني، أو ليدع قوله ومذهبه ويوافقني".
قال عبد العزيز: "ثم أقبلت على بشر فقلت: يا بشر ما حجتك إن القرآن مخلوق، وانظر إلى أحذ سهم في كنانتك فارمني به، ولا تحتاج إلى معاودتي بغيره. فقال: تقول القرآن شيء أم غير شيء، فإن قلت إنه شيء أقررت إنه مخلوق إذ كانت الأشياء مخلوقة بنص التنزيل، وإن قلت إنه ليس بشيء فقد كفرت لأنك تزعم أنه حجة الله على خلقه وإن حجة الله ليس بشيء".
قال عبد العزيز: "فقلت لبشر ما رأيت أعجب من هذا تسألني وتجيب نفسك عني وتكفرني ولم تسمع كلامي ولا قولي فإن كنت سألت لأجيبنك، فاسمع مني فإني أحسسن أن أجيب عن نفسي وأحتج عن مقالتي ومذهبي، وإن كنت إنما تريد أن تخطئني وتتكلم لتدهشني وتنسيني حجتي فلن أزداد بتوفيق الله إياي إلا بصيرة وفهما، وما أحسبك إلا وقد تعلمت شيئا أو سمعت قائلا يقول هذه المقالة التي قلتها أو قرأتها في كتاب فأنت تكره أن تقطعها حتى تأتي على آخرها".
पृष्ठ 33
قال عبد العزيز: فأقبل المأمون : على بشر فقال: "صدق عبد العزيز، اسمع منه جوابه ورد عليه بعد ذلك بما شئت من الكلام، ثم قال لي: تكلم يا عبد العزيز وأجب عما سألك عنه".
قال عبد العزيز: "سألت عن القرآن أهو شيء أم غير شيء، فإن كنت تريد هو شيء إثباتا للوجود ونفيا للعدم1 فهو شيء، وإن كنت تريد أن الشيء اسم له وأنه كالأشياء فلا".
فقال بشر: "ما أدري ما تقول ولا أفهمه ولا أعقله ولا أسمعه، ولابد من جواب يفهم ويعقل أنه شيء يعقل أو غير شيء".
قال عبد العزيز: "صدقت إنك لا تفهم ولا تعقل ولا تسمع ما أقول ولقد وصفت نفسك بأقبح الصفات، واخترت لها أذم الاختيارات، ولقد ذم الله عز وجل في كتابه من قال مثل ما قلت: أو كان بمثل ما وصفت به نفسك، فقال الله عز وجل: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون} 2 وقال عزوجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين} 3 وقال عز وجل: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين} ... إلى قوله {صم بكم عمي فهم لا يرجعون} 4. ومثل هذا في القرآن كثير جدا، ولقد امتدح الله عز وجل في كتابه أقواما بحسن الاستماع وأثنى عليهم أحسن الثناء فقال: {الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب} 5 وقال عز وجل: {وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق} 6 وقالت عز وجل: {وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} 7 وقال عز وجل:
पृष्ठ 34
{وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم} 1 ومثل هذا في القرآن كثير، فما اخترت لنفسك ما اختاره الرسول، ولا ما اختاره المؤمنون، ولا ما اختاره أهل الكتاب، ولا ما اختاره الجن لأنفسهم.
قال عبد العزيز: قال المأمون: دع هذا يا عبد العزيز وارجع إلى ما كنت فيه، وبين ما كنت فيه، واشرحه، واحتج لنفسك، فقلت: يا أمير المؤمنين: إن الله عز وجل أجرى على كلامه ما أجراه على نفسه إذ كان كلامه من صفاته فلم يتسم بالشيء ولم يجعل الشيء اسما من أسمائه ولكنه دل على نفسه أنه شيء وأكبر الأشياء إثباتا للوجود ونفيا للعدم2، وتكذيبا منه للزنادقة، والدهرية، ومن تقدمهم ممن جحد معرفته وأنكر ربوبيته من سائر الأمم فقال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} 3 فدل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء، وأنزل في ذلك خبرا خاصا مفردا لعلمه السابق أن جهما وبشرا ومن قال بقولهما سيلحدون في أسمائه ويشبهون على خلقه، ويدخلونه وكلامه في الأسماء المخلوقة، قال عزوجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} 4 فأخرج نفسه وكلامه وصفاته من الأشياء المخلوقة بهذا الخبر تكذيبا لمن الحد في كتابه، وافترى عليه، وشبهه بخلقه، قال عزوجل: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} 5 ثم عدد أسماءه في كتابه ولم يتسم بالشيء ولم يجعله اسما من أسمائه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما من أحضاها دخل الجنة" 6 ثم عدها فلم نجده جعل الشيء اسما لله عزوجل، ثم ذكر جل ذكره كلامه كما ذكر نفسه ودل عليه بمثل ما دل على نفسه ليعلم الخلق أنه من ذاته وأنه صفة من صفاته، فقال الله.
पृष्ठ 35
عز وجل: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس} 1 فذم الله اليهودي حين نفى أن تكون التوراة شيئا، وذلك أن رجلا من المسلمين ناظر رجلا من اليهود بالمدينة، فجعل المسلم يحتج على اليهودي من التوراة بما علم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وذكر نبوته فيها حتى أثبت نبوته صلى الله عليه وسلم من التوراة فضحك اليهودي وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فأنزل الله عز وجل تكذيبه، وذم قوله، وأعظم فريته حين جحد أن يكون كلام الله شيئا، ودل بذلك على أن كلامه شيء ليس كالأشياء، كما دل على نفسه أنه شيء ليس كالأشياء ثم قال في موضع آخر: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء} 2 فدل بهذا الخبر أيضا على أن الوحي شيء بالمعنى، وذم من جحد أن كلام الله شيء، فلما أظهر الله عزوجل اسم كلامه لم يظهره باسم الشيء فيلحد الملحدون في ذلك ويدخلونه في جملة الأشياء المخلوقة، ولكنه أظهره عز وجل باسم الكتاب والنور والهدى ولم يقل قل من أنزل الشيء الذي جاء به موسى، فيجعل الشيء اسما لكلامه، وكذلك سمى كلامه بأسماء ظاهرة يعرف بها، فسمى كلامه نورا وهدى، وشفاء، ورحمة، وحقا، وقرآنا، وأشباه ذلك لعلمه السابق في جهم وبشر ومن يقول بقولهما إنهم سيلحدون في أسمائه وصفاته التي هي من ذاته وسيدخلونها في الأشياء المخلوقة".
فقال بشر: "يا أمير المؤمنين قد أقر عبد العزيز إنه شيء، وإنه لا كالأشياء فليأت بنص التنزيل كما أخذ علي وعلى نفسه، أنه ليس كالأشياء، وإلا فقد بطل ما ادعاه وصح قولي إنه مخلوق، إذ كنا قد أجمعنا واتفقنا إنه شيء، وقلت أنا هو شيء كالأشياء وداخل في الأشياء، وقال هو ليس هو شيء كالأشياء ولا داخل لا الأشياء، فليأت بنص التنزيل على ما ادعاه، وإلا فقد ثبتت الحجة عليه بخلقه إذ كان الله عز وجل قد أخبرنا بنص التنزيل إنه خالق كل شيء".
قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون هذا يلزمك يا عبد العزيز، وجعل محمد بن الجهم وغيره يصيحون "يقولون " ظهر أمر الله وهم كارهون، جاء الحق وزهق
पृष्ठ 36
الباطل وطمعوا في قتلي، وجثا بشر على ركبتيه وجعل يقول: أقر والله يا أمير المؤمنين بخلق القرآن، فأمسكت فلم أتكلم حتى قال لي المأمون: مالك لا تتكلم يا عبد العزيز فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، قد تكلم بشر وطالبني بنص التنزيل على ما قلت وهو المناظر لي فضجيج هؤلاء أي شيء هو وأنا لم أنقطع ولم أعجز عن الجواب وإقامة الحجة بنص التنزيل كما طالبني ولست أتكلم في هذا المجلس ويتكلم فيه غير بشر إلا أن ينقطع بشر عن الحجة فيعتزل ويتكلم غيره في مكانه، فصاح المأمون بمحمد بن الجهم وغيره فأمسكوا".
قال عبد العزيز: "فقال لي المأمون تكلم يا عبد العزيز فليس يعارضك أحد غير بشر".
قال عبد العزيز: "قال الله عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} 1 وقال عز وجل: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} 2 وقالت عز وجل: {وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} 3 فدل عز وجل بهذه الأخبار كلها وأشباه لها كثيرة على أن كلامه ليس كالأشياء وأنه غير الأشياء، وأنه خارج عن الأشياء، وأنه إنما تكون الأشياء بقوله وأمره، ثم ذكر خلق الأشياء كلها فلم يدع منها شيئا إلا ذكره، وأخرج كلامه وقوله وأمره منها ليدل على أن كلامه غير الأشياء وخارج عن الأشياء المخلوقة، فقال عز وجل: {إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره} 4. فجمع في هذه اللفظة الخلق كله، ثم قال: والأمر، يعني الأمر الذي كان به هذا الخلق، ففرق عز وجل بين خلقه وبين أمره، فجعل الخلق خلقا والأمر أمرا، وجعل هذا غير هذا، وهذا غير هذا، فقال عز وجل: {وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر} 5 يقول إذا أردت شيئا فإنما هو كلمح
पृष्ठ 37
البصر يقول له كن كما أريد فيكون كلمح بالبصر، وقال عز وجل: {لله الأمر من قبل ومن بعد} 1 يقول من قبل الخلق ومن بعد الخلق، ثم جمع عزوجل بين الأشياء المخلوقة في آيات كثيرة من كتابه، وأخبر عن خلقهما بقوله وكلامه، وأن كلامه وقوله غيرها وخارج عنها فقال عز وجل: {وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق} 2 وقال عز وجل: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} 3 وقال عز وجل: {خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين} 4 وقال عز وجل: {حم، تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم، ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى} 5 وقال عز وجل: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق} 6 وقال عز وجل: {أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون} 7 وقال عز وجل: {وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون} "8.
قال عبد العزيز: فقال لي المأمون بعض هذا يجزيك فاختصره، فقلت: "يا أمير المؤمنين قد أخبرنا الله عز وجل عن خلق السماوات والأرض وما بينهما، فلم يدع شيئا من الخلق إلا ذكره، وأخبر عن خلقه، وأنه إنما خلقه بالحق، وأن الحق قوله وكلامه الذي به خلق الخلق كله، وأنه غير الخلق، وخارج عن الخلق، وهذا نص التنزيل على أن كلام الله غير الأشياء المخلوقة، وليس هو كالأشياء وإنما به تكون الأشياء".
पृष्ठ 38
فقال بشر: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك فقد ادعى أن الأشياء إنما تكون بقوله، ثم جاء بأشياء متباينات متفرقات فزعم أن الله عزوجل يخلق بها الأشياء فأكذب نفسه ونقض قوله ورجع عما ادعاه من حيث لا يدري، وأمير المؤمنين أطال الله بقاه الشاهد عليه الحاكم بيننا".
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: "يا عبد العزيز قد قال بشر كلاما قد قلته وتحتاج أن تصحح قولك ولا ينقض بعضه بعضا، وجعل بشر يصيح ويقول: لو تركناه يتكلم لجاءنا بألف لون مما خلق الله عزوجل بها الأشياء".
قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين أطال الله بقاك، ذهبت الحجج وانقطع الكلام، ورضي بشر وأصحابه بالضجيج والترويج إلى الباطل وقطع المجلس وطلب الخلاص ولإخلاص من الله عز وجل. قال: فصاح المأمون: يا بشر أقبل على صاحبك واسمع منه، ودع هذا الضجيج، وكان قد قعد منا مقعد الحاكم من الخصوم".
قال عبد العزيز: "ثم أقبل علي المأمون وقال: تكلم يا عبد العزيز. فقلت: يا بشر زعمت أني قد أتيت بأشياء متباينات متفرقات، فزعمت أن الله خلق بها الأشياء، فما قلت إلا ما قال الله عزوجل في كتابه، وما جئت بشيء غير كلام الله ولا قلت ولا أقول إلا أن "الله " خلق الأشياء بكلامه.
قال بشر: "يا أمير المؤمنين، قد قال إنه خلق الأشياء بقوله وبأمره، وبكلامه، وبالحق، فقال المأمون: بلى قد قلت هذا يا عبد العزيز".
قال عبد العزيز: فقلت: "يا أمير المؤمنين قد قلت هذا، وما قلته إلا على صحته، ولا خرجت عن كتاب الله عزوجل ولا قلت إلا ما قال الله عزوجل، ولا أخبرت إلا بما أخبر الله عز وجل به أنه خلق "مما" يوافق بعضه بعضا، ويصدق بعضه بعضا، وكل ما ذكر الله عزوجل إنه خلق ويخلق به الأشياء فهو شيء واحد له أسماء، هو كلام الله، هو قول الله، هو أمر الله، وهو الحق، فقول الله هو كلامه وكلامه هو الحق، والحق هو آمره، وأمره هو قوله، وقوله هو الحق، وهي أسماء شتى لشيء واحد، كما سمي كلامه نورا وهدى وشفاء ورحمة وقرآنا، وفرقانا، فهذا مثل ذلك، وذلك مثل هذا، وإنما أجرى الله عز وجل مثل هذا على
पृष्ठ 39
كلامه، كما أجراه على نفسه لأنه من ذاته، فسمى كلامه بأسماء كثيرة، وهي شيء واحد كما سمى نفسه بأسماء كثيرة وهو واحد أحد صمد فرد، وإنما ينكر بشر هذا وبستعظمه لقلة فهمه ومعرفته باللغة، ومعنى كلام العرب وألفاظها".
قال بشر: "يا أمير المؤمنين قد أصل بيني وبينه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وزعم أنه لا يقبل إلا نص التنزيل فما لنا ولذكر لغة العرب وغيرها لست أقبل منه إلا نص التنزيل بما قال أن كلام الله هو قوله، وهو أمره، وهو الحق. فقال المأمون: ذلك يلزمك يا عبد العزيز لما عقدت علي نفسك من الشرط".
قال عبد العزيز: فقلت: "صدقت يا أمير المؤمنين إن ذلك يلزمني وعلي أن آتي به من نص التنزيل"، قال: "هاته".
قال عبد العزيز: فقلت: "قال الله عز وجل وقد ذكر كلامه فقال: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} 1 يعني حتى يسمع القرآن، لأنه لا يقدر أن يسمع كلام الله من الله، وإنما غنى القرآن لا خلاف بين أهل العلم واللغة في ذلك. وقال عز وجل: {سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} 2 فسمى الله القرآن كلامه، وسماه قوله، وأخبر أن قوله هو كلامه بقوله عز من قائل: {يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} 3 وقال الله عز وجل: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم} 4 فهذا خبر الله عن القرآن إنه الحق. وقال عز وجل: {وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل} 5 فأخبر عن القرآن إنه الحق، وقال عز وجل: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين} 6 فهذا خبر الله عن القرآن إنه الحق، وقال عز وجل:
पृष्ठ 40