حبر على ورق
صندويش
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
بقرة وعنزة
شبابنا الحائر
شهوة الحكم
الدنيا واسطة
لا يحولون ولا يزولون
سوس وقراد
إقطاعية برلمانية
كالعيس في البيداء
حساب الحمص
على هامش جلسة الثقة
من أين لك هذا؟
دجاجة الاستقلال
بق البحصة يا شماس
إميل لحود
فوضى النياشين
حامل وسام
الجنود سياج الدولة
سيكي الكلب البوليصي
ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
صاحبنا الصيف
ارفس الحواجز وامرق
الشجر تتهم البشر
كوافيرنا
عثمان ومعاوية وأبو ذر
أوانسنا وعوانسنا
بمناسبة العام الجديد
موسم المقامرة
رسالة إلى السماء
كنوز مرصودة
حبر على ورق
صندويش
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
بقرة وعنزة
شبابنا الحائر
شهوة الحكم
الدنيا واسطة
لا يحولون ولا يزولون
سوس وقراد
إقطاعية برلمانية
كالعيس في البيداء
حساب الحمص
على هامش جلسة الثقة
من أين لك هذا؟
دجاجة الاستقلال
بق البحصة يا شماس
إميل لحود
فوضى النياشين
حامل وسام
الجنود سياج الدولة
سيكي الكلب البوليصي
ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
صاحبنا الصيف
ارفس الحواجز وامرق
الشجر تتهم البشر
كوافيرنا
عثمان ومعاوية وأبو ذر
أوانسنا وعوانسنا
بمناسبة العام الجديد
موسم المقامرة
رسالة إلى السماء
كنوز مرصودة
حبر على ورق
حبر على ورق
تأليف
مارون عبود
حبر على ورق
يقولون لك: اكتب. وماذا تريدون أن نكتب؟ ومن يقيم وزنا لما نكتب؟
تعود الناس أن يقرءوا ما يكتب بالقلم العريض، فماذا يؤثر بهم الهمز والغمز؟ الجلود متمسحة، وهيهات أن تغرز الإبر فيها، فلا بد لها من المسلات.
كان والدي يوصي الفلاح حين يسلمه الفدان في أول الري ألا يكثر من النكز بالمساس ويقول له: اسمه مساس يا نعمه، ومن اسمه تعرف كيف تستعمله. الفدان الذي تنكزه دائما يتعود، وهناك البلاء.
أنا أعتقد أن كثرة الكتابة وخصوصا تلك التي تكتب بالنبوت لا تؤثر بأحد، وخصوصا في هذا الزمن الذي انهارت فيه المثل العليا وقل الحياء، ألا يسمون الكذاب داهية، والدجال سياسيا، والوصولي ألمعيا، والانتهازي عبقريا، والأنوف الأبي، حمارا لا يعرف يعيش!
ماذا تريدون أن نكتب لمن يطمسون ما نسطر بكلمة عابرة ؟ حكي جرائد؟ إن الذي كان يتوارى حياء إذا لاكت اسمه ألسنة الناس قلما تجده في هذه الأيام.
غفر الله ذنب ابن الوردي الذي جنى على العدالة حين قال:
إن نصف الناس أعداء لمن
ولي الأحكام هذا إن عدل
فأمسى يتمثل ببيته هذا كل مسيء ممن يلون الأحكام. أعرف واحدا كان متهما في نزاهته، وقد رأيته في مساء يوم لهجت فيه الصحف بسوء، فقال يعتذر عن ذلك: إرضاء الناس صعب. المسيح لم يرض كل البشر، وما سلم من لسانهم، فكيف تطلب ذلك من هذا العبد الحقير.
فقلت له: ضميرك مرتاح؟
فقال: جدا.
فسكت.
فقال: ما بالك، يظهر أنك مصدق ما كتبوه عني.
فقلبت شفتي وهززت كتفي.
وفي صباح اليوم الثاني رأيته متصدرا إحدى الحفلات وقد أقيمت تحت رعايته، فكالوا له المديح بالمد. كان مطمئنا جدا في تلك الجلسة ينظر وكأنه يتمثل بقول النواسي:
خير هذا بشر ذا
وإذا الله قد عفا
رحم الله ذلك الزمان، يوم كانوا يشهرون الساقطين من أعين الناس فيركب المفلس حمارا، ويطاف به في شوارع المدينة في محفل مهيب. تمشي وراءه صبيان الأزقة ويحييه أصحاب الدكاكين بالبيض المذر، والبندورة المهترئة، والصرامي العتيقة. في تلك الأيام كان الرجل إذا مس اسمه هرول إلى المحاكم ليقيم دعوى الافتراء ليسلم شرفه الرفيع من الأذى. أما في هذه الأيام، فمن يطعن به يضحك ويهزأ، والذي تمدحه لا يبالي، فكأن الكلام أمسى لعبة أطفال ليس غير.
ومع ذلك يقولون لك: اكتب. وماذا تريدون أن أكتب؟ ولماذا أكتب؟ ألأعيش؟
إن صاحب النبوت أرفه مني حالا. إنهم يحتاجون إليه حيث لا يغني عنه غيره، فيعلفونه ويظل معلوفا موقوفا ذلك اليوم.
والمقاس أحرى مني بالحظوة والالتفات لأنه يجالسهم ويهدر مالا كما يهدرون، والماجن أقرب إليهم؛ لأنهم يرون فيه الجليس الأنيس.
الأديب، وما هو الأديب؟! أما قالوا قديما: أدركته حرفة الأدب. إننا في بلد، آخر الناس فيه رتبة، حامل القلم.
كنت عزمت على ألا أخوض هذه الغمرات لأنني لا أحسن السب والشتم ونحن في زمن لا يفهم ناسه إلا هذه اللغة، وأنا لا أحسنها. شعاري:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
ولكن أحرار هذا الزمان تعودوا التقريع، فأية فائدة ترتجى من الكتابة. ولهذا جعلت عنواني الدائم (حبر على ورق). إحياء لذكر ذلك المجهول الذي قال هذا المثل، مثل: شهاب الدين وأخيه، ولا عجب فالحبر والورق أخوان.
إن الكلمة لا تصير جسدا ما لم يتقمصها القارئ وتحل فيه، وإلا فإنها تظل حبرا على ورق. وأين هذا القارئ من قارئ أمي يعتقد أنه فوق الأمة وعلى القمة.
صندويش
صندويش على وزن سلسبيل. وكما جمعوا سلسبيل، سلاسب وسلاسيب، أريد أن أجمع صندويش، صنادش وصناديش. الصندويش طعام المستعجل وزاده، يأكله كيفما يشاء، قاعدا، أو واقفا ماشيا، ولا حرج عليه.
إن المأكولات المعدة في العلب، أغنت الكثيرين عن موقد يدب له بالحطب وقدر تراقب مراقبة الرجل الغيران لزوجة فارك شاردة العين. إن زمن طبخ الهريسة مضى وراح، فالناس أمسوا على دين امرئ القيس، بعد تلك القعدة على ثياب العذارى وإخراجهن من بركة دارة جلجل بالثوب الذي فصله لهن ربهن. ثم كافأهن الشاعر على فضيلتهن تلك بذبحه ناقته لهن.
وظل طهاة اللحم ما بين منضج
صفيف شواء أو قدير معجل
إن الناس اليوم في حاجة إلى ما هو أسرح من ذاك القدير المعجل إلى صندويش يسندون به قلبهم، لا إلى طعام يد ويدين يقعدون له. وكذلك قارئ هذا العصر، فإنه محتاج إلى ما يرفه عنه ولا يتعب دماغه وأعصابه. إن أدمغة الناس أصبحت في أصابعهم، وستصبح العقول آلية متى رخص الدماغ الإلكتروني، وصار في استطاعة كل واحد أن يقتني دماغا كما يقتني قلم الحبر - الستيلو أو المداد - كما شاء بعضهم أن يسميه.
إن التفكير العميق مهدد بالاندثار كما كادت أن تندثر النياق والخيال والبغال، ولذلك رأيت أن أفتح دكان صندويش أزود بها عابري السبيل، ويا لهف قلب الأدب من القراء المستعجلين. فلا يستغربن القارئ، إذن، هذا العنوان الجديد. فهو مستعجل لا ينتظر حتى نطبخ، فلا يكاد يقول: هات. حتى نجيب: خذ، فينتش ويكدم.
أظن أن المرحومة ستي كانت أبرع من علماء اللغة في انتقاء الأسماء الجميلة. أما سمت الصندويش عروسا. أليس بين الصندويش والعروس شبه رائع. كلاهما ممشوق القامة، لذ المقبل. ناهيك أن اسم العروس حلو الوقع في جميع النفوس ولا أحاشي نفوس الشيوخ مثلي.
وبعد، فأي صندويش نقدمه اليوم؟ إن السياسة طاغية على تفكيرنا في هذه الأيام، وإصلاح الوطن وجهة الجميع، وكل يدعي وصلا بليلى. فالمثاليون منا ملتهبون غيرة على إصلاح الوطن حتى تعجز الإطفائية عن إخماد نار حميتهم ... لست أنكر أن فينا من هم من هذا الطراز العالي، أما الأكثرون فتنطبق عليهم هذه الحكاية.
ضاقت الدنيا بأحدهم فالتجأ إلى الدير لينخرط في سلك الرهبانية.
وبعد ألف يا ويلاه، اجتاز أزمنة التجربة الحادة التي يمر بها المبتدئ. وأخيرا هونها الله وجاءت ساعة التكريس. ركع الطالب على درجة الهيكل أمام قدس الأب العام، فطرح عليه هذا السؤال التقليدي: ما غايتك من لبس هذا الأسكيم - قلنسوة الراهب - يا أخي؟
فأجابه الأخ بعين بلقاء: راحة جسمي وكبر بطني.
فمات الرهبان الحاضرون من الضحك، ولكن الأب عبس في وجوههم، فعادت الضحكات أدراجها، وقال المحترم للأخ: ما هكذا يجاوبون يا أخي. قل: حبا بمريم العذراء وخلاص نفسي.
ونحن إذا عرضنا هذا السؤال على موظفي الدولة، فكم واحدا يجيبنا بغير ما يشبه جواب ذاك الراهب الهارب من الفقر الذي لم يتعرف عليه الروح القدس، ولا مر بباب صومعته؟
كنا نقول فيما مضى عند التعجيز: إن فعلت كذا أعطيك طربوشي، أو إن صار كذا أحلق شواربي، ولكنني اليوم صرت بلا طربوش ولا شوارب، فما عساني أقول له، وعلى ماذا أخاطره؟ ليس له عندي إلا صندويش لا يحلم بمثله، وهدية المقرف ليمونة حامضة.
الأونسكو وإنتاجنا الأدبي
الكتاب يتيم مسكين في لبنان، وأين يبيت الفقير المعدم!! فالأوادم (الطازة) يبنون قصورا مقببة لا يجد الكتاب فيها مكانا يسند إليه رأسه. والموظفون، كبارا وصغارا، بينهم وبين المطالعة عداوة بيت الأعور، إذا أهديت إلى واحد منهم كتابا فلا يفض بكارته لأنه عنين لا يأتي الكتب.
الأغنياء الطازة لا يطربون إلا لرنة الذهب، وخشخشة الورق النقدي. فاهد إليهم كتابا يعلم الجمع، فما يجديهم كتاب أدب يلهيهم عن الطرح والضرب.
ماذا تقول في موظف كبير يحشر في زمرة الأدباء، تهدي إليه كتابا فتراه بعد حين عند غيره. فوالله لو استطعت استعادة كتابي ذاك لزففته إليه ثانية بطبل وزمر.
يقولون: لبنان بلد الإشعاع، وأين هو الإشعاع؟! وأنت إذا دخلت بيتا من بيوت زعمائه فلا تجد فيه إلا سلاحا عتيقا وحديثا، خناجر وطبنجات، بندقيات ومسدسات، قلما تجد إلى جانبها كتابا أو كراسا. إني أرجو وآمل بعد أن سألتنا منظمة الأونسكو عن محصولنا الأدبي أن نخلص من هزئهم واستخفافهم بالأدب. إذا قيل لهم: فلان عائد من أميركا وهو ملك الأحذية في دار هجرته، حملوه وماركته المسجلة على الرءوس، وإذا قلت لهم: هذا الأديب رفع رأس المغتربين، أشاحوا عنك وعنه بوجوههم مستخفين.
التقيت عند أحد صيارفة بيروت بتاجر لا يملأ العين سمته، فقلت للصيرفي: من هذا الذي تجله كل هذا الإجلال؟!
فقال لي باستغراب وإعجاب: أرأيت (الكمر) الذي على وسطه، إنه محشو بالليرات الذهبية. فقلت: المجد لك أيها الكمر. المجد لك. ورأسه كيف؟ فأجاب: أنا يعنيني خصره.
أبمثل هذا الرأس البور تنمو الكتب الأدبية؟! قالت الصحف: إن الجداول التي أرسلت إلى منظمة الأونسكو تدل على أن الإنتاج الأدبي ضئيل في لبنان. قلت: ولماذا لا يكون ضئيلا، وأحد الأدباء المتظرفين قد أعد خاتما يسم به وجه كتابه: هذا كتاب أهديه لأني لا أجد من يشتريه.
يا لها من دعاية مرة، ويا ذل الكتاب في لبنان. حلو أنت ومر يا سعيد، ولكنك تغمز حمارا، كما قال ابن العميد للصاحب.
الكتب يا منظمة الأونسكو موجودة إذا كنت تطبعين، فدور النشر طبعت وتطبع ما تستطيع، ولكن الكتب الأدبية لا يقرؤها غير الأدباء والمتأدبين، وقلما يستطيع أديب شراء كتاب. وإذا بيع كتاب استعاره العشرات من الناس. وهكذا تنام الكتب في مستودعاتها لا تحلم بغير مداعبة الفئران ومغازلة الجرذان.
أرأيت كيف استحال بلد الأبجدية بلد موزو وتوميغان؟!! النافذون من الأمة لا ينشدون غير جذعانها أصحاب الزنانير العريضة، والسراويل القرقية. أولئك هم الذين يكتبون المدائح بالنبوت، ويخطبون بالبندقية، ويحيون بالمسدس، فتظهر (الشعبية) ويبلغ الأرب الرخيص.
بقرة وعنزة
تأدبوا يا قضاة الأرض. هكذا صاح النبي داود في المزمور الثاني. والحكم ملح الأرض، هكذا جاء في المثل. فمتى كانت لنا ضمائر حية عدلنا واطمأنت قلوبنا واستراحت نفوسنا القلقة، ولهذا خلقت الموازين والسجلات.
إن في أعماق شخصيتنا يستقر ذلك الشيء الذي تواضع الناس على تسميته ضميرا أو وجدانا، وهذا الضمير يقوى ويشتد إذا ظل الإنسان يدفع نفسه في طريقه إلى التسامي. الضمير تخلقه فينا تربيتنا الأولى، ولكننا إذا أهملناه وتركنا محاسبة أنفسنا وتصاممنا عن سماع صوته، مات رويدا رويدا وقضينا حياتنا في سكرة لا نستفيق منها إلا في السكرة الكبرى، سكرة الموت.
إذا أراد واحد منا أن يمتدح رجلا ويثني على استقامته قال: فلان صاحب ضمير، وفلان ضميره حي، كأنهم يعتبرون الطماع غير العادل ميت الضمير.
قد راقبت الحيوانات الداجنة فوجدت في تصرفات بعضها، أثرا للضمير أو الوجدان. فالكلب أو الهر إذا أخذ خلسة ما لا يحق له أخذه، بدا عليه القلق والاضطراب حين يراه صاحبه متلبسا بالجريمة.
وما الإقرار بالجنايات الكبرى إلا من عمل الضمير، ولولا ذلك لا يعترف مجرم بما جنت يداه. وما العدالة البشرية إلا بنت الضمير، تلك الجرثومة التي تجعل من الإنسان ملاكا بشريا، ومتى نمت فيه جعلته فوق البشر.
كان مكتوبا على تاج كسرى أنوشروان أربع آيات عرفت بآيات التاج، والآية الأمامية هي هذه: العدل يدوم وإن دام عمر، والآية الورائية: الظلم لا يدوم وإن دام دمر. فحسب الملك العادل أنه لا يحتاج إلى جنود تحميه وينام ملء عينيه.
ومن حكايات الفرس أن ملكهم أنوشروان ذهب ذات يوم في رحلة يصطاد، ولما حان وقت غدائه افتقدوا الملح فلم يجدوه، فأمر أحد غلمانه أن يذهب إلى قرية قريبة ويجيء بالملح، ثم أوصاه أن يشتريه بحقه، ولا يأخذه مجانا؛ لئلا يحيق الخراب بالقرية.
فقال الوزير: أبحفنة ملح تؤخذ بلا ثمن تخرب القرية؟
فقال كسرى: هكذا بدأ الظلم في الدنيا، بدأ قليلا جدا، ثم تمادى الحاكم فيه حتى بلغ الحد الذي نراه.
وحكي عن مار أفرام السرياني أنه كان سميك الذهن يقرأ ليل نهار ولا يعلق بذاكرته شيء. فيئس من نفسه وقنط. وفي ذات يوم مر ببئر فرأى أثر الحبل في (خرزة) البئر، وقد حزها حزا عميقا حتى كاد يبريها، فسأل امرأة كانت تملأ جرتها عما فعل بالخرزة هكذا، فأجابته: الحبل يا أفرام.
فعاد أفرام أدراجه وحمل كتابه إلى البرية حيث اتخذ له مقعدا على صخرة قائمة على كتف واد. وهناك ظل يدرس سنوات، ولكن بقرة لجاره كان يسرحها فتأتي وتعكر عليه وحدته بخوارها، وبينا هي على شفير إذا بأفرام يصيح بها صيحة ردد الوادي صداها فاضطربت البقرة واختل التوازن فتدهورت إلى الوادي وفكت رقبتها.
وجاء صاحبها يندب حظه وبقرته التي كانت كل رزقه. وراح أفرام يساعده على سلخها وتقصيبها محاولا بذلك طمس معالم جريمته.
وخلا لأفرام الجو زمنا وكان له الهدوء الذي أراد بعدما قضى على البقرة. وتفتقت براعم مواهبه فصار ذلك الشاعر المسكوني. ولكن جناية ارتكبت وكان أفرام واحدا من المتهمين فزج في السجن. وطال الحبس فأخذ أفرام يناجي ربه متذمرا من الظلم؛ لأنه بريء مما اتهم به.
وطالت الصلاة والنجوى، والسجن لم تنفتح أبوابه، وأفرام يتألم ويصرخ إلى ربه يسأله الفرج. وفي هدأة الليل بينما كان المسجونون يغطون في نومهم ركع أفرام يتضرع إلى ربه بحرارة ويبكي وينتحب ويقول: أنت تعلم يا رب أنني بريء، فكيف تتركني في ضيقي. أنا مظلوم يا رب، أنا لم أسفك دما كما اتهموني، فمد يدك يا الله وافتح باب حبسي. انتشلني من جب العذاب كما انتشلت يوسف، وأنقذني كما أنقذت دانيال.
أنت وحدك تعلم أني بريء من هذه التهمة فنجني إذن. أين قدرتك يا الله؟ أيقتل الناس بعضهم بعضا ويجازى عبدك.
وبينا كان أفرام في معمعة هذه الابتهالات إذا به يسمع هاتفا يقول له: والبقرة يا أفرام!! فأصغى أفرام إلى الهاتف وهو متعجب كأنه يتساءل، فإذا به يسمع من يقول ثانية: نعم، البقرة التي قتلتها يا أفرام، وشاركت صاحبها في سلخها كأنك لم تقترف إثما.
فتذكر أفرام جريمته وخر إلى ذقنه يبكي. استيقظ ضميره وعرف أنه يكفر عن ذنب قديم كان نسيه، ولكن الله لا ينسى.
واستحال سجن أفرام إلى هيكل توبة فنظم في استرضاء ربه من شعر الكفارة شيئا كثيرا. قبل سجنه بريئا، وأخيرا تطهرت نفسه، واعترف المجرم بجنايته وخرج أفرام من سجنه خروج الذهب من النار.
وفي حكاياتهم أمثلة كثيرة على العدل ومحاسبة الله ملوك أرضه عما فعلوا في عباده. حكي عن عبد الله بن عمر أنه حينما اقتربت المنية من والده سأله متى يراه بعد موته؟ فقال عمر: أراك يوم القيامة إن شاء الله.
فقال عبد الله: وددت لو أراك قبل ذلك.
فقال عمر: إذن تراني في المنام بعد يومين أو ثلاثة.
ومات الإمام العادل ومضت الليالي الثلاث ولم ير عبد الله أباه، وبعد اثني عشر عاما جاءه في المنام فسأله ابنه عبد الله: أما قلت لي يا أبت، إنني أراك بعد ثلاث ليال من موتك؟
فقال عمر: لم يكن لي الوقت يا بني، كان ربك يحاسبني عن جسر تهدم أثناء فتح العراق ولم يصلحه العمال وقد عثرت به عنزة فكسرت ساقها.
الله الله ... فكم من رقاب تفك في هذا الزمان، وكم من نفوس تزهق بسبب إهمال العمال، وليس من أحد يحاسب نفسه حتى كاد العدل أن يتوارى.
وقد قرأت في أيام الصبا، حكاية يونانية كتبت لحث الناس على العدالة. قيل: إن العدل ساد في إحدى المناطق الرومانية حتى كان القاضي يحضر إلى مجلسه ويتربع فيه، ثم لا يمثل أحد بين يديه فيرجع إلى بيته. وأخيرا أذاع أنه مقيم في بيته، فإذا شاء أحد أن يرفع إليه ظلامة فما عليه إلا أن يشد حبل الجرس، فيخف القاضي إلى استقباله وسماع شكواه.
وانقضى الشتاء ولم يدع القاضي أحد. وجاء الربيع فنبت العشب حول حبل الجرس فغطاه . وفي ذات يوم سمع القاضي صوت الجرس، فخرج ليرى من الطارق، فإذا هو بغل خلي سبيله ليرعى. البغل مهزول ما عليه غير جلد منشور على عظم. عمل حتى أدركته الشيخوخة، ولما لم تبق منه بقية ألقى صاحبه حبله على غاربه وصرفه من الخدمة، وظل القاضي يفتش عن صاحب البغل حتى وجده، ولما مثل بين يديه حكم عليه وأجبره على إطعام بغله.
إنها حكايات، وقد تكون أساطير، ولكنها كيفما دارت بها الحال، تعلمنا درسا ساميا.
كلنا نطلب العدل، وقلما نجدنا عادلين في أعمالنا. فالعدل يجب أن يسود في كل مكان. في البيت، في الشارع، في الهيكل، في المحكمة. لا يطلب العدل من الحكام - وحدهم - بل علينا نحن جميعا، أن نكون عادلين، وقديما قالوا: لو أنصف الناس استراح القاضي.
شبابنا الحائر
انقضى موسم الشهادات وانتهى كما ينتهي كل موسم في إبانه، فإلى الذين خرجوا من معارك الامتحان سالمين غانمين نقدم تهانينا. وإلى الذين خانهم الحظ - كما يزعمون - تعازينا بأسف غير عميق. أما قال الحكيم العامي: إن فاتك عام فاستبشر بغيره. فإلى العمل الجدي أيها الإخوان، فالرجل المنتظر هو من يقع ويظل ثابتا حيث هو.
ستظفر يا أخي بشهادة إذا انصرفت إلى الكتاب، ولم تتلفت إلى هنا وهناك، ولم يكن وكدك في الصيد منذ اليوم، دع أخبار ابن أبي ربيعة التي يفرضها عليك المنهاج، واقرأها عملا بالواجب ولا تعمل بها. ولكن ما لنا وللمنهاج فأنتم شباب اليوم ترمون إلى أبعد من عمر، تراسلون الفتيات الأوروبيات وتنتظرون الجواب قبل موعد الدرس. وإذا أبطأ عليكم فتشتم عن عنوان ثان وكتبتم إلى التي تعرض بضاعتها على كل قارئ، وقعدتم تنتظرون ساعي البريد لعله يفتح لكم باب الفرج، ومن أين تدخل الشهادة التي تنتظرون.
من ينكر حب هذه البقعة اللبنانية للعلوم والآداب. فمنذ عصور ودهور، وبيوت العلم تشاد فيه. واليوم ألسنا نرى على كل قمة مدرسة تطاول قممه الشاهقة، وفي كل بطحاء دور علم مفترشة كلكلها كما قال الأخطل في عبد الملك، وفي كل مدينة عددا عديدا من المدارس تكاد تضاهي الحوانيت والمخازن عدا. أما العاصمة فلا تسل عن معاهدها فقد أصبحت أكثرها كليات ولم يعد يرضى أصحابها باسم مدرسة، وكل هذه الدور محشوكة بالطلاب حشكا تزاحم بعضها بعضا لتحصل على أكبر عدد ممكن من الطلاب والطالبات.
لا يدرج الطفل عندنا حتى يحبسه والده بين جدران مدرسة، وهناك يطوي الأيام وينشر الأعوام. يظل يخرج من المدرسة ثم يعود إليها إلى أن تقبل السنة الأخيرة، وينال شهادته النهائية التي يحسبها ثروته العظيمة. تتمثل له آلاف الدنانير كارجة بين سطورها، ويرى كل حرف من حروفها يضارع أشهق قصور إسبانيا، وعلى هذه الآمال يخرج من المدرسة إلى مدرسة الدهر.
في موسم الشهادات تفعل المدارس كما يفعل المزارع تماما. هذاك يكوم حنطته المدروسة على بيدره، والمدارس تغربل محصولها أولا. تغربله وتصدره إلى العالم أكياسا. وذوو الشباب تملأ صدورهم الآمال بالغد، فقد أنفقوا الكثير مما يحبون حتى رأوا في يد ابنهم هذا السلاح الثقافي الذي يقاتل به في حرب المعاش. يتخيل الأب كل حرف من شهادة ابنه مبلغا ضخما من المال، وأنه متى تخرج الصبي يقبر الفقر.
ها قد طارت الطيور بأرزاقها ولكن إلى أين؟ أفلت الصبي من القفص فانزاح برقع الوهم عن عينيه فنظر إلى العالم مدهوشا وتمثل لعينه حرج موقفه، فبهت ووقف وقفة المتحير إذ لاح له نور مستقبله الضئيل. الآن درى أن الشهادات كالأوراق المالية. فبقدر ما وراءها من الذهب المرصوف في خزائن الدولة، تكون قيمتها الحقيقية، وها هو يعرض ما في يده في الأسواق والله أعلم بالمصير.
فماذا يصنع يا ترى؟ أيتعلم فن الطب؟ ربما أنه لا ينجح وأمه لا ترضى، لأن الطب يقتضي تحصيله الزمن الطويل، وهي مستعجلة حتى تفي الديون وإلا راح البيت وبستان الليمون وكرم الزيتون.
هل يدرس علم الحقوق؟ فعمه وأبوه لا يرضيان. عرفا أن البعض قد دنسوا هذه المهنة الشريفة حين اتخذها وسيلة لابتزاز أموال الأيتام وتحميل الناس أحمالا ثقيلة.
أيكون مدرسا وهو يعرف ما كان يكابده أستاذه من الأتعاب وإعمال الفكرة ليبين له غوامض دروسه ناهيك أن الراتب طفيف، ولربما أنه لا يجد مدرسة يدرس بها؛ لأن التدريس صار حرفة من ليس له حرفة، والرواتب كمشاريع الحكومة توضع في المناقصة. وجنابه لا يقنع بالقليل، وأهم من كل ذلك أن بضاعته قليلة وهو غير واثق من نفسه.
أيرضى بعمل عند أحد التجار مدة ليختبره؟ لا. لأن والده أنفق عليه ثروته حتى تعلم هذه العلوم وهو أيضا لا يطيق أن يكون مرءوسا. وإن رضي بتأسيس محل تجاري يعارضه والده وعمه وابن عم أمه زاعمين أن بعض التجار يبيعون الذمة والضمير ويلجئون أخيرا إلى الإفلاس ليأكلوا مال الناس. وقبل وبعد فمن أين له رأس المال؟
أما الوظيفة فقد حاول إدراكها فما أدرك إلا غبارها، إنها كالنعامة ومن أين له خفة الرجل؟ وجد خلف كل كرسي ألفا من أمثاله، وكيف يصل وهو مقطوع الظهر؟ فالخلاصة إذا عزم الشاب على عمل ما يصادف أمامه من المصاعب جبالا فيطرق مدة طويلة دون أن يفتح الله عليه.
أما إذا غضب الله عليه ومال من صغره إلى الشعر والكتابة فهناك النجاح العظيم، وكيل المال المد بالمد. إنه يقضي حياته سابحا في البحر (الطويل) مسترسلا إلى (المجاز المرسل) طامعا بالدر من بحر (الوافر) (هازجا) في أودية النجاح، وإذا أعياه الوزن ففي (الشعر المنثور) نثار الدر والعسجد. وهكذا يعود خائبا؛ لأن مدرسته لا يعنيها النظر إلى شئون الحياة، فما علمته غير النظريات والعصر عصر العمل. ما تعلم غير أدب وبحوث اجتماعية تنأى به عن المهن التي تطعم خبزا. لقد غرست المدرسة في نفسه ما غره منها، فأصبح يرى العمل مهانة تحط من قدر شهادته التي لا يليق بها غير كرسي واسع يترهل عليه.
يدخل الفتيان المدارس وفي نيتهم الهرب من كل حركة يدوية. يرون في الصنائع عارا عظيما إذا لم يكتب لهم النجاح في العلوم، وتطمح أنظارهم إلى المراكز التي ألقيت عهدتها إلى رفاقهم الناجحين، فيقفون عن العمل ويأخذون يقيسون الشوارع عرضا وطولا، يمسون على أمل ويصبحون على فشل، وربك أعلم بالنهاية .
فيا أيها الشاب الغيور إذا كنت تطمع بمركز رفيقك، فلماذا لم تتشبه به أيام كان يسهر ليحصل، وأنت منبطح على (طبقتك) لا تبالي بالدرس خوفا على صحتك الغالية، وعملا بقول المثل (حمار طيب خير من فيلسوف ميت). ألم تتمخض بك أمك المدرسة بضع عشرة سنة نظيره، وإذا بك أنت تولد مسخا ويا للأسف. أما سمعتما شروح معلم واحد فما هذا التفاوت بينكما؟ لقد صدق المثل الإنجيلي بك، فأنت كالعذارى الجاهلات تذهب اليوم إلى العرس ومصباحك لا زيت فيه!
وإن قلت: كان رفيقي ذكيا مجتهدا فنحن نعذرك على هذا، ولكنا نلومك على البطالة، فدونك الصنائع إذ لا بد من أن تجد حرفة توافق ذوقك. ليست الصنائع تحط من شأنك (زادك الله علاء) فكل عمل محلل هو شريف، أما العار (يا صاحبي) ففي البطالة. أما سمعت المثل الذي يردده أبوك وجدك على مسمعك. اشتغل بنحاسة وحاسب البطال.
فلماذا نطمح حيث لا يحمد الطمع، ونقنع حيث تضر القناعة. أتقنع من العلوم بالقشور وتطمع بلباب الرواتب الضخمة، هذا هو الجهل الفاضح ورابع المستحيلات. إنك ترى العمل الصغير محطا من قدرك السامي؛ لأنك تعودت الترف وهذا هو النقص في تربيتنا البيتية. تخلع كل يوم بذلتين، ولكل حصة من النهار عندك ملبوس، وقد صح فيك قول الحريري: ألبس لكل حالة لبوسها. خبرني عن عدد قمصانك وربطات رقبتك، ومناديلك وجواربك، وبوطاتك اللماعة وغير اللماعة.
وهنا فليسمح لي الآباء أن أعنفهم. فهم الذين أوصلوا أولادهم إلى ضيق اليد، أرادوا أن يكبروا نفوسهم بالملبوس، فأضاعوا الفلوس ورموا بهم في هذه الهوة.
لقد عاشوا صغارا مدللين ثم درجوا (مدلوعين مهروقين) وشبوا اتكاليين وعاشوا في ظلنا منعمين.
خبرني لبناني هاجر وعاد إلى الوطن غانما قال: كنت أتاجر بالثياب الجاهزة متنقلا من مزرعة إلى مزرعة في أرياف البرازيل، أبيع العمال فيها بالدين، وأقبض في نهاية الشهر من صاحب المزرعة، والمزرعة هناك مقاطعة كبيرة. فقلت: لا بد من تقديم هدية لابن هذا السيد، فاشتريت طقما من الجوخ الممتاز وحملته إليه في آخر الشهر . فما رآه الخواجه حتى صاح: ما هذا؟ قلت: طقم للمحروس خورخي، اشتريته له خصيصا لأنني لا أبيع إلا ثيابا عمالية من الكتان الأسمر.
فقال: يا صاحبي، هذا ليس ملبوس ابني، لا أريد أن يتعود ابني لبس الجوخ فتيا؛ لئلا يعرى شيخا. ضب الطقم وبعه ممن تشاء. ثم نده ابنه فجاء، وقال له: نق طقما من هذه الثياب. فانتقى واحدا. وهكذا جبر خاطري ولم يرد أن يعود ابنه (الجخ) صغيرا، فعاد الفتى إلى مراقبة الألوف من عمال مزرعة أبيه والعمل معهم، ولم يضع فرصة الصيف.
أما نحن فنرى القعود هو الحرفة الشريفة، وأن الفلاح والخادم والعامل ليسوا بشرفاء. وهذا الداء فاش بين طلاب المدارس، ولهذا إذا رفع الله مرءا بماله أو وظيفته لا يرجع إلى عمله القديم إذا عانده الدهر. يا حبذا لو كان التلامذة عندنا يشتغلون كابن هذا المزارع المليونير أو كالتلامذة الأميركيين. وهنا أذكر حكاية قرأتها في إحدى الصحف منذ نصف قرن: أقبلت المواسم في بعض جهات الولايات المتحدة، فاضطر الفلاحون إلى ازدياد الفعلة لحصاد المزروعات فنشروا إعلانا يقولون فيه: إنهم يدفعون أجرة الحاصد في النهار خمسة دولارات - هذا قبل الحرب الأولى - فما طرق هذا الخبر مسامع طلبة الكليات، وكلهم أبناء بيوت غنية حتى تسابقوا إلى العمل وحصل كل منهم نصيبه.
أما نحن فقد قتلتنا القنفشة، ديوك حبش، إذا علونا فترا تسامينا كيلومترا. فنحن نزوج أولادنا وننفق عليهم ولا ينفصلون عنا. وهم يفصلونهم عنهم متى رشدوا، ويكون البيت مثابة لهم إذا شاءوا ولكن ببدل. إن ابن تيودور روزفلت ترك ثروة أبيه ولم يتكل عليها، وأراد هو أن يكون مستقبله كما كون أبوه مستقبله. أما نحن فلا يفارقنا هم أولادنا، يرافقنا حتى نغمض أعيننا آخر إغماضة. قد سمعت واحدا بلغ السبعين يبكي أباه الميت الذي جاوز التسعين قائلا: يا أبي. وص أصحابك في.
وقال لي أحد أصدقائي وهو أديب كبير عندما زار مكتبي، سمعته يتأوه فقلت: ما لك؟! فأجاب: بعت من مكتبتي كتبا نفيسة بألف ليرة ذهبية حتى زوجت الصبي .
فقلت له: لو كنت أميركيا لما عناك أمره، ولما أخرجت كتبا كانت هي أساس شهرتك ومنها أتت ثروتك الفكرية.
فقال: وليتك تعلم ماذا صار فيما بعد!
فأجبته: دعني يا سيدي من ماذا صار! صار أن الأب يحب ابنه، والابن يحب زوجته، والزوجة هي وذمتها، وحسبك الله يا محمد!
فبفتيان العالم الجديد فليتشبه طلابنا، وبآبائهم فليقتد آباؤنا. ولعله من هنا قد جاء إخفاق المتعلمين المهاجرين حتى سمعنا أن فلانا الذي تخرج في الكلية الفلانية هو في حالة من الفقر يرثى لها، والمعاز الأمي الذي لا يعرف الألف من العصا، صار في غربته صاحب دور وقصور، ومزارع ومعامل، وشركات ضخمة. هذا الجاهل يطأ الشوك بأخمصيه غير مبال بالصعاب، وذاك - وهو صاحب الشهادة المتنعم في نشأته - تنفخه العظمة الكاذبة ولا يبالي إلا بتركيز القبة وربطة الرقبة والنظر في المرآة ليرى إذا كانت منسجمة مع ثوبه وبوطه وكلساته.
إن النجاح موقوف على العمل، أي عمل كان، ونحن لا عمل ولا ثبات. دأبنا الشكوى من ضيق البلاد، وبطء الحركة، غير عارفين الحقيقة كطفل أصيب بوجع في جسمه، فأخذ يشير طورا إلى رأسه، وحينا إلى معدته، فلم هذا الكسل؟! أليس من الواجب على كل شاب، إن غنيا أو فقيرا، أن يجتهد في هذا العصر الذي لا يعيش به الإنسان إلا لنفسه؟ فمجد الأجداد (رحمة الله عليهم) قد دفن معهم، والمستقبل أسد هصور يزأر في غاب الحياة، وهل يقنص الأسد غير الأسد.
فيا عزيزي الشاب الحائر، اسأل الله أن يهبك عملا تؤديه لا ملكا تقتنيه. المدارس تعلم القراءة والكتابة، والكليات تدلنا على ما سنفتش عنه مما نحتاج إلى معرفته، وأنت تتعلم لتحسن تأدية عملك على حقه، وهنا سر النجاح.
شهوة الحكم
مقالي - كما تراه أيها القارئ العزيز - مثل مخازن السمانة، لا أعرف أنظمه على طريقة ال
ABC
لأن جدي علمني، أول ما علمني، الأبجد. فكما يقف المحارب القديم مستعرضا الساحات التي خاض غبارها، كذلك أقف أنا اليوم. في مثل هذا اليوم - 9 شباط - ولدت أنا وازداد عدد النفوس في لبنان واحدا. وقفت أتذكر من عرفت فما بلغت آخر حسي حتى رأيتهم يدرجون أمام عيني فرعبوني. هذا شيخ يدب على العصا، وذاك فتى عجل عليه الموت فطواه الردى، وتلك عجوز صرت الشيخوخة ثنايا وجهها، وهاتيك فتاة ذبلت قبل إبانها. مئات بل ألوف لم يضق عنهم بطن الأرض فصح فيهم قول شوقي:
فيا لك هرة أكلت بنيها
وما ولدوا وتنتظر الجنينا
في هذه المحطة التي أقف فيها كل عام لأودع عاما وأستقبل آخر، وقفت اليوم لا لأقيم حفلة كوكتيل كما يفعل غيري بهذه المناسبة، بل وقفت فنظرت إلى أشباح الماضين، ثم استطردت إلى المقابلة بين الأمس واليوم.
أنظر إلى ناس اليوم فأراهم غير الذين عرفتهم في شبابي. فالموظفون، مثلا، كانوا غير بطرين ولا أشرين، ظلوا متواضعين لأنهم كانوا أغنياء فأفقرتهم الوظيفة، وليس لهم مورد غير معاشهم، ولأن ميزانية ذلك العهد كانت كبركة اليمونة لا تزيد ولا تنقص كما يقولون. وزيادة ربع قرش على مال الأعناق أو الأرزاق كانت تقيم البلاد وتقعدها. أما ميزانية هذه الأيام فكالعجين المخمر يطف على حفافي المعجن فتزداد ملايين بعد الملايين. والمعاشات والدرجات تقفز قفز القبابيط في اليوم القائظ.
وهذا الموظف الحديث النعمة الذي يظن أنه رب ثان على الأرض، يخر على أقدام من هم فوقه ليحظى بالتحية ممن هم دونه. فلولا حبه الظهور لاكتفى بما يقبض ولم يلوث يده، وهذا الجيش العرمرم من الموظفين ماذا يكفيه؟ فلولا وظيفته التي يستغني عن خدماتها لكنا نأكل ويأكل، وننتقل وينتقل بربع التكاليف التي نرزح تحتها الآن.
إن هذا الثوب الفضفاض الذي فصلوه في ساعة طمع وكلب هو الذي سبب هذا العسر والغلاء. كان معاش النائب خمسين ليرة فصار خمسماية، ثم جمز جمزة واحدة إلى الألف، وقس على هذا الوظائف الأخرى عالية وواطية. أما العدد فيزيد وينقص حسبما تقضي الأهواء والأغراض.
والولائم لا أول لها ولا آخر، حكومية وشعبية. الحكومة تنفق من كيس الشعب والشعب بطران لا يقتصد، يتشبه بعضه ببعض والتشريفات الشرقية هي طاعون الميزانية. علينا أن نزور ونزار ، وعلينا أن نودع ونستقبل، وفي الحالتين لا بد لنا من إنفاق الملايين لنكون قمنا بواجب ضيوفنا الأعزاء. كل هذا لم تقع عليه عيني في فجر عمري المديد.
إن هذه التقاليد الشرقية، وهذا التقنفش هو الذي أورثنا هذا الضيق. فماذا يضير الضيف لو زارنا وزرناه برفع الكلفة دون أن تهتز الأرض للقائه؟ ترى ألا يصل بالسلامة إلى المكان المقصود إذا لاقته مفرزة من الجنود وأخذت سلامه فصيلة ولم تحشد القوى كلها؟!
ثم ألا يشبع إذا أكل ثلاثة ألوان، عدا الحلوى والفواكه! والمشروب الوطني؟! ألا يصلح لشرب الأنخاب ويساعد على افترار عن الثغر كما تساعد الويسكي والشمبانيا؟! إن كأس خمرة لبنانية معتقة تعبئ الرأس أكثر من الشمبانيا الفرنسية وبنت عمها الويسكي والسكوتشية، ومع ذلك يقول المغني:
ويسكي ما في
في عرق
لحم ما في
في مرق
رحم الله المصلح بنجامين فرنكلن الذي قال: كم من ضيعة ضاعت حين تركت النساء المغزل في سبيل الشاي، وحين ترك الرجال المحراث في سبيل الكأس، أجل إن القرية اللبنانية خلت من سكانها تقريبا، فالخوف والجهل والمرض متآمرون على سلامتها، يتصلون بالمكسيك تليفونيا، والقرية التي تبعد ربع ساعة عن شط البحر لا تتصل بالطبيب ولا تعرف إلا وجه الجابي والمباشر.
فعلى الرءوس أن يكونوا قدوة للشعب ويقللوا من إسرافهم الذي يتشبه به صغار الموظفين، وما أكثر الموظفين في لبنان. تقطع سرة المولود اللبناني على اسم الوظيفة، وقد ينذر لها في البطن كما نذر شمشون الجبار لله. هكذا تحلم الأم اللبنانية بمستقبل ابنها، فليت موسى بدل بعض وصاياه العشر لتصلح للتطبيق في لبنان. لا تشته وظيفة غيرك. لا تشته مال الشعب الذي وكلتك به الحكومة.
عفوا إذا شبهنا الموظف بشمشون الجبار. وأي جبار يبلغ السماء طولا مثل الموظف، فهو يرى نفسه فوق الناس، يزار ولا يزور ويعاد ولا يعود، ومن المخطئ يا ترى؟! هو أم نحن الذي نفتقده في كل مناسبة؟ إذا حزن عزيناه، وإذا استوحى طرنا إليه وحشدنا قوانا لتأييده. كان بالأمس أديبا كيسا فما عدا مما بدا حتى نرى منه هذا التزنبر! لقد أصابنا معه ما أصاب ذلك اللبناني مع مشايخ ضيعته. كان في ضيعة من لبنان فلاح مكفي، تعشق مسايرة (المشايخ) حتى الوله، واستطيب مذاكرتهم التي تثير الضحك على ما فيها من العبر. فأخذ يتعشى قبل الغروب ليأتي بيوتهم ملس الظلام، ثم لا يعود منها حتى يتدهور الليل.
وكثيرا ما كان المشايخ يزأرونه ولا يحس، ويقابلونه بفجاجة ولا يشعر. يستحلي حديثهم، ولو تماجنوا به وتنادروا عليه، وما كان يهتم في حضرتهم إلا بأن يقول كلمة جرت العادة في قولها عندنا للشاربين: هنيئا يا سيدي، أو هنيئا لمن شرب، أو صحة وعافية، بحسب مراتب الناس.
وأخيرا تعود المشايخ رؤية هذا الضيف، فألفوه، وتغير نظرهم فيه حتى صار في عين نفسه كأنه واحد منهم، فطيف بالشراب عليهم جملة، ذات ليلة، فأدى صاحبنا مهمة: هنيئا يا سيدي، لكل واحد منهم. ثم جاءت نوبته فشرب وأجال نظره فيهم فإذا هم في شغل عنه. ورأى أن يتنحنح ففعل، ثم أح، ثم سعل. وما من يلتفت، فانشق صدره من الغيظ حتى عدا طوره وقال لهم: محسوبكم شرب يا مشايخ! فأجابه أحضرهم نكتة وألذعهم نادرة: (كل عمره يشرب). فكركروا جميعا في الضحك، ولم يفز صاحبنا منهم بكلمة (صحة) حتى بعد استجدائها.
فمن الملوم يا ترى؟ ألسنا نحن الملومين لأننا أعطينا هؤلاء الناس أكثر مما لهم. ألم يكن سامي بك الصلح على حق حين قال: (إنه سيقترح على الحكومة تغيير اسم الموظف باسم خادم الشعب حتى تسير قضايا الدولة والشعب في الطريق المستقيم).
فما معنى كلمة الوظيفة التي اشتق منها اسم الموظف؟ هي طعام ورزق محددان يتناولهما المستعمل ممن استعمله، ومن يأكل طعامك وجبت عليه خدمتك. إذن الموظف خادم أمين شريف يأخذ الجراية في حينها فيأكل رغيفه بعرق جبينه، وعليه أن يتم الأعمال في مواقيتها. أما الموظف الذي يريد أن يسميه سامي بك خادما فقد سماه المعري، منذ ألف سنة، أجيرا.
الملبوس لا يعمل القسوس. فالبابا كان يوقع فيما مضى عبد عبيد الله ، والبطاركة والأحبار وغيرهم يوقعون الحقير والفقير، والكردينال مري دلفال، وزير الفاتيكان على عهد بيوس العاشر، وقع لي: خادمكم المطيع.
كأن سامي بك، وهو أستاذ الشرق اللبناني الأعظم، يريد أن يحد من أرستقراطية الموظف وغطرسته حين فكر بهذا الاسم، ولكن أي موظف؟ ذاك الذي يتغطرس ويتفرعن، ويتسلطن كديك الحبش؟!
أليس هذاك الذي قذفته سخرية القدر إلى دور الحكومة فجلس على طنافسها، بعدما كانت قوائم كرسيه من خشب الحور الخام، ومقعدها حبال قش فتلت فتل شزر!
ومن ينتفخ كضفدع لافونتين؟ أليس ذاك الذي جاء السراي ببنطلون كأن قفاه خريطة جغرافية للخطوط الحديدية، ثم صار حين امتدت يده إلى المال السائب يبدل كل يوم حلة؟!!
أليس ذاك الذي جاء منتعلا بوطا مفلطحا كأنه خف جمل، مرقعا كمداس أبي القاسم الطنبوري، ثم صار اليوم من زبائن النجار وباتا، وأشهر الماركات المسجلة؟!!
أليس ذاك الذي كان يفترش أرض غرفته، وإن استراح نام على سرير ثرثار، كان يفر من تلك الزريبة مع الفجر لئلا يفاجئه أحد فيها، ولكنه صار بنعمة (الأمانة) من زبائن أشهر مصانع الموبيليا، ومخازن السجاد العجمي، وكل ذلك بفضل الغفلة وسوء التربية؟
أليس ذاك الذي كان كابن الإنسان ليس له مكان يسند إليه رأسه، فصار صاحب دار وعقار وسيارة وخدم، وهو إذا شبع من راتبه الشهري عري، وإن اكتسى جاع؟
لا بأس بتسمية الموظف سيدا، إذا كان أمينا، أما أن نسميه خادما، ويده طويلة، فهذا والله، كثير عليه يا بيك!
فمن المسئول عن هذه الكبرياء العارمة عند الموظفين، أليست النظم الحكومية التي جعلت درجة رؤساء الجامعات رابعة عشرة حين زارنا عظيم من عظماء الشرق؟ ألم يأتوا بعد آخر موظف؟
وفي أي مناسبة دعي واحد من رجال الفكر إلى تلك المآدب التي هي من مال المكلف اللبناني، فكأن لبنان كان موظفا في مطاوي تاريخه ولم يكن فكرا. فساعة يريدون يتحدثون عن الإشعاع وكأنهم هم راديوم المعرفة الذي لا ينقطع إشعاعه، وساعة يريدون يطفئون القناديل إلى حين كما تفعل عجائز القرية في تساعية الميلاد، أو جمعة الآلام، حين يحضرن الصلاة في الكنيسة.
قلت: فوق أنهم لم يدعوا أحدا إلى مأدبة حكومية على وجه التعميم، مع أنني عرفت أنهم دعوا مرة شاعرنا العظيم بشارة الخوري - الأخطل الصغير - إلى مأدبة ما، ولكنهم حددوا له ثوبا بعينه. فكأن بشارة لا يكون بشارة الخوري إلا إذا لبس الفراك أو الردينكوت. نسوا أنه كسا لبنان من قريضه حلة لا تبلى ولا تخلع.
نحن غرباء في وطننا يتمتع غيرنا بما نغذي به الصندوق من ضرائب ظاهرة ومستورة، ولا نحصل على رغيف نفك به ريقنا.
ستر الله علينا وعلى حكومتنا التي أصابنا معها ما أصاب يوسف ساسين العاقوري مع رئيس دير ميفوق في ذلك الزمان. زار الشيخ يوسف ذاك الرئيس فوجده مهموكا باستقبال سيدة جليلة اسمها أم حنا، فلم يبال بالشاعر العامي، فنام الشاعر تلك الليلة على مضض. وفي الغد صعد إلى الخورس وخدم القداس لرئيس الدير فأعجب بصوته وحسن ترنيمه. ولما بلغ (فلنقف حسنا بأجمعنا) صرخ الشيخ يوسف ببيت نظمه هو على ذلك الوزن فقال:
جينا لدير ميفوق نتكنى
قدرنا الريس بيسأل عنا
وأنا عتبي على ربي
اللي ما خلقني مثل أم حنا
فهل نعجب بعد هذا إذا رأينا حركة سير الدولة لا تتعرقل إلا عند التعيينات والمناقلات. فالتوظيف قوام الدولة عندنا. أقول الدولة وأعني ما أقول، فلم يقر لنا وطن بعد. وهل نعجب إذا رأينا هذا التهافت على الوظائف؟ تصور أن واحدا خفيف العقل قعد مرة قدامي في إحدى الحفلات، وشاء أن يعتذر عن تصدره فقال: لا تؤاخذني. بحكم الوظيفة.
ويا ليتك تعرف ما هو، كاتب صغير، قضى في المدرسة سنوات وظل يكتب أيضا أيظا. ولكن وراءه لحية كالتي وصفها ابن الرومي، استطاعت أن تجلسه على كرسي سيقانها من قصب، فصار (ابن حكومي) كما تقول والدته.
هذه نتفة من ذكرياتي يوم مولدي، وعش رجبا ترى عجبا.
الدنيا واسطة
إنها كلمة تدور على رأس ألسنتنا وهي التي حطمت شخصيتنا وأفقدتنا الاعتماد على أنفسنا، فأفراد العائلة يتوسط بعضهم لبعض. الابن يتوسط لأخته عند أبيه وبالعكس. والأم تلجأ إلى بنيها والأب كذلك، وهكذا دواليك حتى إنه لا يطلب شيء في البيت من مرجعه مباشرة، ولا يذهب أحد إلى الهدف توا.
فكرت في ذلك كثيرا لعلي أهتدي إلى موضع الداء فما وجدت لهذه العلة تعليلا إلا نشأتنا التوكلية. فالوساطة والشفاعة طبيعية في الإنسان، وجدت فيه منذ البدء، منذ خلق الإنسان الآلهة وجعلها من ذوات الاختصاص. فللزرع إله. وللخمر آخر. ولكل غرض من أغراض الحياة قديس وولي حتى الحبل والولادة. ولما صار الله الواحد الأحد فوق الجميع تحول ذاك الاختصاص إلى القديسين والأولياء فصاروا كالأطباء اليوم. هذا للأذن، وذاك للعين، وهذاك للرأس، وغيره للصدر ... إلخ.
لم أجد تعليلا أقرب إلى الحقيقة من هذا. وإلا فلماذا نرانا نلجأ في حل أبسط قضايانا إلى الواسطة؟! فإذا قلت لأحدنا: أنت يا صاحبي صاحب حق، فما حاجتك إلى الواسطة؟ أجابك وهو يأكلك بعينيه: الدنيا واسطة، وإلا فلماذا نصلي إلى الله؟! ولماذا ننذر للقديسين؟ ولماذا نبتهل ونتضرع ونقرع صدورنا؟! ولماذا نوقف أملاكنا في سبيل الله؟! ألسنا نفعل ذلك ابتغاء رضا الله عنا وإدخالنا جنته ونعيمه؟ وإذا قلت لآخر: ولماذا تقف على الأبواب ما زلت تعرف أنك صاحب جدارة وكفاءة؟ أجابك. إن لمزاحمي يدا قوية. هو ظهره قوي وأنا مقطوع الظهر. فما عساي أنال إذا لم يكن لي شفيع عند أصحاب الحل والعقد؟
أما سمعت بحكاية تلك المرأة؟ أراد أهل الحي الذي تقيم فيه أن يخرجوها منه؛ لأن مقامها رجس عليهم لسوء سيرتها، فطلب القاضي من أهل الحي عريضة موقعة من عشرين أو ثلاثين رجلا ففعلوا. وقبل الجلسة التي كانت في أيام نضج التين هيأت تلك المرأة سلة وعبأتها جاعلة في كل تينة دينارا وحملتها إلى القاضي، ولما لم تقدر على الوصول إليه سلمت السلة إلى الحاجب، فأعجبه تينها فأكل واحدة منها، فإذا بدينار يقع تحت أضراسه فأخذه. وجرب تينة ثانية وثالثة فإذا الأمر كذلك، فتوقف عن الامتحان. أدرك أن تلك المرأة داهية من الدواهي، وراح يحمل الهدية إلى القاضي وأنبأه بسرها الغريب، سر التين المحشو ذهبا.
ورفعت العريضة الموقعة من أهل الحي إلى مقام القاضي العادل وعليها توقيع ثلاثين رجلا فقال القاضي: ولكن جاءني وفد يقارب الخمسين وجميعهم شهدوا بحسن سيرة المرأة فلا تظلموها.
فقال الحاجب: وبقي ثلاثة أربعة عندي فلم يؤدوا شهادتهم.
تلك هي حالتنا. ننشأ على الاعتقاد بأن الدنيا واسطة فنلجأ إليها في كل موقف، وشعارنا دائما: الغاية تبرر الواسطة. كانت الأستانة تعين متصرفا للبنان كل خمس سنوات، فتحمي سوق الوسائط في لبنان. تهبط الوجوه والأعيان من طلاب الوظائف إلى بيروت فتراهم مصطفين على أبواب القنصليات كعصفور العابور على قضيب الدبق، ونبدأ الاتصالات بالسفراء لعزل فلان وتنصيب فلان، فالبطرك الفلاني يوصي بفلان وهذا المطران يريد غيره، ويجيء المتصرف فتعفر الجباه على أعتابه والقلوب تدق، ثم يبدأ العزل والتعيين وهو في البحر إذ لم يكن في ذلك العهد رفع حصانة، فالقانون في فم المتصرف.
وإذا كان حاكم لبنان غير أهوج مثل مظفر باشا تأنى قليلا، وطمع في غلاء الأسعار وكثرة الهدايا، فالوظيفة في ذلك الزمان كانت أقصى ما يطمح إليه أبناء البيوتات في لبنان. يتنازعون عليها وينفقون بغير حساب، ومن فاز بها كان صاحب المقام الرفيع. وهكذا طارت العقارات عقارا إثر عقار، وصار الأولون آخرين والآخرون أولين. كانت الوظيفة في ذلك الزمان تأخذ ولا تعطي، ولا تفجر الثروة أنهارا.
حكي أن الشيخ رشيد الخازن أوصت به السفارة الفرنسية في إسطمبول ليعود إلى قائمقاميته فخف إلى البحر ليرحب بقدوم المتصرف الجديد، وكان ذاك المتصرف خفيف الرأس ابن حلال، فحين عرفوه بالشيخ دق على قفاه، أي على جيبة بنطلونه الورائية وقال له: طمن بالك يا شيخ رشيد، أنت هنا.
فانصرف الشيخ مطمئنا مرتاح البال. وانتظر حينا، ثم عاد ليسمع المعزوفة الأولى أي الدق على القفا، وظل يروح ويجيء. وأخيرا عاد ليقدم الدولة المتصرف إصبعا ظنه إصبعا ذهبيا لأنه ألف رؤية مثله، فانتفض المتصرف وقال: ما هذا يا شيخ رشيد؟! فقال الشيخ: هذا إصبع شربة ملح إنكليزي يا أفندينا حتى تخرجني من ذلك الموضع.
وإذا كنا هكذا نشأنا منذ قرون فهل ينتظر منا العدول عن الواسطة في جميع أعمالنا؟ فنحن متكلون على الواسطة والشفاعة منذ وجدنا، وقد كان القدماء يفرقون بين شفيع وشفيع، فهناك الذي لا ترد شفاعته، بينما شفاعة غيره لا تقبل ولذلك قالوا:
ليس الشفيع الذي يأتيك متزرا
مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
فإذا سألت واحدا عزل لارتكاب أو اختلاس، ثم عاد مكرما وارتقى درجات: كيف عدت يا هذا؟! الحمد لله على السلامة. أجابك بكل رباطة جأش ووقاحة: كانت الواسطة قوية جدا.
وإذا سألت آخر: كيف وصلت إلى هنا، وليس فيك الشروط المطلوبة؟ أجابك بعين مفتوحة: كله خلط! الدنيا واسطة.
ويجيئك واحد ويسألك: أتعرف فلانا؟ فتجيبه نعم أعرفه، فيفتح أمامك كيس بضاعته مستجيرا بقوله: خلصنا. ما بقي إلا نتفة واسطة وبس. فبحياتك ساعدنا، أنت صاحبه، وينام على يدك.
وإذا سألت غيره: كيف خلصت من تلك الورطة؟ أجابك: واسطتي قوية جدا جدا، والواسطة كما تعلم غير منكورة. وكما في السما كذلك على الأرض!
وإذا سألت الحقوق المقبورة في الأدراج: أي سليمان حبسك في هذه القماقم حتى نمت هنا على فرد جنب؟!! أجابتك: إنها كلمة قادر يقول للأمر: كن فيكون، بل قل: هي وحي يوحى، وهذه هي الواسطة الكبرى.
هذا إذا كنت توفق إلى وسيط صادق، أما إذا كان من يشفع بك من الذين يأكلون الطعم ويقضونها على الصنارة فالويل لك. إنه يحملك خازوقك على كنفك ولا تدري. تقتل الأيام بين ذهاب وإياب وروح وتعال، تارة يستقبلك وطورا ينهزم ويتخبأ، وقد لا يحدث بشأنك أحدا ويزعم لك أنه أقام الدنيا وأقعدها من أجلك.
لست مجنونا حتى أنكر فعل الواسطة وألوم من يتوسطون الناس في قضاء حاجاتهم، ولا أقول لهم دعوها لأني أعلم أن الناس مطبوعون عليها، والغريق يتعلق بحبال الهواء. أما رأيت من يلجئون إلى رسائل التوصيات ويزورون الوسطاء؟ أما يتوسل الناس بالسحرة ويعتقدون أنهم يمهدون العقبات؟
وأخيرا نقول: ما أكبر مصيبة من يئول إليهم أمر الحل والربط والتوظيف والعزل، فإن الناس يقلقون راحتهم وراحة من عندهم من أهل حتى الخدم والحشم، حتى تتعذر عليهم الاستراحة في بيوتهم. إن أولياء الأمور لا ينكرون ما قلت عن الواسطة، فكثيرا ما يصرحون أنهم يتكتمون في إجراءاتهم خوفا من المتوسطين متزرين وعريانين.
مساكين نحن البشر! قرأت أنه صنع في الريو دي جانيرو كأس علوها متران ونصف، وهي معمولة من مائة وخمسين كيلو من الذهب، ومرصعة بالجواهر حتى بلغ ثمنها المليون. ترى ألم يصنع هذا كله واسطة للتقرب لله؟ مع أن حمل الله قال: أريد رحمة لا ذبيحة.
إذا قلنا: إن آغا خان ينتفع بالذهب الذي يوزن به فما حاجة القربان إلى كأس وزنها مائة وخمسون كيلو، وعلوها متران ونصف المتر؟! وبعد ألسنا في حاجة إلى سلم يمكن الكاهن من المباركة عليه؟
أليس يحتاج إلى جرة نبيذ وصينية خبز؟ إنه منسف!
وأخيرا أقول: كل هذه وسائط مختلفة عرضا متفقة في الجوهر، والله الهادي إلى الصواب. ثم كيف لنا أن ننكر الواسطة ما زالوا يزعمون أن الوسيط يخاطب الأرواح، وأنه إذا كان ملكة جمال كان مستطيعا أكثر. وكان أقوى وأفعل لأن الله جميل ويحب الجمال.
ولولا الوسائط لم تكن عيال بأسرها، بل قرى ومدن وقصبات تستأثر بوظائف الدولة ومرافقها! أما من ليس لهم يد وواسطة، فلينتظروا.
لا يحولون ولا يزولون
قيل لي: أما أنا فما زرت أوروبا ولا غيرها. إنهم هناك يعينون في المخازن الكبرى مستخدما (برسم البهدلة) فكل تقصير مع الزبائن ينسب إليه ويصب عليه الخواجه جام غضبه حين يشكو إليه أحد إبطاء أو تأخيرا. وكذلك فعل بنو إسرائيل حين صبوا تمثالا سموه (تيس الخطية) فكانوا يتمسحون به ليحمل خطاياهم عنهم، ثم يذبحونه ليبرءوا من ذنوبهم. وهكذا نحن نعيب زماننا والعيب فينا، فلو تطهرنا من عنعناتنا عمليا لا قوليا، اختفت أعراض الطائفية التي هي كالعر - الجرب - يكمن حينا ثم ينتشر. إن وباء الطائفية منتشر اليوم أكثر منه في كل زمان، والطائفية عندنا.
كأهل النار إن نضجت جلود
أعيدت للشقاء لهم جلود
ندعي نحن أننا من أبناء عصر النور، وأن المرحومين جدودنا عاشوا في الظلمات، ولكننا إذا قسنا أنفسنا بهم رأينا أنهم كانوا أكثر تساهلا منا. كان جدي يتمون ويتبضع كل عام من طرابلس، ولم يكن يطيب له شراء مئونته وحوايج بيته إلا من عند الحاج مصطفى. فلا ينتصف شهر آب ويأتي عيد السيدة وهو ميزان الأسعار عند القدماء حتى يتحرك موكب الدواب ويركب الخوري بغلته ويسير في الطليعة، حتى إذا ما بلغ أبواب المدينة مشط لحيته ونفض عنه غبار الطريق، ثم يتوغل فيها حتى يحط الرحال بباب مخزن الحاج مصطفى، فتتشابك اللحى وتتهادى كالمراوح، ويموج القاووق والعمامة كهرمين صغيرين، ويرى من في السوق حاجا طرابلسيا وكاهنا مارونيا جبليا يتعانقان ويتصافحان بشوق. ولا يأتي المساء حتى يحل الخوري ضيفا مكرما في بيت الحاج. يصلي كلاهما صلاته في حينها، وصلوات الخوري الماروني خمس كصلاة المسلم. الصبح والظهر، والعصر والمساء، والليل. حتى إذا ما انتهت صلاتهما استأنفا الحديث. وبعد يومين ثلاثة يفرغ جدي من تعبئة المئونة وتمشي القافلة على خيرة الله طلوع النجمة، وتمسي في عبرين لتكون في الغد، عند انتشار النهار، في عين كفاع.
وفي إحدى السنوات افتقد جدي كيسه عند عودته من طرابلس فلم يجده، فضفقت الخورية كفا على كف، وصاحت يا خراب البيوت. اقطع الشك يا خوري حنا. فقلب الخوري جيوبه لها ونفض كمره فلم يعثر على شيء، فقعد كئيبا يفحص ضميره ويتذكر. المبلغ غير قليل، وهو الحيلة والفتيلة كما تقول العوام. وظلت الخورية واقفة واجمة، وأخيرا انفجرت فزجرها الخوري قائلا: المال الحلال لا يضيع.
ومر شهران والمال الحلال لم يرجع والليرات الذهبية ظلت في غربتها. وجاء موسم الزيتون فغدا الخوري ليقدس ويذهب إلى القطاف. وبينا كان يدور في الكأس رأى رأسا عليه لفة امتد من الباب وارتد، فخال أنه شبه له. وانتهى القداس وما خرج الخوري من الباب حتى رأى نفسه أمام مسلم يسلم عليه بوقار ودالة. وتعارفا أخيرا وقال الرسول لجدي: صاحبك الحاج مصطفى يسلم عليك، أرسلني حتى أسلمك هذه الأمانة.
وعاد الكيس والليرات واغتبطت الخورية: يسلم دين لحيتك يا حاج مصطفى! وأراد الخوري أن يكرم الرسول الذي يمشي ثلاثة أيام ذهابا وإيابا فأبى الرسول قائلا: أجرتي واصلة لي من الحاج، حرم علي أخذ بارة واحدة منك وهو يسلم عليك ويقول لك: ما وجد طريقة أمينة حتى يرسل إليك حلالك قبل الآن.
وامتنع الرسول حتى عن الزاد، لأنه مزود من الحاج فصح قول الشاعر: ويأتيك بالأخبار من لم تزود. وكان جدي - رحمه الله - والحاج مصطفى، كلما روى لنا تلك القصة، يقول: العلة في البشر لا في الدين.
لقد سبقنا الأجانب في كل شيء حتى الصلاة، فإنك تقرأ صلاتهم فتراها عمومية ولا تشعر بأثر طائفي فيها، وكذلك لباسهم فهو لا يشير إلى لون من ألوان الملل والنحل، أما نحن فالثياب تفرقنا، والأسماء تميزنا، والصلوات وألحانها تدل على كل ملة وطائفة، وخصوصا في لبنان هذا الكوكتيل الغريب العجيب.
يخترع العلماء اليوم آلات ليدرسوا بها الشمس عن قرب، فهلا حاول أحد هؤلاء الجهابذة اختراع آلة تدرس لبنان وطوائفه.
الفلكيون يكتشفون نجوما جديدة وكواكب جديدة إلا أقمار لبنان وكواكبه ونجومه، فهم في كل فلك يسبحون. ففي فلكنا السياسي الطائفي كوم ثريات، وموازين، ومجرات، ودبب كبار وصغار، كما في الفلك تماما. ترى إذا أجلنا فكرتنا وفتشنا أبعاد نظام فلكنا السياسي الطائفي، ألا نعثر على نجم أو نجوم جديدة تضيء لنا في الليلة الظلماء؟
ترى أي فرق بين لبنان العصر العشرين وبين لبنان القرن التاسع عشر والثامن عشر. كانوا يسمون ذلك العصر إقطاعيا لأن كل مقاطعة كانت لواحد، واليوم يقتطع النواب البلاد باسم النيابة والنظام البرلماني، فتطلق أيديهم في مناطقهم ويتصرفون كأنهم في عهد الإقطاع. ناهيك أن رجال السياسة هم هم، كأنهم حجارة الداما. ترى أليس في البلاد سواهم!؟ وإذا قلت هذا قالوا لك الطائفية.
أمنا يا سيدي. إنها الطائفية، ولكن في الطوائف غير هؤلاء. هل ورثوا الحكم والوظائف مع ما ورثوا من عقارات؟ استند الشارع إلى الطائفية ليحد من طغيان ملة إلى ملة، ولم يقل بالطائفية لتظل مقدرات الدولة في يد بيوت معلومة لأنهم توارثوا الوظائف كابرا عن كابر.
إنها، والله، إقطاعية لا طائفية، ففي كل طائفة رجال كثيرون فلم لا نجربهم؟ والشباب لماذا لا نمرنهم؟ على الأقل الطائفية تقول بالمساواة بين الطوائف في الوظائف ولا تقول بالحصر والاحتكار. لقد جربنا من جربنا من الناس فلماذا لا نجرب غيرهم؟
وإذا كان لبنان دولة ديمقراطية علمانية حقا، فأين الوجوه الشعبية الجديدة التي تطل علينا؟
تتغير رجالات دول الأرض في استمرار، فأسماء تغيب وأسماء تبدو ثم تختفي إلى ما لا نهاية له، إلا عندنا في هذه البقعة من الأرض، فإن رجالها في متاريسهم ثابتون، والثابت وجههم ووجه الله.
سوس وقراد
تنكر نابليون وركب جواده لنزهة، فأقبل بعد مسير بضعة عشر ميلا، على فلاح عملاق مكب على مجرفته يسوي بها الأرض، فحياه الإمبراطور وسأله: أتغل لك هذه الأرض ما يكفي عيالك؟
فأجابه الرجل: الأرض كريمة وفية يا سيدي، تدفع الدين أضعافا. - ولكنها مزرعة صغيرة جدا يا شيخي!!
فابتسم الفلاح وقال: والأرض كالرجال لا تقاس بالطول والعرض. صدقني، إذا قلت لك، أوفر كل عام نحو ألف فرنك، مع أن عائلتي أحد عشر.
فتعجب نابليون وصاح: كيف؟!!
فقال الفلاح: حياتي يا سيدي، قلع وزرع. لا أستريح ولا أدع الأرض تستريح. من الزرع إلى الضرع، ومن الدجاج إلى الأرانب، ومن الغنم إلى الخنازير. ثم لا تنس التدبير، فحكمة المرأة نصف المحصول. عندي فرس، إن لم يكن كريم الأصل كحصانك، فهو أنفع منه. يفلح ويطحن، ويجر المركبة، ويسرج للركوب. وعندي - أجل الله شأنك - كلب صيد يملأ البيت لحما. ولي أيضا جار رضا أعاونه ويعاونني، يوما بيوم وأسبوعا بأسبوع. الأولاد الكبار يعملون معي، والصغار يتعلمون مجانا، ومجانا أيضا نطبب ونداوي. - يظهر أنك راض عن الكورسكي.
فصوب الفلاح إصبعه صوب السماء وصاح: لا تقل الكورسكي. قل يعيش الإمبراطور.
فابتسم نابليون وهتف: يعيش الإمبراطور.
فقال الفلاح: الآن شرحت صدري. ثم التفت صوب بيته وصاح: هيلين، يا هيلين، هاتي لنا قنينة نبيذ لنكرم الزائر الكريم. ثم كانت منادمة لطيفة شربا فيها نخب الإمبراطور. وأخيرا عرف نابليون الفلاح بنفسه، وسأله - بعد أن أجازه - ألا يبوح بسره لأحد قبل أن يرى الإمبراطور مرة ثانية.
وبعد العشاء، عمر مجلس الإمبراطور بأركان حربه كالعادة، فقال لهم: عندي جائزة قدرها خمسمائة ليرة لمن يرسم خطة لاستغلال مزرعة لا تزيد مساحتها عن ثلاثة هكتارات، وتكفي غلتها عيلة عددها أحد عشر شخصا، ويوفر صاحبها ألف فرنك كل سنة. فقعد الأركان يحكون رءوسهم طول السهرة، فلم يخرج منها شيء.
لم يفت المارشال ناي - رئيس الأركان - أن مولاه الإمبراطور رأى تلك المزرعة في نزهته أمس فبكر إليها. أمطر صاحبها وابلا من الأسئلة فما ظفر منه بغير الابتسامة الحائرة وهز الأكتاف. ولما لجأ إلى المال تمت له الصفقة بخمسين دينارا انتقاها الفلاح من بين مائة، ثم باح بسره، ورسم المارشال الخطة وأحرز الجائزة.
وجاء نابليون المزرعة بعد الغد، وعنف الفلاح لأنه لم يف بالعهد، وأفشى السر قبل أن يراه مرة ثانية، فضحك الفلاح وقال: خمسين مرة رأيتك يا مولاي. ثم أخذ يريه الدنانير المرسومة عليها صورة نابليون واحدا بعد واحد، فأعجب نابليون بذكاء هذا المواطن الساذج.
تذكرت هذه الحكاية لما قرأت في جريدة (الفكر) الأردنية، موازنة مثالية وضعتها لموظف عنده أربعة أولاد، وراتبه ثلاثون دينارا أردنيا، أي 265 ليرة لبنانية. عصرت الجريدة تلك الموازنة أشد عصر، وقترت على الموظف ما استطاعت، وظل العجز الشهري ثمانية دنانير وثلثي الدينار، فاقترحت على قرائها مشاركتها في بحث المعضلة لعلهم يرفهون عن الموظف المسكين.
حقا، إن الأرض تفرق على شبر!! فكم من موظف حقير عندنا، راتبه أقل من راتب الموظف الأردني، وعيلته كعائلة الفلاح النابليوني عددا، ومع ذلك يشكو الكظة والبشم، كان ومن عنده ينامون على الحصير، فصاروا بعد أن تعلق هذا القراد بجسم الدولة، على سرر مصفوفة متكئين عليها متقابلين، وإذا سألت من أين؟! ذكروا لك سمكات المسيح وخبزاته.
ليتهم يعلمون أن العث مهما رتع في الصوف، ومهما انتفخ وتفلطح يظل دودة حقيرة، والسحق أمامه ولو بعد حين.
إقطاعية برلمانية
ما سمع سماسرة الانتخابات بزيادة عدد النواب، وإن معركة نيابية حامية ستقع، حتى انتشروا في العاصمة. خرجوا جميعا من أنفاقهم كما يخرج البزاق في أول الري، وذرت أنوفهم كما تذر قرون تلك. إنهم أدق شما من النمل وأكثر جولانا من النحل. - جاءت الرزقة. هكذا قال لي أحدهم حين نكبت بلقياه في ساحة البرج.
فقلت له: بكرت يا صاحب.
فأجاب وهو يسن أضراسه: أما قالوا الضربة لمن سبق؟
فقلت له: وكيف السوق؟
فقال: مع السوق نسوق.
وما ودعته حتى التقيت بآخر، وبدون حيا الله، وسلم الله قال: ما أكثر المرشحين!
قلت: وكيف جيوبهم؟
فقال: لا ينزل إلى هذا الميدان إلا كل محجل الثلاثة (مطلوق) اليمين.
فقلت: وأنت لمن في هذه النقلة؟
فقال: أنا للجميع في أول الميدان، وللزائد الأخير أخيرا. ألا تعرفني؟؟ داعيك لا يقع على جمرة حزة.
قلت: بلى، ولكن هم أيصدقون دائما من يضحك عليهم؟
فقهقه وقال: الغريق يتعلق بحبال الهواء. وهل النيابة لعبة؟ النيابة هي المتجر الرابح. تفضل اقعد معي نشرب فنجان قهوة.
ومشينا وهو يردد ما قاله أبو نواس حين استطاب الحج مع جنان:
ليت ذا الحج كان فرضا علينا
كل شهرين حجة واعتمارا
تعرف يا معلمي تلميذك. فأنا لا شغل لي غير هذه الحركة. عجزت عن الوقوع على شغل فاشتغلت بالناس، وكل مرة نلاقي عميان قلب. ربك خلق دودة في صخر وخلق لها معاشها. نشكر الله.
فقلت: ألف مرة. - يا صبي، هات كراسي. قهوة شغل يديك الحلوين.
ثم حملق بي وقال: نعم يا سيدي، سألتني عن المرشحين. إنهم أكثر من الهم على القلب، فكل من معه مبلغ محترم يريد أن يرشح نفسه، ونحن على استعداد تام لخدمته، الوعود كثيرة، ولكني أتغداهم قبل أن يتعشوني.
سألتني عن إقبال الموسم. ولماذا لا يكون الموسم مقبلا؟ ما دام المعاش الشهري ألف ليرة، والخدمة حرة. إن حضرت الجلسة كان به وإلا فليس من يطالبك، ولا من يجبرك على الحضور. أي موظف في الدنيا حر مثل النائب؟
وإذا كنت صاحب مهنة كمحام أو طبيب، أو أو ... تربح زبائن لأنك مرهوب الجانب، وشعارك قول الشاعر:
إذا أنت لم تنفع فضر فإنما
يرجى الفتى كيما يضر وينفع
وما هو النائب في لبنان؟ قل.
قلت: أنت أخبر.
فقال: أستغفر الله. هذا تواضع منك.
وسعل سعلة رنانة لفتت إلينا الأنظار ولكنه لم يبال وقال: النائب حاكم إقطاعي، يده مطلقة في المنطقة، وإذا مد نائب آخر، أو موظف - مهما كبر - يده إليها يقطعها من الكوع، وإذا الحكومة فكرت بذلك هددها بسحب ثقته الغالية، الحكومة معرضة للهزات كل يوم. أما النائب فيفعل ما يريد في ظل الحصانة. فيد القضاء قصيرة عنه، وبعد انقضاء المدة يربح مدة جديدة. ينصر حزبه فيكون لهم الغنم ولغيرهم الغرم. وإذا كان داهية يربح قسما من خصومه ومعارضيه. وكما نحرك نحن اليوم يحرك هو بعد حين، ولا حركة بلا بركة. - تفضل اشرب. بردت قهوتك.
قال هذا وأخذ يحتسي فنجانه على مهل، وعيناه شائحتان في المدى الأبعد كأنه يجمع ما عنده بعد، وكأنه أفاق فانتفض وقال: إيه. عظيمة النيابة عندنا. كلها منافع مثل زيت الغار.
فضحكت وقلت له: يا مضروب، تعرف كل الأمثال.
فقال: لا تقاطعني. ماذا قلنا. إيه. عظيمة النيابة؟؟ تقف الناس على أبوابك وينتظرون في الدار ساعات حتى يصبحوا جنابك ويمشوا في ركابك. وإن وفق الله وصرت صاحب معال فهناك العلا والعز، تكون مطلق اليد في مقدرات البلاد. الضيعة التي كانت عليك تحرمها من كل المنافع، وتعطي زلمك أين كانوا، لأن الذي له يعطي ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه الذي له، وهكذا تدحش مؤيديك، وتكحش معارضيك. وإذا لم تقدر على العزل تستطيع النقل والنفي والإبعاد.
تزود أنصارك ببطاقات التوصية إلى كل مكان، أما الذين لا تثق بهم فلهم البكاء وصريف الأسنان. ترقي من تشاء وتحمي من تريد. أنت والحكومة (خوش بوش) حك لي أحك لك. تمنع من تشاء وتعطي من مال الدولة ومنافعها من تشاء.
وإذا مشيت بين أعوانك فأي ديك حبش يضاهيك، تسلح الجذعان ليمشوا خلفك وقدامك، وإذا شئت أن تركب فما عليك إلا أن تزور أقرب قرية من مقاطعتك فتركب حميرا بلا براذع.
والتفت إلي ليقول لي: وتسألني بعد هذا عن وجود المرشحين، وعن طلائع موسم الانتخابات. مقبلة جدا إن شاء الله.
ونهض فجأة كالمجنون وركض فاجتاح الكراسي في طريقه، والتفت فرأيته يسلم على أحد الزعماء. ومشى معه فدفعت أنا ثمن القهوة، ومشيت.
وما خطوت خطوات حتى التقيت بقرين له فقال لي: رأيتك قاعدا مع فلان. أتصدق هذا الكذاب؟! لم يترك بابا إلا شقه في هذين اليومين. نحن نحكي الصحيح وهو يكذب. ومع ذلك أسهمه مرتفعة أكثر من أسهمنا. الناس لا يصدقون إلا من يكذب عليهم.
وعاد الرجل بعدما ماشى الزعيم مسافة، ودعاني أيضا إلى الجلوس ليتم ما بدأ به من دراسة النيابة وتحليلها فقلت له: مشغول يا صاحبي.
وهكذا ودعت الاثنين معا، وتركتهما فدخلا القهوة وقعدا يرسمان الخطط العتيدة، كمساهمين في شركة.
كالعيس في البيداء
تمرون الديار ولم تعوجوا
كلامكم علي إذن حرام
بالقرية يتغزل الشعراء عاميهم وفصيحهم، والأدباء قصصيهم وكاتب المقالة منهم، حتى تحسب القرية ذلك الفردوس الذي ركبت المخيلة البشرية عناصره. والقرية حسناء رائعة ولكنها منتوفة. ما عليها ثياب غير أطمار كما قال الأخطل التغلبي في ذلك العلج وخابيته التي لها رداءان. واحد نسيج العنكبوت، وآخر من ليف ومن قار. نسيت وأهملت حتى تضاءلت: كتضاؤل الحسناء في الأطمار.
يتغنى الشعراء عن شوقهم إلى القرى ويحنون إلى رؤية وجهها الجهم، والقرى ليس فيها من القرى غير الخبزات والبرغلات. فأهلوها يتسكعون في ظلمات البؤس والحكومة غافلة عنها وعنهم لا يهمها غير تزيين المدن. يجودون على هاتيك بالكماليات، ويبخلون على الضيعة بالضروريات، فهي ليست غنية إلا بما وهبتها الطبيعة من هواء ونور شمس.
كأن الدولة بائع خضرة يوجه سحارته بالجيد من المحصول، إنها لا يعنيها إلا المدن فتملؤها نورا وماء وأدوية وملاجئ ومدارس. أما القرية فلها جحيمها المقيم. فلا مواصلات ولا أطباء. يمرض الواحد منهم ويموت ولا يعلم به أحد.
هذه أعمدة كهرباء نهر البارد منتصبة على القمم المحدقة بقريتي كالجبابرة العماليق، تحمل النور من نهر البارد إلى المدينة، ونحن نعيش في الظلام. إن الجوعان يكفر بربه حين يرى القدور ملأى بالطعام، وقد ملأت رائحته خياشيمه. أفلا نكفر نحن حين نرانا في منتصف القرن العشرين وكأننا في منتصف القرن التاسع عشر؟ الكهرباء تجري على رمية حجر منا وأعمدتها الجبارة كأنها تقول لنا (زرك عينك).
أعطي امتياز الكهرباء حتى قرية معاد. فإذا به يصغر ويصغر حتى اقتصر على جبيل وعمشيت. فهل يجوز أن تبقى تلك القرى المنكودة في ظلام مراعاة لمصلحة أصحاب الامتياز.
يقول المثل: حط المكسورة على المجبورة وخل القصة مستورة. أما هم فلا يريدون إلا المجبورة ولتبق القرية في ظلماتها.
والمثل يقول أيضا: الماء لا يمر على عطشان، أفلا يطبق هذا على البلاد التي تمر فيها خطوط كهرباء نهر البارد؟ أتمر بأرضنا ولا نقضي غرضنا؟ حقا إنها حالة بعيدة عن العدالة الاجتماعية. إن حالة القرية والحكومة كحالة رجل كثرت بناته فهو لا يكسو ويجهز منهن إلا التي هي على أبواب الزواج. رضينا يا سادة أن نلبس ثياب أختنا الكبيرة ولكن أين هي؟!
ففي سنة 1951 صدر قرار بمد خطوط التلفون إلى قرانا، وتقرر مدها حتى كلفت بتقديم طلب تلفون خاص لبيتي بتاريخ 9 حزيران، فقدمته وسجل في المديرية تحت رقم 2062 ثم كان المطل، فراحت وزارات وجاءت وزارات ولم يشد أزرنا أحد. وأخيرا قالوا: لا نجد المعدات قبل مد التلفون الآلي في العاصمة والمدن الكبرى، فقلنا: رضينا أن نلبس ثياب أختنا العتاق، ولكن أين هي يا جماعة؟
أيظل كل شيء حبرا على ورق، أنظل نسقيك بالوعد يا كمون؟
أليس على الرعاة أن يعنوا بالقطيع، إن لم يكن عدلا أو رحمة فعلى الأقل حرصا على المنفعة. فمن يغذي المدن غير القرى، ومن يغذي الميزانية غير هذا الشعب المسكين المحروم، ومن ينتخب الذين يحكمون سعيدا، غير أبي اللبادة والسروال؟
إنهم يتغنون بالقرية ويقول شاعرنا العامي: مشتاق أرجع عالضيعة مشتاق كتير.
خفف قليلا من غرامك يا شاعري الحبيب، فالضيعة لم يبق فيها أحد غير العاجزين والعاجزات، أما شبابها وبناتها فصاروا في المدن خدما وخادمات، وموظفين وموظفات. إنهم معذورون فما تركوها إلا غصبا عن رقابهم، لأن رزقهم فيها مقطوع.
إن مشهد هذه الأعمدة الجبارة المنتصبة قبالة وجهي قد زاد بلائي بلاء، فهي كأنها أصابع تنتصب أمام عيني قائلة: إني أمر بأرضك غصبا عن رقبتك ولا أجود عليك بضوء شمعة.
إننا لا نتعزى في هذه الحالة إلا بقول يسوع: من له يعطى ويزاد ومن ليس له يؤخذ منه الذي له. ولكن ابن القرية هو العامل والكادح ليلا نهارا، وليس بالعبد البطال ليخرج إلى الظلمة البرانية.
قالوا: الجوع كافر، عندما كان يكتفي الإنسان بالقوت. أما اليوم فقد صارت هذه الضروريات أشد كفرا من الجوع. أنعجز عن استدعاء الطبيب إذا أصاب أحدنا عارض، والتلفون مقرر منذ سنوات؟ لقد شبعنا وعودا من أناس أرخص شيء عندهم النفوس. اسمعوا يا سادة. على أرجلنا نمشي. ومثلما عاش جدودنا مستضيئين بالفانوس نعيش، أما التلفون فلا غنى لنا عنه. إن عزرائيل متى طرق الباب لا ينتظر الجواب، ولا يمكن أن يؤخر أو يستمهل، فإما أن تضعوا في كل قريتين طبيبا ندعوه عند الحاجة، وإما أن تعدوا لنا التلفون، ونحن لا نكلفكم مئونة تطبيبنا.
كثيرا ما سمعنا بالنقطة الرابعة، أفلا تنعمون علينا بنقطة من هذه النقطة لنرى وجه ربنا ونموت على ضوء؟!
حساب الحمص
بينما كانت الخورية تنفض جبة زوجها وتنظفها سمعت خشخشة حب في جيبها فزجت فيه يدها فوجدت عشرين ثلاثين حبة حمص، فقالت تخاطب نفسها: مسكين خورينا! يأكل كل يوم حبة! تقبر الشح والبخل. الحمص ملء البيت.
قالت هذا وأسرعت إلى خزانة المئونة، وأخذت منها كف حمص رمتها في جيبة زوجها الخوري، ثم راحت إلى شغلها بعد أن اطمأنت إلى نظافة الجبة.
أما حكاية هذه الحمصات فهاكم تفصيلها. هذا الكاهن كان يعرف الصلاة عن ظهر قلب ويقرأ الإنجيل قراءة مفككة الأوصال، وإذا صعبت عليه كلمة تهجاها. ولكن القرية احتاجت إلى خوري، ولم يكن في الميدان غير حديدان فسامه الأسقف، وهكذا صار عليه أن يعرف مواقيت الأعياد قمرية شمسية.
ولما انتهى المرفع حسب للعيد والصيام حسابهما. ففي تلك الأيام لم تكن ظهرت روزنامات، وذاكرة المحترم كانت أشد عتمة من كنيسته، فتدبر أمر العيد بأن وضع في جيبه خمسين حبة حمص، وكان كل يوم يأكل واحدة ليعلن عيد الفصح المجيد ليلة يأكل الحبة الخمسين.
وظل حساب الحمص مضبوطا، حتى أوحى إلى الخورية كرمها الحاتمي فوضعت ما وضعت من الحمص في جيبة زوجها الجليل.
وكان الناس يسألون الكاهن متى العيد فيعد الحمصات ويجيبهم: العيد قريب يا أولادي. ولكن الجيرة عيدت وعيدهم لم يجئ، ولما سألوه آخر مرة أجابهم وهو يضحك من نفسه وعينه في الأرض: على حساب الحمص العيد بعيد.
ونحن نقول والأسف ملء الصدر: ما دامت عقلية الناخبين كما هي فهيهات أن يكون لنا برلمان أمثل. ولن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
قال غوستاف له بون: لا يستطيع المرء أن يعيش بلا مذهب. وقال ابن المقفع حين زمزم على العشاء وهو قادم في الغد على اعتناق الإسلام: كرهت أن أبيت على غير دين.
وهذا الشعب اللبناني لا يكون له برلمان غير هذا إلا عندما يتكتل غير هذا التكتل. إن المسئول الأول هو الناخب، فمتى اكتمل وعي الناخبين انعتقوا من سلاسلهم العتيقة. فعبثا نتحدث عن الضغط وحرية الانتخاب، وعبثا تهيب الحكومة بالناخبين النائمين في أقبية تقاليدهم، فإنهم لا يستيقظون. مصيبتنا كبيرة في هذا الوطن، وشر مصايبنا أننا ما زلنا نقدس القديم ولا نرى في الجديد خيرا، وإن كان ليس كل عتيق غير صالح، ولا كل جديد فيه الكفاءة.
أما المرشحون فلماذا لا يقتتلون على النيابة ما دام لهم منها رغيف مقرص، يتناولونه على الهينة. فالطبيب يظل طبيبا، والمحامي يبقى محاميا، والتاجر تاجرا. ناهيك أن النائب يحضر ساعة يريد، ويخرج من الجلسة حين يشاء. وقد يعطلها عن سابق تصور وتصميم إذا لم تكن على هواه، فيقبر مصالح ناخبيه في أدراج اللجان.
مرت علي انتخابات مشايخ، وانتخابات مندوبين، وانتخابات أفراد، وغدا انتخابات نساء. وشهدت انتخابات اللوائح، وغدا انتخابات دائرة، وما أظن الحال إلا على فرد منوال.
كان المعاش خمسين ليرة للنائب البيروتي ومائة للجبلي، ثم صار خمسماية ثم ألفا، ولا نزال حين كنا وكما كنا.
وكان النواب 25 ثم 55 ثم 77 وبقيت النيابة، نيابة مآرب ومصالح.
أحسن الله الحال حتى لا نقول مثل هذاك الخوري: على حساب الحمص (ما فيش) عيد.
على هامش جلسة الثقة
يقول المثل: البكاء على رأس الميت، أما نحن وضيعتنا أصعب اتصالا بالعاصمة منها بالصين، فهل نلام إذا عزينا بعد حين وجددنا الأحزان؟!
حكي أن صيادا كان يرمي ولا يصيب، فتعقب ذات يوم طائرا كبيرا، وكان كلما اقترب من المجال فر الطائر ووقع على غصن وثبت كأنه ينتظر. ويجيء الصياد ويفر الطير، وهكذا دواليك. وأخيرا هون الله وخال الصياد أنه يصيب إذا أطلق جفته، ولكن الطير خلص بريشه. وشاء الصياد أن يعزي نفسه فصرخ به: رح مع السلامة. تكفيك هذه الرعبة.
لعل هذا كان لسان حال المعارضة. ولكن الحكومة نجت مثل ذاك الطائر، وإذا غربلنا ونخلنا رأينا أن كل ما قيل ويقال في معارضتنا يدور حول نقطة واحدة هي الوظيفة قاتلها الله، فقد كانت منذ كانت حكومات لبنان من عهد فخر الدين إلى اليوم نقطة الدائرة والقطب الذي يدور عليه الفكر اللبناني. تحدثوا عن الفساد وما يعنون إلا فساد المأمورين، فرد عليهم رئيس الحكومة قائلا: الفساد أنا عملته؟ الفساد موجود من ماية سنة بالبلاد.
قللتها يا سامي بك. فلو قلت أكثر لما استطاع أحد أن يكذبك فلندع التاريخ القديم، ولنراجع صفحات تاريخ الحكم في لبنان منذ قرن ونصف. أفلا نرى أن أمير لبنان كان يشتري إمارته على البلاد شراء؟ أما كان يؤدي للجزار وغير الجزار ثمن الخلعة كل عام؟ والشعب المنقسم على نفسه يرحب بقدومها بالتهاليل والزغاريد.
وما معنى الخلعة؟ إنها ثوب ملبوس من ثياب ضاهر العمر أو الجزار أو عبد الله باشا يؤمر بها على البلاد من يلبسه إياها، ثم يخلعها عنه ليجلل بها أميرا آخر إذا زاد في ثمنها. والله يزيد في عمر من يزيد. ألم تكن الوظيفة على اختلاف درجاتها مفرقة الأحباب ومشتتة شمل الأصحاب؟ أليست هي التي فرقت بين البشيرين بشير شهاب وبشير جنبلاط؟ أما قال الجنبلاطي للشهابي: البلاد لا تسع بشيرين. فأجابه الشهابي: المكعوم يرحل.
ثم كانت بينهما معارك أدت إلى رحيل الجنبلاطي إلى الأبد. وبعد سنين دارت الدوائر فرحل أيضا الشهابي، وصار يعرف ببشير المالطي.
ثم كانت الفتنة الكبرى التي أطاحت بإمارة لبنان، وصار لبنان أول قطر شرقي محكوم دستوريا يلعب اللعبة البرلمانية على نطاق ضيق، ولكنها لعبة في كل حال. كان له مجلس إدارة كالمجالس النيابية اليوم، له رئيس يحاكي رئيس المجلس النيابي اليوم، أما الكلمة العليا فللمتصرف الذي تنتخبه الدول الكبرى السبع.
وتوالى على كرسي لبنان البروتوكول ثمانية متصرفين. سمعت بأخبار داود وفرنكو ورستم، وكنت وليدا في عهد واصا الذي قال فيه تامر الملاط:
رنوا الفلوس على بلاط ضريحه
وأنا الكفيل لكم برد حياته
وكنت يافعا في عهد نعوم، وعرفت السياسة وشاركت فيها في زمن مظفر. كانت الوظيفة كقطعة الشوكولا أو البسكوتة التي يرضى بها الصبي فلا يزعج البيت، ولكن ثمنها كان كاويا موجعا.
فلت الملق في عهد مظفر فأخذ يعين في الوظائف الدقيقة أصحاب السوابق المحكومين بالجرائم شرط أن يؤدوا له ولزوجته وابنه المبلغ المرقوم. وصار لكل وظيفة سعر محدود لا يحسم منه شيء لأن الإقبال على الشراء كان كبيرا جدا. جعل ثمن المديرية مائتين وثلاثمائة ليرة ذهبية عسملية، وثمن القائمقامية خمسمائة، إذا كانت صغرى كزحلة وجزين، وستمائة وسبعمائة إذا كانت كبرى كقائمقامية المتن وكسروان والبترون، وكان مهر رئاسة المحكمة 200 و300 عثمانية. وكان يؤخذ من عضو مجلس الإدارة 400 ليرة ذهبية ليوصلوه إلى الكرسي، كما جعل ثمن مديرية مال المتصرفية 300 ليرة.
كانوا يعينون وظائف الجندية تعيينا، ولهذا جعلوا لكل رتبة تعريفة إذا لم يتقدم راغب. إن الثمن لا يكون إلا بالمئات الرنانة الطنانة. البكباشي بمائتين واليوزباشي ب 150، ثم ارتفعت الأسعار بسبب رواج السوق فصارت بثلاثمائة وأكثر، والقائمقامية الكبرى بألف، ورئاسة مجلس الإدارة بألفين.
وانتحل المتصرف مظفر سلطة منح لقب بك، فأنعم به على كل من يدفع، ولما درت إسطمبول بهذه الحركة كدرت المتصرف، فأصدر أمره بأن هذه الألقاب أطلقت سهوا وأنه ألغاها، فعاد البك باش بزق.
وكذلك كان يصيب الموظفين فإنه كان يوظف الوجيه ثم يعزله، وهو في طريقه إلى مركز وظيفته. ولما تفاقم هذا الأمر طلب مواجهته أحد الأعيان وسأله إذا كان ينقل عفشه أم يذهب وحده؟ وعين أحدهم مديرا مساء ثم عزله صباحا، فقال فيه - أي في المدير - أحد شعراء لبنان:
خلعوه ساعة وظفوه فكان في
رجل الحكومة كالحذاء الضيق
قد يكون هذا الوباء، داء حب الوظيفة، منتشرا في كل بلدان الله، ولكن أظن أن حالتهم غير حالنا. فهناك يؤمنون أن لهم وطنا يؤمنون به، وإن أكلوه فكما يؤكل القربان، أما نحن فنأكله بلا إيمان. إنهم يبنون وطنا، أما نحن فنبني بيوتا في بلد اسمه لبنان، فحالنا وحال الغرباء فيه سواء بسواء. نبيعه رأسا برأس ولا نطمع بزيادة.
فيا أيها الناس، إن وجود الفساد لا يبرر بقاءه، كلكم اعترفتم بوجوده، وكل مناقشة جلسة الثقة دارت وستظل تدور حول الوظيفة والموظفين والملاكات. فهذه الملاكات إن شئت أن تسميها خراجات اصطناعية فلا بأس، وإذا شئت أن تسميها ثقوبا يخرج منها ناس وتدخل ناس فلا حرج، ولكن لا تنسوا أن ثقب سد مأرب كان سبب خراب ذاك المكان. يقولون إن جرذا أحدث ذلك الثقب فكان السيل العرم الذي قتل الناس، ترى ما عسانا نقول نحن؟!
ذكرني قول سامي بك: ما معنا وقت حتى نصرفهم - هكذا قرأت - بهذه النادرة أن سامي بك سيد النكات بين الحاكمين، فليسمح لنا بواحدة من فضله. تزوج رجل امرأة وكان ذاك الرجل أجيرا نهاريا، فقالت له امرأته: يا رجال ابن عمي صاحب دكان حمص، فما عليك لو ساعدته وقبضت كم قرش؟!
فاستصوب رأيها وذهب يشتغل مع ابن عمها حتى نصف الليل.
ثم مضت أيام فقالت له: ابن خالي صاحب دكان فول وسحلب، فما يضر لو غدوت إليه وساعدته حتى شروق الشمس؟ وكان ما أرادت.
وبان الهزال في الرجل فرآه صاحب له وقال له: على مهلك لا تجهد نفسك. ثم دار بينهما الحديث ففهم الرجل مصيبة صاحبه بامرأته فقال له: طلقها.
فأجابه الرجل: أهو معنا وقت حتى نطلقها؟!
حقيقة إن وقت دولة الرئيس ضيق جدا وشغله فوق رأسه. نحن نعرف جيدا أن الحمل ثقيل ولكن المثل يقول: دير الحملة لحمالها.
أما حان للبيت اللبناني أن يستقر، أن ينظف، أن يكنس. فليكن شعارنا بعد اليوم المكنسة. ترى أأغلق الباب ومن ضرب ضرب ومن هرب هرب؟ أنضيع النظافة والبلد طيب وهواؤه نقي؟ لا تسمح يا بيك أن تكون وزارتك كغيرها، مراسيم تظهير لا مراسيم تطهير.
جاءوا ليقتلوا المحسوبية فجعلوا المحسوبية عصبية، وهكذا صح فيهم قول المثل: جمل موضع جمل يبرك.
مليحة سياسة اللين في غير ضعف والشدة في غير عنف، كما قال زياد. أما أن يستحيل الرفق ميوعة، والعدل محاباة، فهذا بشع، وما هكذا يكون الإنصاف ولا الإصلاح.
وأسيادنا النواب الذين لا يحضرون جميعا حتى في جلسة الثقة لماذا زادوا راتبهم خمسمائة ليرة فصار ألفا؟!
ألف صحة يا سيدي ولكن فليحضروا. أيظنون إذا أسمعونا صوتهم مذاعا أنها شالوا الزير من البير؟ فهم يشكون ببعضهم في المعارضة ونحن نشك بهم أيضا. إن ما يقبضونه هو مالنا، فليكن لنا من عملهم مقابل.
إن ما عملوه منذ أسبوعين كان يعمل مثله وأكثر المير فؤاد أرسلان والشيخ يوسف الخازن، كانا يتخاصمان تحت قبة البرلمان ويتصافحان على بابه ويخرجان متأبطا كل منهم ذراع صاحبه.
وإذا عنفت فإني أعذر أيضا. يريد كل نائب وكل وزير، والوزير نائب، أن يرضي ناخبيه فكيف نطلب ألا يرفع صوته. إن مطاليب الناخب لا تعد ولا تحصى، فكل ناخب رمى ورقة في صندوقة الاقتراع يظن أن له حقا عند النائب الذي انتخبه، وهو لا يطلب إلا وظيفة لابنه أو لابن عمه، حتى بلغني أن أحد هؤلاء طلب من أحد النواب أن يعين له ابنه خادما في أوتيل سان جورج.
حقيقة إن رمح مار جرجس صار قصبة، وسيفه حديدة، وحصانه حمارا . وإذا كانت الضوضاء تؤدي إلى الفوضى فالسكوت علامة الموت. أما أن تذاع جلسة كالتي سمعنا فهذه أكثر من فوضى، لقد كانت نكبة على البيوتات.
قلت لخادمي، ولا فخر: وط صوتك حين تتكلم.
فأجابني: ولو! احسبني واحدا من النواب.
لقد صحت في الانقلاب، الذي نتمجد كلما ذكرناه، الكلمة المأثورة: كل شيء يخلق صغيرا ثم يكبر إلا المصيبة فهي تخلق كبيرة وتصغر.
حقا إنه مصيبة. فما وضعت يد على قذر حتى انبرى المكيسون والمليفون والمصوبنون والمعطرون فأخرجوه نظيفا شريفا.
حكي أن قائمقاما أخذ دجاجة محشوة إلى بيته بعد المأدبة التي أقيمت على شرفه، فما قولكم دام فضلكم بقولة البرجاوي: إن زلمة فلان بلع طنبر، وبلع بغل.
رحم الله فؤاد باشا - الدالي فؤاد - الذي قال للسلطان عبد الحميد: إذا كان أبو الهدى يبلع السيف، فوزير الحربية بلع الدارعة.
قرأت أن نائبا قال: إن الشعب لم تعد له ثقة بنوابه، فإذا كان حقا ما يقولون، فلماذا يبقون؟ أليهشم بعضهم بعضا وينشروا الأعراض على صنوبر بيروت؟!
إن صنوبر بيروت لم يعد شيئا يذكر بالنسبة للإذاعة، فغطوا (التنكة) قليلا إذا شئتم أن تنشروا على المسامع مثل هذه الروائح الطيبة.
وعلى من يحترم نفسه من أصحاب الحصانة والمناعة أي النواب المحترمين أن يحضر كل جلسة لأنه يقبض ثمنها. ولا يفلح على الكتفين، فكتف واحدة تكفيه. عليه أن لا يغيب أبدا إلا بعذر، وإلا فليس له أن يطالب سواه من موظفين والنقص فيه. النائب مرآة الشعب والموظفين، فلتكن هذه المرآة نقية. النائب هو الرقيب فعلى عينه ألا تغفل.
ويؤلمني جدا أن أذكر كلمة نطق بها قروي في مجلسي: الإخلاص اللبناني الله يرحمه.
من أين لك هذا؟
خبرني والدي عن جدي، عن جده، قال: رزق أحدهم ولدا على رأس سبع بنات فاجتمع الأهل والأصحاب ليباركوا له فيه. وبينا هم يأكلون حلاوة الطفل ويتمنون له طول العمر إذا بشيخ رعشن يقول وهو يتمطق: ماذا سميت المحروس؟
فأجاب والده المعتز بهذا الفتح المبين: الرأي رأيكم. نقوا له الاسم الموافق.
وكان استعراض طويل لدواجن الأسماء وأوابدها، عربيها وعجميها، ولما كادوا أن ينصرفوا غير متفقين على اسم لهذا الذكر الذي شرف الدار بعد طول الانتظار، تطاول لهم شيخ قابع في الزاوية وقال: لا تختلفوا على الاسم يا جماعة، سموه قريدان، فإذا طلع على أبيه وجده شال اسمه، وإلا كان هذا الاسم في محله.
ذكرني بهذه الحكاية ما فعلته اللجنة الاستشارية التشريعية إذ سمت قانون (من أين لك هذا؟) قانون الإثراء غير المشروع.
إن من استأمنوه فخان وغدر لا يستحق المجاملة في اسم قانون يدينه. ولهذا نقول للأستاذ شفيق حاتم - مدير العدلية: إن جدك الشيخ عيد حاتم لم يستح من ذلك الكاهن حين قال له بجفاء: يا محترم: احك مثل ثوبك أو البس مثل حكيك.
سموا القانون ما شئتم فالمهم التنفيذ. نريد أن ينفذ كيما تزول شكوك الناس والتهم. وتعرف القرعة من أم القرون. ففي العاصمة والمدن ترتسم أمام أعين الناس همزات استفهام كبيرة، وفي كل قرية ودسكرة تنتصب همزات التعجب.
دمامل ممدة في جسمنا الاجتماعي تصيح أين المبضع؟ أيشقها هذا القانون أم تجد الأيام حبرها فتقرأ من عبر ميل عيانا لا بمقياس؟
إن الثروات غير المشروعة تحتاج إلى من يشرع أبوابها لترتفع معنويات أخلاقنا. أما سمعنا الناس يعدون الموظف العالم النظيف حمارا، ويحسبون الأمي المختلس الوقح جبارا؟
قرأت أن اللجنة قد فرغت من دراسة هذا القانون، وبعد عصر اليافوخ، انتقوا له هذا الاسم اللطيف: الإثراء غير المشروع.
عاش باسمه. ولكن هل من يقول لهذا المخلع: احمل سريرك وامش؟!
دجاجة الاستقلال
هذه واحدة من قصص بخلاء الجاحظ الطريفة. قال قدس الله سره: كان أبو الهذيل أهدى إلى مويس دجاجة. وكانت دجاجته التي أهداها دون ما كان يتخذ لمويس. ولكنه بكرمه، وبحسن خلقه، أظهر التعجب من سمنها، وطيب لحمها، وكان يعرفه بالإمساك الشديد. فقال أبو الهذيل: وكيف رأيت يا أبا عمران تلك الدجاجة؟
قال: كانت عجبا من العجب!!
فيقول: وتدري ما جنسها، وتدري ما سنها، فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن. وتدري بأي شيء كنا نسمنها؟
فلا يزال في هذا، ومويس يضحك ضحكا نعرفه نحن، ولا يعرفه أبو الهذيل. وكان أبو الهذيل أسلم الناس صدرا، وأوسعهم خلقا، وأسهلهم سهولة، فإن ذكروا دجاجة قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة؟
وإن ذكروا بطة أو عناقا أو جزورا، أو بقرة، قال: فأين كانت هذه الجزور في الجزر من تلك الدجاجة في الدجاج؟ وإن استسمن أبو الهذيل شيئا من الطير والبهائم، قال: لا والله!! ولا تلك الدجاجة.
وإن ذكروا عذوبة الشحم قال: عذوبة الشحم في البقر والبط، وبطون السمك والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج.
وإن ذكروا ميلاد شيء، أو قدوم إنسان، قال: كان ذلك بعد أن أهديتها إليك بسنة، وما كان بين قدوم فلان، وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم، وهكذا كانت مثلا في كل شيء، وتاريخا في كل شيء. انتهى.
ذكرني بحكاية هذه الدجاجة موسم الحكي الذي خلقته الميزانية. لا عجب في هذا فاللهى تفتح اللها، وحيثما تكن الجثة تجتمع النسور. ما قرأت مناقشة، رسمية كانت أو غير رسمية، إلا قاقت فيها دجاجة أبي الهذيل الهزيلة. فهو يذكرها في كل مناسبة. يصدق هو ما يقول، ويريد أن نصدق نحن أيضا أن دجاجته التي أهداها إلى الوطن هي فوق الكباش المعلوفة، والعجول المسمنة. ولولاها لم تكن للأمة مأدبة الاستقلال الفاخرة.
إنه يمن بها، دائما على (مويس) ومويس بكرمه وبحسن خلقه يظهر التعجب من سمنها وطيب لحمها.
لا يعني مويس إلا أن تبيض مضيفته الوجه وتقوم بالواجب، وليتبجح الهذيليون ما شاءوا، وإذا هذروا وصخبوا رثى لهم وما زاد على القول: يا أبتاه اغفر لهم.
اللهم أبعد عنا الليلة الظلماء. ولا تدخلنا في التجارب.
بق البحصة يا شماس
كان لأحد المطارنة شماس رخيم الصوت. وكان المطران يطرب حتى يترنح حين يخدم له القداس هذا الشماس، ويرجع في التسابيح والميامر كأنه الحسون. رأى المطران في شماسه شركا ينصبه للمؤمنين فيقبلون على سماع القداس جماهير تعج بهم الكنيسة. لذلك صبر صاحب السيادة على ما في شماسه من عيب ، وحاول إصلاحه جهده.
كان عيب الشماس أنه يسب الدين، وسب الدين خطيئة مميتة. الوعظ والإرشاد لا يقومان ما اعوج من أخلاق الناس وخصوصا متى رسخت فيهم عادة، والشماس عسي وكبر، فما الحيلة فيه إذن؟ كان المطران يرشد شماسه كل يوم ولكن السباب لا ينقص، حتى قال الشماس: يا سيدنا. لا أراني إلا نسيت، ودارت تلك الكلمة على لساني. فإذا كان عندك دواء فأنا مستعد أن أقبله مهما كان صعبا ومرا.
فقال المطران: حط يا ابني في بوزك بحصة، وكلما دعتك حالة لقول تلك الكلمة تذكرك البحصة فلا تقولها. - طيب يا سيدنا، البحصة تظل في بوزي من الآن وطالعا.
ووضع الشماس في فمه حصاة ناعمة، ونجحت التجربة وأقلع الشماس عن السب، فشكر المطران المعجب بشماسه ربه على هذه النعمة التي صيرت شماسه لا عيب فيه.
ودعي سيادته إلى مأتم فركب البغلة، ومشى الشماس يحدوها بترانيمه الروحية التي لم تكن تنقطع إلا عندما يمرون بقرية، حتى إذا ما خرجوا منها استأنف الشماس ترتيله الذي كان يطرب المطران والبغلة معا.
وأقيمت صلاة الجناز وتألبت الجماهير لتسمع الشماس يرتل (الحساية) ترتيلا ملائكيا. وبعد الدفن عاد المطران أدراجه، وفي الطريق انهل المطر ثم استحال بردا فتضايق مقدم صاحب السيادة. وفيما كان الشماس يحث البغلة لينجو وسيده من الشئوب ذي البرد، إذا بامرأة لاطية تحت شجرة على مقربة من الطريق، تصيح بكل ما في حنجرتها من قوة: دخيلك يا سيدنا، يا سيدنا. - سيدنا دخيلك. وقف عندك.
فهال المطران ذاك الصراخ الفاجع ووقف، والبرد يتساقط عليه.
وأقبلت المرأة ومعها دجاجة تقوق ولكنها قامت عن البيض، وعجزت المرأة عن ردها إلى حضنها. فرأت أن يصلي لها المطران عليها لعلها تلزم بيضها.
فهز المطران برأسه والبرد يتساقط كالملبس، وجاءت سحابة ثانية أسخى من الأولى فصارت المهمة صعبة الإنجاز. فهمز المطران البغلة وصاح: بق البحصة يا شماس.
فبقها الشماس وجاد على أم تلك الدجاجة بما تيسر من سبابه. وبعد أن شبع، عدا وراء صاحب السيادة وهو يقول: ما قلت لك يا سيدنا إن مسبة الدين في وقتها تسابيح.
وكان المطر قد خرق ثياب المطران حتى بلغ الجلد فلجأ إلى أول بيت أدركه على طريقه، وهناك نشف قليلا ذاك البلل.
من هنا جاء قول المثل عندنا: بق البحصة، ومعناه بح بسرك المكتوم ولا تبق شيئا مما أنت تكتمه طويلا.
ترى لو بق أحدنا البحصة، أفلا يقول لأصحابنا من نواب وحكومة: لقد صيرتم ما تسمونه اللعبة البرلمانية لعبة حقا؟ إن الشعب الذي تخطبون وده قد هاله أن يصير مجلسه ندوة ابتهارات، وسباب وشتائم. وكيف يحق لكم فيما بعد أن تقاضوه حين يخل بالأمن.
إذا كان رب البيت بالدف مولعا
فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
إن السكرستاني يسجد للقربان كل ما مر أمامه على أعين الناس، وإن كان يرفع الكلفة متى خلت الكنيسة من البشر. فعلى الأقل اجعلوا جلساتكم سرية متى أعددتم لها بضاعة مكتوبا عليها (سريعة الانفجار) وإلا فلا يبقى لكم وللندوة حرمة.
إنني أتعجب كيف تجعلون قبة البرلمان كقبة العهد ساعة تشاؤون. وكيف تخترقون حرمتها ساعة تريدون؟ فأي صاحب بيت يرضى أن يفعل الناس في داره مثلما يفعل في المجلس النيابي. أليست الندوة بيت الأمة التي عنها تنوبون وباسمها تحكمون.
قد تقولون: في أوربا يفعل النواب كما نفعل، ولكن تقاليد أوربا غير تقاليدنا، ونحن لم نتعود بعد تلك الحرية.
وبالقلم العريض نقول: إن الشعب، وخصوصا الذين يرون في النائب والحاكم شخصا عظيما، لا يرضيهم هذا الجدل الرخيص ... قد يعجب هذه القبضايات، أما من يحبون السكينة فلا يرضون عنه وقد أعلنوا اشمئزازهم وقالوا: إن النيابة عنهم والحكم عليهم لا يكونان في (ساحة بو علي).
إن جلستكم تلك كانت فوق التمني ولم تكن بالجلسة الكيسة.
وقد تكونون أصلحتم ما أفسدتم بعد صدور هذه الكلمة، ولكنني أقول لكم: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟
وسؤالا واحدا أوجهه إليكم جميعا: ماذا أقول للتلاميذ بعد، إذا أحدثوا ما تحدثون في كل جلسة من فوضى؟
إنني عند ذاك أعجز عن تعليمهم كما ستعجزون أنتم عن القيام بمهمتكم التي تقدسونها متراضين، وتنتهكون حرمتها ساخطين غاضبين.
هذا ما نقوله لكم عند بق البحصة وسنبقها دائما إن شاء الله. أما إذا بقيت في الفم فلا نقول شيئا، وننتظر أوامر سيادته حتى تطل عليه (قرقة) جديدة ...
إميل لحود
أذكر هذه الأسطورة، ولا أذكر أين قرأت حكايتها، وهي أن رجلا كان مدبوقا بامرأته، وإذا فارقها ظل فكره عندها. فهو يخاف على حمامته الجميلة من الصقور والغربان، وعلى قرقورته من الذئاب الخاطفة. كانت عين تلك اليمامة شاردة، تبحث دائما وأبدا عن غصن نضير لتقع عليه وتسجع، فتحوم حولها الطيور، ويقضي الزوج المفتون وقته بالمطاردة والكش.
وقعد الرجل وزوجته ذات ليلة يتسامران فتذكر الرجل ساعة الفراق الأخير فقال لامرأته: وإذا مت فكم تبقين بعدي مفردة؟
فصاحت والدمعة تجول بين هدبيها: الله يبعد الموت. أي رجل يحلو لي بعدك؟! لا تذكر هذا فالتفكير به يزعجني.
فضحك الرجل وقال: ومن يلومك إذا تزوجت بعدي؟! أنت ما زلت فتية.
فصاحت: قلت لك اقطع هذا الحديث، فإذا كان الزواج للشبع شبعنا. والتوت عليه تدفن في صدره جهشة المتباكي وهي تردد هذه الكلمات متقطعة: تحرم علي الرجال بعدك.
فقال الرجل: هذا كلام فارغ ... فكل ما أرجوه منك يا عزيزتي هو أن لا تعقدي حبلك من جديد قبل أن ينشف تراب قبري.
وما طال الوقت حتى كانت نفس ذاك الرجل في يد باريها، وكان الدفن. ومشت المرأة خلف زوجها إلى حفرته مذرية أغزر الدمع وهم يهيلون التراب عليه، وازداد تفجعها حين عام تراب القبر في الماء.
وراحت تزور قبره يوميا، صباح مساء، وفي يدها مروحة تروح بها على ذاك القبر فتناقلت الناس خبر وفائها لزوجها، وأعجبهم منها أنها تروح دائما فوق قبره كأنها تعتقد أن الحر يؤذي الرفات.
أما المرأة فثابرت على ذلك أياما لتعجل بمروحتها جفاف تراب القبر، ولما تبخر الماء وتفرق شمل تلك الرمال أيقنت أنها وفت نذرها، ثم حققت ما تمناه عليها المرحوم فكانت عروسا جديدة لعريس جديد.
هذه حالة تلك المرأة أما أصحابنا (المستنوبون) فلم يمهلوا الفقيد العظيم إميل لحود حتى يدخل باب القبر ويستريح، بل كانوا يسيرون خلفه متحدثين عمن يرشحون.
حقا إن عشقنا الأعمى للمناصب يعمي ويصم، ويعدمنا الذوق. أما استحى هؤلاء الماشون في جنازة رجل كان ملء العيون والآذان، أن يتحدثوا في مأتمه عمن يرشحون خلفا له؟
ما أجرأ هؤلاء الأماثل! وما أرخص الموت عندهم! وماذا ترجو البلاد من رجال فقدوا كل كياسة؟
إن النيابة في نظر هؤلاء هي كل شيء، وإذا ماتت البشرية فبحفظ القرد.
قال المتنبي في رثاء أم سيف الدولة:
ولا من في جنازتها تجار
يكون وداعها نفض النعال
أما وداع إميل فكان أحلاما وأماني عند هؤلاء. إنهم يشبهون بهلولا عبقريا في منطقتنا اسمه ملحم. ذهب ملحم هذا إلى مناحة كبيرة في ضيعة من بلاد جبيل، وكان الأكل بعد الدفن شهيا وكثيرا، فأكل حتى انبشم وقال لأهل الضيعة بعد الحمدلة: دائما الموت عندكم، كل يوم موتة إن شاء الله.
لا أخال هؤلاء (المستنوبين المستوزرين) إلا قائلين مثل ملحم. بل يقول أكثر من هذا، ذاك الذي يتحدث عن الخلف، في مأتم السلف وهو لم يتوار بعد ... أما خافوا أن يقوم من نعشه وكم من ميت قام، وخصوصا من الذين تأخذهم نوبات كهذه. ترى لو تمهلوا قليلا أكان فات الفوت؟!
فيا عزيزي إميل، كن واثقا أن قول أبي فراس: سيذكرني قومي ... سوف يصح فيك. قد نجد لك ندا في علمك وبلاغتك ونكتتك، ولكننا لا نجد رجلا له نكهتك وطعمك. فالرجل كالأثمار وأنت كنت ثمرة شهية في بستان لبنان.
لقد استعادتك أمك إلى أحضانها فخلا الجو بعدك لمن يبيضون ويصفرون ... ولكن الفراغ الذي تركته لا تملأه النفوس الفارغة، فمن لا يستطيع أن يسد فراغا لا ينفعه فراغ يتركه سواه. لست أعزي أهلك فكلنا لك أهل، وأنت ملك الجميع، ملك لبنان.
إن حلم من كانوا يفكرون بخلفك وهم يسيرون خلف نعشك، سيستحيل كابوسا مزعجا عندما يصير واقعا. فعسى أن تخيب الأيام ظني وأرى على مقعدك من يحقق قول السموأل: إذا مات منا سيد قام سيد ...
إن لبنان غير عقيم، ولكن الشعب الناخب أعمى تقوده عميان، وأعمى يقود أعمى وكلاهما يسقطان في حفرة. فمتى ترتفع الغشاوة عن الأبصار والبصائر، لنرى الشخوص كما هي، ونأخذ بيد كل منها إلى المكان المعد له؟
إن لبنان محتاج إلى المخلصين له، وما أقلهم!
مسكين لبنان، فأقصى أمانينا، أن نبني لنا بيتا في لبنان، لا أن نبني من لبنان بيتا في العالم. وإذا ظل اللبناني يفكر ببناء بيت سكنه قبل كيان وطنه، وفي توطيد أسرته قبل أمته، فسوف يبقى لبنان حيث هو وكما هو، نأكل خبزه ولا نضرب بسيفه.
فوضى النياشين
إذا رجعنا إلى الوراء حوالي قرن، إلى سنة 1861 قرأنا فرمانا سلطانيا أذيع على الشعب اللبناني، وفيه يمتن السلطان على اللبنانيين بأنه عين لهم متصرفا، وزيره الخطير، داود باشا حامل وسام (مجيدتي الرابع) المجيدي الرابع. ومنذ نصف قرن لا أكثر كان الموسومون في لبنان يعدون على أصابع اليدين.
ففي ذلك الزمان كانوا يقيمون الولائم والأفراح عندما يمنح أحدهم وساما، وفي التقليد العامي الزجلي: إن وجيها منح وساما، طبعا من آخر درجة، فأقيمت له الحفلات الصارخة، فغناه قوال مشهور بهذين البيتين:
بيلبقلك يا خواجا يو
طراحة فوق الفرا
من سطمبول جابولك هو
وببعدا حطولك ياه
وقد رخم الشاعر كلمتي يوسف والفراش لتصاقب القافية.
وأذكر أنه عندما جاء الوزير فيليب ملحمه حاملا وساما سلطانيا إلى البطرك إلياس مر على طريق البترون - مار يوحنا مارون - بين حائطين من الجماهير، من شط البحر إلى رأس الجرد. وقد أنشد الشعراء البطريرك قصائد غراء عصماء، وظل قاعدا للمنشدين مع الوزير ملحمه ساعات حتى فات وقت الغداء وجاعت الناس.
وعرفت بعد ذلك وجوها وأعيانا أنفقوا ثروة محترمة ليحصلوا على وسام ورتبة ولقب. ثم أخذت قيمة النياشين تتدهور حتى سامها أخيرا كل مفلس أدبيا واجتماعيا.
عش كثيرا تر كثيرا. وقد عشنا حتى رأينا ما رآه غي دي موبسان حين كتب قصته (حامل وسام). وقد ترجمتها ليرى القارئ اللبيب كيف يكون السخر.
إن هذا الطوفان العرمرم من الأوسمة التي تذري هنا وهناك تدلنا على أن لبناننا العزيز غني بأربعة أشياء: النور والهواء، والماء والأوسمة التي تمنح بسخاء حاتمي للرائح والجائي، والمغترب والمقيم. وقد تأتي ساعة ترسل فيها الأوسمة طردا بريديا كالحشيش والهيرويين ... وربما جاء يوم لا نرى فيه صدرا عامرا غير مفضض أو مذهب. فإذا كانوا اليوم يقنعون بالوسام من رتبة ضابط فسوف لا يرتضون بأقل من رتبة كومندور أو ضابط أكبر فتمتلئ الدنيا وشاحات ...
كل يريد أن يكون شيئا مذكورا، وحب الامتياز طبيعة الإنسان، فكان من يفوته اللحم قديما يشبع من المرق، أي يسكج على أوسمة بطاركة أورشليم من غربيين وشرقيين.
كانت الدولة العثمانية تعطينا العصفور وخيطه، أي الفرمان والنيشان معا. أما دول أوربا فقلما تعطي غير البراءة، واشتر أنت النيشان - على ذوقك - من فبركة سنت إتيان. وبطرك القدس اللاتيني يمنحك وسام القبر المقدس باسم الحبر الأعظم، ولكل درجة سعر لكن بشرطين: الأول أن تكون مستحقا، أي مجملا بالفضائل، والثاني أن تؤدي الثمن، والسعر محدود ...
أما اليوم فيا بلاش! يكفي أن يكون وسيطك وجيها ولو من الدرجة الثالثة حتى تنال وساما وكبيرا بلا ثمن. فأنت ترقص والشعب اللبناني يحط النقود كما يقول المثل.
لا أقول ذلك حسدا أو ضيق عين، ولكن أسفا على شارات امتياز امتهنت. فقلما نسمع عند جيراننا خبر منح وسام، وقل من زار ديارهم وظفر بنيشان. أما عندنا، فأول ما نفكر به لإكرام زائرينا، هو أن نمنحهم من أوسمتنا. فكأن الوسام صار كالجبن، شيخ السفرة ...
وأخيرا إني أرجو من القارئ أن يطالع بإمعان هذه الحكاية التي وضعها موبسان، وفيها يصف رجلا مقصرا في كل ميدان يشتهي أن يكون صاحب وسام.
حامل وسام
بعض الناس يولدون وتولد فيهم غريزة مستولية عليهم، أو رغبة تطاردهم منذ نعومة أظفارهم وقدرتهم على التفكير. والسيد سكرمان كانت تراود مخيلته فكرة ثابتة وهي أن يكون حامل وسام. فمنذ صغره كان يحمل كأمثاله الصغار أوسمة من النحاس، وكان إذا ما سار في الشارع تمشى ويده في يد والدته، نافخا صدره المرصع بشارات الأوسمة الحمراء.
فبعد أن أخفق في نيل البكالوريا إثر دراسات عقيمة، فضل الزواج من امرأة جميلة لأنه كان غنيا. فعاشا في باريس كما يعيش البورجوازيون وهما فخوران بمعرفة نائب قد يصير وزيرا ... بيد أن الفكرة المبكرة التي راودت مخيلة السيد سكرمان لم تكن لتفارقه، وكان يتألم دائما لأنه لا يحق له أن يعرض في عروة ريد نكوته نسيلة ملونة. كانت تدمي قلبه رؤية حملة الأوسمة الذين يصادفهم في الجادة فيختلس النظر إليهم محنقا مغيظا من الحسد.
وفي بعض أوقات فراغه ونزهاته، بعد الظهر، كان يحاول إحصاء عددهم قائلا في نفسه: فلأحاول إحصاء عدد هؤلاء الذين أجدهم في طريقي في شارع ف، ثم يسير على مهل وعينه شاخصة تحاول اكتشاف هذه الشارة الصغيرة الحمراء. وكم كان يذهله العدد الذي يصل إليه في خاتمة مطافه. ثمانية من حاملي وسام جوقة الشرف برتبة ضابط، وسبعة عشر من حامليه برتبة فارس. ويقول في قلبه: إن توزيع الأوسمة بهذه الطريقة إسراف أحمق. والآن فلأحاول برجوعي أن أعد أيضا حملة هذه النياشين. فمن أجل ذلك كان يسير بخطى بطيئة، وكما كان يزعجه ازدحام المارة الذين يحولون بعض الأحيان دون دقة الإحصاء فيفوته واحد من هؤلاء.
كان المسيو سكرمان يعرف معرفة تامة الشوارع التي تحتوي على أكثر من غيرها من حملة الأوسمة. فعدد هؤلاء كان يكثر في شارع ش ويتضاءل في شارع الأوبرا مثلا. كما أن الجهة اليمنى كانت ملأى بهؤلاء أكثر من الجهة اليسرى، لأنهم كانوا يفضلون ارتياد بعض المقاهي والمسارح دون الأخرى. وفي كل مرة كان يرى السيد سكرمان جماعة من السادة المسنين، ذوي الشعر الأبيض يقفون في منتصف الطريق ويعرقلون السير فكان يقول في نفسه: هؤلاء هم من حاملي أوسمة جوقة الشرف من رتبة ضابط، وكم كان يود في قرارة نفسه أن يلقي عليهم تحيته.
إن مظهر أصحاب رتبة ضابط - وهذا ما لاحظه مرارا - هو غير مظهر أصحاب رتبة فارس. فكل منا يشعر عندما يراهم أنهم حازوا، بصورة رسمية، احتراما وتقديرا، وأهمية لم يحزها هؤلاء.
وفي بعض الأحيان كانت تنتاب السيد سكرمان سورة غضب شديد وحقد على جميع من منحوا هذه الأوسمة. وكان يشعر بالتالي نحوهم ببغض رجل اشتراكي.
وهكذا كان يعود إلى بيته عودة رجل جوعان مر بباب المطاعم ... فيصرخ بصوت عال: متى يخلصنا الله من هذه الحكومة الوسخة؟! فتسأله زوجته متعجبة: ما بك اليوم؟! فيجيب: إني ثائر على هذه المظالم التي تجري كل يوم. آه. كم هؤلاء الاشتراكيون على حق!
ومع ذلك فقد كان يخرج ثانية من بيته بعد الظهر ليتأمل الحوانيت التي تعرض فيها الأوسمة. كان يفحص جميع هذه الرموز ذات الألوان والأحجام المختلفة. كان يود لو يستطيع أن يمتلكها كلها، ومن ثم يظهر في قاعة كبيرة، حشدت فيها الجماهير، ماشيا على رأس موكب وصدره مشعشع تتخلله الأشرطة بين وشوشة المعجبين. ولكن ويا للأسف، لم يكن لديه أي لقب يخوله حق منحه وساما. كان يقول في نفسه: إنه لمن الصعب أن يحصل رجل لا يشغل وظيفة عامة على وسام جوقة الشرف. آه لو كنت أحاول أن أنال لقب أوفيسيه دا كاديمي.
لكنه لم يكن يعلم كيف السبيل. وأخيرا فاتح زوجته بالأمر فدهشت وقالت: ماذا أديت من خدمات لتحوز هذا اللقب؟! فاجتاحته ثورة من الغضب وقال: إنك بليدة حقا بعض الأحيان.
إني أتساءل: ماذا يجب أن أفعل ليكون لي ذلك.
فابتسمت قائلة: إنك على صواب، ولكني لست أعلم أنا أيضا كيف العمل.
وأخيرا حضرته الفكرة فقال لها: النائب روسلين يقدر أن يسدي إلينا النصح إذا حدثته بشأني. فأنا يستحيل علي شخصيا أن أخوض معه موضوعا مثل هذا بصورة مباشرة. فالقضية دقيقة للغاية وصعبة أيضا، أما إذا كانت المبادرة منك فإنها تصبح طبيعية للغاية.
وقامت السيدة سكرمان بمهمتها. ووعد النائب بأنه يباحث الوزير بهذا الشأن. وبناء على طلبات السيد سكرمان الملحة أشار عليه النائب أخيرا بأن يقدم طلبا يذكر فيه ألقابه العلمية. ولكن كيف يمكنه أن يعدد ألقابه العلمية وهو لم يحصل على البكالوريا!
ومع ذلك فقد بدأ العمل، وبدأ الكتابة باحثا موضوع (حق الشعب في الثقافة) ولكنه لم يستطع إكمال البحث لعدم توفر الأفكار. فعدل عن هذا وراح يفتش عن موضوعات أكثر سهولة وبدأ يبحثها على التوالي. كان موضوعه الأول: (تثقيف الأولاد بالنظر) فهو يريد أن ينشأ في الأحياء الفقيرة نوع من المسارح المجانية للأولاد الصغار فيقودهم إليها أولياؤهم منذ طفولتهم. وهناك يكتشفون بواسطة فانوس سحري معلومات تتناول جميع المعارف الإنسانية. إن النظر ينير ويثقف العقل. والصور تظل مطبوعة في الذاكرة فتصبح المعرفة بهذه الواسطة، منظورة ملموسة، وهل أسهل من أن نعلم بهذه الطريقة التاريخ العام، والجغرافية والزراعة و... إلخ.
وطبع السيد سكرمان هذا المقال وبعث بنسخة عنه إلى كل نائب، عشر نسخ إلى كل وزير، خمسين نسخة إلى رئيس الجمهورية، عشر نسخ إلى كل من جرائد باريس، خمس نسخ إلى جرائد الضواحي.
ثم بحث بعد ذاك قضية المكتبات في الشوارع. فهو يطلب من الدولة أن تسير في الطرقات عربات صغيرة، كعربات بائعي الليمون؛ ملأى بالكتب والمؤلفات، ويكون لكل مواطن حق استئجار عشرة مؤلفات كل شهر مقابل غرش واحد. فالسيد سكرمان يقول: إن الشعب لا ينتقل إلى مكان ما إلا طلبا لملذاته. وما زال لا يسعى وراء طلب الثقافة والعلم فإن الثقافة والعلم يجب أن يسعيا إليه إذن.
ولكن هذه المحاولات لم تلاق أي صدى، ومع ذلك فقد تقدم بطلبه. فأجيب بأن المسؤولين أخذوا علما بالأمر وأنهم سيجاوبونه، قريبا، فوثق إذ ذاك من نجاحه وانتظر. ولما أبطأ عليه الجواب قرر أن يقوم بمساعيه الشخصية، فطلب مقابلة وزير المعارف، فاستقبله ملحق الغرفة وهو شاب ولكنه على ما يبدو خطير للغاية ويحتل مركزا مرموقا. كان يبدو كأنه لاعب بيانو عندما كان يشد على أزرار الجرس البيضاء المتعددة ليدعو إليه مرؤوسيه. وقد أكد الملحق للمسيو سكرمان أن قضيته في طريقها إلى النجاح وطلب إليه أن يكمل ويتابع أبحاثه المرموقة.
وعاد السيد سكرمان إلى العمل. ويظهر أن النائب روسلين بدأ يهتم كثيرا لنجاح المسيو سكرمان، فقد جمع له المعلومات العملية القيمة. فروسلين كان هو أيضا قد منح وساما دون أن يعلم أحد الأسباب التي جعلته جديرا بهذا الامتياز. لقد أشار على سكرمان أن يتناول بحث دراسات جديدة، وقدمه إلى جمعيات علمية كانت تهتم بدراسة نقاط من العلم غامضة نوعا ما قصد الحصول على هذه الإنعامات. حتى إنه كان يهتم أن يوصي به في الوزارة أيضا.
وبينما كان النائب ذات يوم يتغدى عند صديقه (وكثيرا ما كان يتغدى في هذا البيت منذ عدة أشهر ...). قال بصوت منخفض وهو يشد يده: لقد توصلت أن أستحصل لك على إنعام كبير. فلجنة المباحث التاريخية شاءت أن تسند إليك مهمة التنقيب عن بعض المعلومات في مختلف مكتبات فرنسا.
عند ذاك خارت قوى سكرمان حتى لم يعد بإمكانه مواصلة الأكل والشرب. ولكنه سافر بعد مضي ثمانية أيام. كان ينتقل من بلد إلى آخر باحثا منقبا في الكتب الصفراء ينهشه الحقد على أصحاب المكتبات.
ولما كان ذات مساء في روان، مرت في خاطره فكرة (تقيل) زوجته التي لم يرها منذ أسبوع، فاستقل القاطرة التي تسير في الساعة التاسعة لتوصله نصف الليل إلى بيته.
كان يحمل مفتاح الباب. فدخل بدون أن يحدث أية حركة. دخل، تدغدغه النشوة، ويسعده أن يطلع على زوجته بغتة بهذه المفاجأة الحلوة. - إنها مزعجة. لقد أغلقت على نفسها الباب كأنها سجينة. عند ذاك صرخ: جانيت، هذا أنا.
ويظهر أنه انتابها ذعر شديد، لأنه سمع صوت قفزتها عن سريرها وهي تحدث نفسها كأنها في حلم. وبعد ذاك ركضت إلى غرفة الزينة ففتحتها وأغلقتها، ثم دخلت غرفتها وخرجت منها عدة مرات راكضة، حافية القدمين، مصطدمة بالأثاث الذي كان يسمع له قرقعة.
وأخيرا قالت له: هذا أنت يا ألكسندر؟!!
فأجابها: نعم. نعم. هذا أنا افتحي الباب.
وفتح الباب. فارتمت زوجته على صدره وهي تتمتم: يا الله. يا لفرحي وسروري. ما هذه المفاجأة؟!
وبعد ذاك أخذ ينزع ملابسه بانتظام تماما كما كان يفعل سابقا. وعندما حاول أخذ معطفه عن الكرسي الذي كان يعلقه عادة في مدخل البيت، اعترته دهشة كبيرة: إن العروة كانت مزينة بشارة حمراء. عند ذاك تمتم: هذا المعطف يحمل وساما!
وبقفزة واحدة ارتمت عليه زوجته وانتزعت منه المعطف قائلة: لا تنخدع. أعطني إياه.
ولكنه ظل ممسكا بأحد كمي المعطف وهو يردد مضطربا: ولكن كيف تفسرين ذلك. لمن هذا المعطف؟ إنه ليس لي لأن معطفي ليس فيه شارة وسام جوقة الشرف.
وحاولت جاهدة انتزاعه منه وقالت وهي ذاهلة: اسمع. اسمع. أعطني إياه. إنه سر لا يمكن البوح به الآن. اسمع.
ولكنه غضب حتى شحب لونه وقال: أود أن أعرف من أين جاء هذا المعطف. فهو ليس لي.
عند ذاك صرخت بوجهه قائلة: نعم إنه لك. أستحلفك أن تسكت. اسمع. لقد منحت وساما ...
وكان من تأثير العجب الذي تولاه أن ترك المعطف وتراخى على الكرسي وقال: تقولين ... إني ... أصبحت صاحب وسام. - نعم!! إنه سر ... سر كبير ...
وأخيرا وضعت المعطف الأعز الأمجد في خزانة، ثم عادت إلى زوجها صفراء اللون وهي ترتجف. قالت له: نعم إنه معطف أوصيت لك عليه. ولكني استحلفت أن لا أبوح لك بشيء. ولن ترتدي قضيتك الطابع الرسمي قبل مرور شهر أو ستة أسابيع عندما تنتهي مهمتك. كان من الواجب أن لا تعرف شيئا قبل عودتك. إن السيد روسلين هو الذي حصل لك على هذا الإنعام.
قال السيد سكرمان وقد خارت قواه: روسلين ... صاحب وسام ... هو الذي أسدى إلي هذه الخدمة فمنحت وساما ... أنا ... هو ... آه.
وكان مضطرا إلى تناول جرعة من كوب ماء. وصادف أن ورقة صغيرة أفلتت من المعطف على الأرض عندما نازعته إياه زوجته فالتقطها السيد سكرمان. إنها بطاقة زيارة كتب عليها: روسلين نائب.
قالت له زوجته: هل لمست الشيء لمس اليد؟
فبكى من شدة الفرح ...
وبعد مضي ثمانية أيام نشرت الجريدة الرسمية خبر منح السيد سكرمان وسام جوقة الشرف من رتبة فارس، لتأديته خدمات استثنائية ...
الجنود سياج الدولة
من جملة الأحداث الجلى التي مرت وأنا مشغول في جسدي، كما قال الحجاج لأهل العراق، هذه الأحلاف العسكرية هنا وهناك، غرب وشرق، وشمال وجنوب، وفوق وتحت، حتى تتم حدود الجهات الست. وهل تتعجب إذا قلنا فوق؟ ففي هذه الأيام صار هذا الفضاء الواسع ساحة النضال. وهل هناك أعظم وأسهل من هذه الساحة العلوية التي لا تحتاج إلى طرق واسعة - أوتستراد - ولا إلى تعبيد، وما هذه هي المرة الأولى التي تدور فيها رحى الحرب في القطاع الفوقاني من هذه الأكوان.
أما كانت السماء ساحة أول عملية عسكرية بل معركة حربية كانت الأرواح السماوية عساكرها؟ فثورة الملائكة أول ثورة عرفها التاريخ البشري. وعرف الوحي الإنسان أن لا بد لكل وطن من عسكر يحميه، سماويا كان أم أرضيا. إن النزاع ملاك كل حياة. ففي كل مجتمع، وفي كل أسرة، بل في كل جسم مشادة بل تطاحن دائم يقوم فيه الجديد على أنقاض القديم.
كان إبليس يرتع في ملكوت الله ونعيمه، فتطاول ببصره إلى العرش الإسني فحدثته نفسه به. وشايعه فريق من إخوانه، خدام العرش، فانشق الملائكة حزبين: حزب الله، وعلى رأسه ميخائيل، وبزات رهطه أجنحة خضراء فتانة، ووجوه فتية طرية ذات ثغور تفيض سحرا علويا، وحزب لوسيفوروس وشاراتهم قرون، ثم أذناب لا بد منها لذوات القرون. وهكذا ثم لكل عسكر ما ينماز بها. أما أعتدة تلك الحروب الأولى، فكانت سيوفا كما زعم لنا المصورون.
كانت حربا صاعقة حقا فاندحر إبليس وجنوده، وكانت الهدنة فأجلوهم عن حدود الملأ الأعلى، وأصبحت الأرض مستعمرة لهم. فإذا جارينا العلماء وقلنا معهم: إن الفردوس الأرضي في الشرق، كان الشرق مهد العسكرية الأولى.
فالعسكرية بذرة وجدت في أول خلية من خلايا الكائنات. تنشق فتصير شجرة، فغابة أشبة كلما مست الأحداث أنانية البشر التي يعبرون عنها بالشرف والكرامة. وما الكرامة والشرف إلا الدفاع عن النفس وتنازع البقاء. فلولا الكرامة والشرف اندحر الإنسان في جبهة الحياة وظل كابن عمه القرد يراشق بالحجارة. بيته الكهف وسراجه القمر، ومصابيحه المعلقة هذه النجوم الحائرة.
لسنا ننكر أن الحرب ويل، ولكنه ويل لا بد منه للتطهير والتنقية. لا بد من نفي الزؤان ليسلم القمح، ولا بد من اختيار الأصلح بذارا لنحصل على الغذاء الأنسب، والغلة المثلى. ولا يظل حصادنا خليطا لا تستلذ النفس رغيفه، ولا تستطيب طعامه.
الحياة الإنسانية منذ نشأتها حتى الساعة التي نحن فيها سلسلة أعمال عسكرية، قصرت وطالت بحسب الأحوال والظروف. وما تقهقرت أمة وقصرت عن تأدية رسالتها إلا عندما ضعفت روحها العسكرية: إن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب. (أعلى الممالك ما يبنى على الأسل).
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
لا أحاول سرد أخبار الحروب والأعمال العسكرية، فتاريخ كل أمة هو تاريخ أمجادها العسكرية. كان الناس ولا يزالون يتعسكرون ليدافعوا عن قضية يرون فيها سر بقائهم الأنسب، فسموها تارة الله، وطورا الوطن، وحينا التمدين. وهم في الحقيقة لا يدافعون إلا عن (الأنا)، وفي الأنا كل أسرار البقاء. سخرتنا قوة نجهلها لمشيئتها، فنحن نعمل ما نشاء ولا ندري لماذا نعمل. وتتغير مظاهر أعمالنا في مجرى الزمن فنستقبح اليوم ما استحسنه أسلافنا، ثم لا نلبث أن نأتي شرا منه متوهمين أننا نصنع خيرا.
وإذا فكرنا في التاريخ العسكري رأينا عباقرته يسيرون الإنسانية في سبل جديدة فيخلق مرعى للقلم يدر اللبن.
فهذا أبو تمام تخلده بائيته العسكرية، وهذا المتنبي سيفياته الخالدة فيخلد ويخلد أميره.
لا تبنى (القومية) ولا تقوم (التربية الوطنية) على الأدب وحده، فللسيف قصائد رنانة ومقالات طنانة كما حدثنا أبو تمام. وإذا طلبنا المواد الأولية التي نؤلف منها تربية وطنية في أمتنا المتضاربة الآراء فلا نجدها في شعر الشعراء، ولا في علم العلماء، ولا في القضايا الحسابية والهندسية، فتلك (العقدة) لم يفكها إلا سيف الإسكندر عندما وقف المفكرون تلقاءها حائرين.
قد كنت زعمت أن تربيتنا الوطنية لا تستقيم إلا تحت سماء الثكنة العسكرية، وها قد أعارت حكومتنا هذه القضية انتباها، فأوجبت التدريب العسكري على صفوف المدارس العليا، فسمعنا صدى خطوات الفتيان المتزنة، وشاهدنا صفوفهم ونفوسهم التي تكاد تقفز من صدورهم. ولكن فليسمح لي أن أقول: إن التدريب المدرسي والنظام الكشافي والترتيب الحزبي لا يشفي نفس الوطن المهدد، فلا ينهضنا من هذه الكبوة إلا التجنيد الإجباري.
إن الميل العسكري ضعيف فينا. فشبابنا، ولا أقول كلهم، يهربون من الجندية حيلة. فكأنهم درسوا علم الحيل على أبي دلامة بل فكأن هذا الشاعر قد نفخ فيهم من روحه، وإليك ما روى لنا عن نفسه كما جاء في الأغاني:
قال أبو دلامة: أتى بي المهدي وأنا سكران، فحلف ليخرجني في بعث حرب، فأخرجني مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح: أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك، لأثرت في عدوك اليوم أثرا ترتضيه. فضحك وقال: والله العظيم لأدفعن إليك ذلك، ولآخذك بالوفاء بشرطك. ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إلي ودعا بغيرهما فاستبدل به. فلما حصل ذلك في يدي وزالت عني حلاوة الطمع قلت له: أيها الأمير، هذا مقام العائد بك، وقد قلت بيتين فاسمعهما. قال هات. فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم للوغى
لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رايتها مشهورة
فتركتها ومضيت في الهراب
ماذا تقول لما يجيء وما يرى
من واردات الموت والنشاب
فقال: دع عنك هذا وستعلم.
وبرز رجل من الخوارج يدعو للمبارزة فقال: اخرج إليه يا أبا دلامة.
فقلت: أنشدك الله أيها الأمير في دمي! - والله لتخرجن.
فقلت: أيها الأمير، فإنه أول يوم من الآخرة وآخر يوم من الدنيا، وأنا والله جائع ما شبعت مني جارحة من الجوع، فمر لي بشيء آكله ثم أخرج.
فأمر لي برغيفين ودجاجة، فأخذت ذلك وبرزت عن الصف. فلما رآني الشاري - مفرد الشراة - أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل، وأصابته الشمس فانفعل. وعيناه تقدان، فأسرع إلي فقلت له: على رسلك يا هذا كما أنت.
فوقف. فقلت: أتقتل من لا يقاتلك؟
قال: لا. - أتقتل رجلا على دينك؟ - لا.
قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقاتله إلى دينك؟ - كلا. فاذهب عني إلى لعنة الله.
قلت: لا أفعل أو تسمع مني. - قل.
قلت: هل كانت بيننا عداوة أو ترة، أو تعرفني بحال تحفظك علي، أو تعلم أن بين أهلي وأهلك وترا؟
قال: لا والله . - ولا أنا والله لك إلا جميل الرأي، وإني لأهواك وأنتحل مذهبك وأدين دينك، وأريد السوء لمن أراده لك.
قال: يا هذا، جزاك الله خيرا فانصرف.
فقلت: إن معي زادا أحب أن آكله معك وأحب مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا ويرى أهل العسكر هوانهم علينا.
قال: فافعل.
فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا، وجمعنا أرجلنا على معارفها، والناس قد غلبوا ضحكا. فلما استوفينا ودعني ثم قلت له: إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني وتتعب، فإن رأيت ألا تبرز اليوم فافعل.
قال: قد فعلت. ثم انصرف وانصرفت.
فقلت لروح: أما أنا فقد كفيتك قرني، فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك. فأمسك.
وخرج آخر يدعو إلى البراز فقال لي: اخرج إليه، فقلت:
إني أعوذ بروح أن يقدمني
إلى البراز فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه
مما يفرق بين الروح والجسد
إن المهلب حب الموت أورثكم
وما ورثت اختيار الموت عن أحد
فضحك وأعفاني.
وبعد، فعلى من نعتمد في حماية حدودنا، إذا كنا على دين أبي دلامة. إن رب إسرائيل رب جنود، فبماذا نواجه من كانت هذه عقيدته، وعلى من نعول في صيانة أرضنا!! أعلى الدول الأخرى وقد عرفناها في أكثر المواقف أنها تخضع للأمر الواقع ما دامت الضربة بعيدة عن جلدها.
ليست هذه أول مرة نعالج هذا الموضوع. فلنا فيه جولات قديمة وحديثة. فقد تنبهنا للخطر الصهيوني يوم كنا شبابا من جنود السلطة الرابعة، فحاربناه، تحت عنوان (الخطر الأصفر) نسبة إلى السيد أصفر الذي كان يشتري أراضي فلسطين للصهيونيين. وكانت الحرب الكبرى الأولى فكان الذي خفنا أن يكون. ومنذ خمس سنوات علقنا على خطاب ألقاه مناحيم بيغان زعيم منظمة الأرغون اليهودية الإرهابية قال فيه: إن عيد اليهود سيأتي عندما يرقص شبابنا في شوارع العواصم العربية.
قلنا: إن هذا حلم توراتي عتيق جدا، ولعله جال في خاطر لوط ليلة أسكرته ابنتاه ... فالتوراة تهب أرضنا لبني إسرائيل كما جاء في سفر تثنية الاشتراع، الفصل الأول، عدد 6 و7 :
الرب إلهنا ، كلمنا من حوريب قائلا: كفاكم قعودا في هذا الجبل. تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من (العربة) والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر، أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير، نهر الفرات. انظروا قد جعلت أمامكم الأرض، ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم.
وأخيرا جاء في الفصل الأربعين من إشعيا:
هو ذا الأمم كنقطة من دلو وكغبار الميزان تحسب. هو ذا الجزائر يرفعها كدفة، ولبنان ليس كافيا للإيقاد، وحيوانه ليس كافيا لمحرقة، كل الأمم كلا شيء قدامه ...
إشعيا ف40 ع15-17
فهل من يقول لي ماذا أعددنا لإحباط أماني وأحلام إسرائيل؟؟ ماذا أعددنا لمنازلة شعب وعده إلهه، منذ آلاف السنين، بامتلاك أوطاننا؟
أأعددنا شيئا غير مناقشات وتنابذ وانقسام إلى محورين.
أأعددنا غير حفر الملاجئ، فإلى أين نلتجئ إذا أتت الساعة؟
فلنستيقظ من غفلتنا، فما في الحرب مكرمة كما يقولون.
سيكي الكلب البوليصي
منذ سبعين ثمانين سنة سمع أو شهد أديب بك إسحق سباق كلاب في باريس، فكتب مقالا رصعه ببيتين قالهما في ذلك المشهد أذكر منها هذا الشطر: حتى الكلاب لها هناك جوائز.
ترى ماذا كان يقول اليوم لو كان له عين ترى؟! ماذا تراه كان يقول، لو سمع، مثلما سمعت، بأخبار هذا الكلب العجيب سالكي أو سيكي، كما قرأت اسمه في الصحب اليومية والأسبوعية التي صورته؟ إذا كانت جوائز سباق كلابي قولت أديب زمانه وصحافي عصره شعرا، فماذا كان يقول لو رأى هذا الكلب البوليصي، وقرأ وصف العناية التي يقتضيها أسلوب حياته حتى يفلح ويقوم بمهمته على أتم وجه. فلا بد له - كما طالعت - من تدليك وتمسيد وتمشيط يوميا إلى آخر ما هنالك عدا السهو والغلط لأنهم لم يذكروا إذا كان لا بد من التعطير أيضا. وقالوا: إنه لا بد من تأمين الوقاية والأسباب الصحية للأماكن والأوعية التي يتناول فيها غذاءه، وقالوا: إن وجبة طعامه تتألف من اللحم والخضار المسلوقة، ونوع من الخبز خاص.
ألا ترى أنها نوع من الرجيم؟ تماما كأسلوب الأكل في المستشفيات، فإذا كنت لم تزرها بعد، فلسوف تذكرني إذا دخلتها بعد حين، لا سمح الله.
وأي مقال كان يكتب أديب إسحق لو درى أن هذا الكلب يتعلم كالطلاب الآدميين، وله سجل مدرسي فينتقل بناء عليه، من صف إلى صف حسب نبوغه الذي يدل عليه هذا الدفتر الخاص المبينة فيه أخلاقه، وعاداته، وعلاماته، ودرجاته. حتى إذا ما بلغ الشوط الأخير من السباقات المدرسية يحوز الشهادة. لا أدري إذا كانت هناك أيضا شهادات ثانوية وجامعية، وألقاب علمية لهؤلاء الكلاب.
وعلى كل حال قد فسح وجودهم عندنا مجالا لوظائف جديدة. فلا بد لكل كلب من ماشطات، وطابخات، وغاسلات تسهر على تسريح شعره وتنظيفه، ولا بد من ممرضات تكون أعينهن عشرة عشرة لتأمين وجبات أكله، ولا بد من ساهرات على نظافة المنزل وتمهيد الفراش والحيلولة دون زعيق الراديوات وتزمير السيارات، كما لا بد من مرافقين له في أوقات فراغه. إذن فليستعد الجنسان لتقديم الامتحان. والشرط الأول في من يتقدمن ويتقدمون إلى هذه الوظائف أن يكونوا يحسنون اللغة الإنكليزية ويخرجون الحروف إخراجا على حقه، لا بلديا كما نتكلم نحن، فأصحابنا هؤلاء لا يفهمون إلا لغة وطنهم. وسيكي ورفاقه السبعة ينبشون المجرمين ولو كانوا في قاع الأرض بشرط أن تحسن رعايتهم وسياستهم.
وقد قرأت أن الطالب النجيب من هؤلاء الكلاب تراعى في تعليمه قاعدة جدودنا القدماء: العلم في الصغر كالنقش على الحجر. فلا يقبل أحدهم في المدرسة إذا تجاوز عمره السنة مهما كان لديه من الوسائط. فهو ليس مثلنا، نحن البشر، يقبل في المدارس ولو كان طول عمود خلده.
إن هذا التعريف بضيوفنا الأعزاء - عفوا، بل بالذين صاروا، بعد اليوم، منا وفينا - واجب جدا ليعرف القارئ مع من نتكلم اليوم. والآن ننتقل إلى الكتاب المفتوح الموجه إلى زعيم هؤلاء الكلاب.
عزيزي سيكي
عم صباحا يا أخا الكلاب. لا تغضب إذا حييتك بتحية الجاهلية، فأنت وإن تفوقت على الكثيرين منا بالغريزة، فما زلت تعد غير عاقل ولا يحل عليك سلامنا. لقد شرفت جنسك أيها الكلب الذكي، وانتزعت الاحترام انتزاعا حين اهتديت إلى المجرمين من البشر، إني لأرجو أن يخجل الإنسان المجرم حين يدل عليه كلب، ويقوده صاغرا حين يطبق فكيه على ساعده.
يا زعيم الثمانية، حقا لقد ذكرتنا بمجد كلب أهل الكهف، بل تعاليت عليه علوا كبيرا. قال بولس الرسول: على فم شاهدين أو ثلاثة تقوم كل كلمة، وأنت بلا كلمة ودون أن تلفظ مقطعا من كلمة، تقوم شهادتك. فماذا ينفع الإنسان نطقه إذا كانت لا تقبل شهادته مفردا وتقبل شهادتك أنت وحدك! لقد رفعت اسم الكلاب عاليا يا عزيزي. وهل يحق لنا، نحن البشر، بعد هذا، أن نعير ونحقر بعضنا بكلمة يا كلب! أما صار بعضنا تحت رحمتكم! ترى هل لنا أن نطعن بشهادتكم؟ وإلا فأين ذهب اجتهاد المحامين وهل له دور في شرع الكلاب؟ أنت كلب بشهادة، فصارت شهادتك لا ترد، والمليح فيك أنت لا تحابي ولا تمالئ. تشم وتحكم حكما مبرما فلا اعتراض ولا استئناف ولا تمييز. وأحسن ما في الأحسن فيك أنك لا تراعي في المنام خليلا. تفعل بوحي من منخريك، وأذناك لا تقبلان واسطة أحد لا من رجال دين ولا من رجال دنيا ... الحاكم منخرك، والمنفذ فكك. قيل قديما: مقتل الرجل بين فكيه، أما اليوم فصار مقتله بين فكيك. ولكن بحياة والدك خبرني: هل أنت معصوم؟! وإذا أخطأت يا كلب، فخطيئتنا برقبة من تكون؟!
وبعد يا عزيزي سيكي، ترى أتعرف حلال العملة من حرامها؟ وهل إذا شممتها في المصارف حيث تودع أمانة في صناديق حديدية يرسم أصحابها، أتقدر أن ترشد إليها؟!
وأيضا يا عزيزي سيكي، أصحيح أنك لا تأكل زادك ولو جائعا إلا إذا أمرك ولي أمرك؟ فما قولتك غدا حين ترى البعض عندنا يأكلون غير الخبز، يأكلون الصناديق الحديدية فوق الشبع.
ثم يا عزيزي، هل تظن أننا لا ننتزع المجرمين من أشداقك، ما دمنا نكذب السجلات وقيودها!!
وهل يعقل أننا لا نكذب كلبا مثلك؟ فإذا سمعت مني يا سيكي فلا تتعب نفسك كثيرا. فأنت تمسكهم والوسائط تفلتهم. أظنك تشم ولا تسمع، وإلا لكان بلغك ما يقال تحت قبة البرلمان. فحديث (الواسطة) وغيره ليس من عندي، بل من عند نواب الأمة، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه.
إن بوليصنا وشرطتنا وأمننا العام قلما أفلت منهم جان، ولكن المهم أن نقبض على من يفلتونهم، أن نمسك بالذين يتداخلون لمصلحتهم، فلو وفرنا للمسؤولين عن الأمن عندنا ما سيوفر لك من الوسائل الصحية، واعتني بهم، كما سيعتنى بك، لعملوا العجائب. فإذا كانوا - وهم على ما هم - لا يخفى عليهم شيء. إذا كانوا هم يعدون كل شيء بأنفسهم ويفعلون ما يفعلون، فكيف يكونون لو تهيأ لهم ما سيهيأ لك أنت. أما قلنا أن سيكون لك نظام أكل صحي دائم، تماما كالذي روعي لي في المستشفى غصبا عني، أما الآن فصرت لا أقدر على ذلك لأن نفسي رخوة أولا، وثانيا لأني لا أستطيع.
كنا فيما مضى نفتخر بالحمام الزاجل الذي كان ينقل رسائلنا بأمانة في الملمات وساعة الضيق، أما الآن فأنت موضوع إعجابنا يا سيكي.
وبعد، فأهلا وسهلا يا سيكي، أرأيت كيف احتفينا بك وكيف خففنا إلى استقبالك؟ فقد احتللت الصفحة الأولى من صحفنا كأنك ضيف كبير أو عبقري عظيم. لا يدهشك هذا الاستقبال الرائع، فتلك عادتنا ولو مع الكلب إذا كان يستحق الإكرام. وعندنا مثل يقول: من وقر الكلب وقر صاحبه، وكلب المير مير. إذن كان للكلب عندنا وقار قبل تشريفك. وإذا كنت كلبا ذئبيا فقبلك دعا الفرزدق المرحوم جدك بقوله:
وأطلس عسال وما كان صاحبا
دعوت بناري موهنا فأتاني
فلما دنا قلت: ادن دونك، إنني
وإياك في زادي لمشتركان
فبت أسوي الزاد بيني وبينه
على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له، لما تكشر ضاحكا
وقائم سيفي من يدي بكمان
تعش، فإن واثقتني لا تخونني
نكن مثل من، يا ذئب، يصطحبان
ذكرني هذا وصفهم لك بأنك أطلس عسال، ولا عجب في هذا فنحن نقول: إن الأصول عليها تنبت الشجر. والابن سر أبيه، فبورك فيك من ابن أصل.
المصيبة يا سيكي، إني وإياك لمختلفان. أنت تفهم الإنكليزية وأنا أفهم الفرنسية، ومع ذلك ألخص لك ما أريد أن أقول في هذا المقام الكلي الجد ...
أظن أن قصيدة ذئب دافيني الشاعر الفرنسي مترجمة إلى اللغة التي تفهمها أنت، فإذا قابلت بين وصف شاعرنا وشاعركم لاستقبال الذئب عرفت أننا نكرم الضيوف ولو كانوا ذئابا ... ولسنا مثل غيرنا، وفي هذا يقول الفرزدق أيضا:
ولو غيرنا نبهت تلتمس القرى
أتاك بسهم أو شباة سنان
وإذا كان ذلك كذلك، فكم ترانا نكرمك أنت الآتي لتعاوننا على المجرمين منا وتدلنا عليهم.
اعذرني إذا خاطبتك برفع الكلفة، فما لقبتك لأنني لا أعرف لقبك، وما كنيتك لأني لا أعرف الكبير من أنجالك المحروسين، حفظهم الله. الألقاب عندنا محفوظة للغرباء وأنت، كما قلنا، صرت منا وفينا، ومع ذلك فنحن نقدر الناس، فعلى قدر موهبتك سوف يكون تعظيمنا لك. أما أسلوب معيشتك أو الراجيم المحدد فسيكون كاملا غير منقوص. فالميزانية عندنا مرحرحة، ونحن كرماء وأنت تستاهل.
يقولون: إن الكلب ينبح على الفقراء فعسى أن لا تكون منهم، أي من الكلاب غير المثقفين، فتنبح على أكثرنا وخصوصا أبناء القرى مثلي لأننا جميعا فقراء مساكين، مربى الجبال لا مربى سكوتلاند. كان ينقصنا الخوف والآن قد وجدناه بتشريفك يا عزيزي. أما إذا تعودت أن تقيسنا بغير اللباس فيزول فزعنا، وإلا قاطعنا العاصمة وما أشبهها، وتركناك غارقا بين زبونات الماتينه والسواره وحفلات الكوكتيل.
إن الخطر الكبير هو علي يا عزيزي سيكي، ولكن سوف أتنكر فلا تهاجمني بريئا إذا رأيتني في الشارع. سوف آخذ ما يلزم من هذا الرفرف القائم فوق عيني، فأتقي شرك. الآن أظن أن القارئ قد أدرك سبب توجيه هذا الكتاب المفتوح إليك وأنت كلب ابن كلب.
وجهت إليك هذا المكتوب الناعم لأتقي شرك، وإني لواثق أن الثناء يغرك كما يغرني فتكف عني شرك. نحن يا أخا الكلاب بشر، والناس تؤثر بهم الكلمة أكثر من العضة، فبحياتك لا تكشر كثيرا عن أنيابك إلا حيث يلزم.
حاشية - بيني وبينك - يا سيكي، أنا لا أؤمن كثيرا بما يقال. لا أصدق حتى أجرب، فمن يكفل لي أنك لا تشهد بالزور ولو خطأ. وتأخذ أحيانا البريء بجريرة المجرم، ولكن لا خوف من ذلك، فالجنابة قد تصير جنحة، والجنحة قد تطمر ولا يستطيع نبشها أحد، لا أنت ولا جد جدك.
وعلى كل حال أرنا بتعك، وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان. ولا تؤاخذني إذا ذكرت على مسامعك الامتحان وأنت صاحب شهادة، كما يقول مدربوك، فعندنا يمتحنون أصحاب الألقاب العلمية الكبرى. وختاما تفضل بقبول فائق احترامي وتقديري، ولو على غير معرفة، فشاعرنا يقول: والأذن تعشق قبل العين أحيانا.
وإلى اللقاء القريب عن غير طريق الجريمة، إن شاء الله وإذا شئت أن تتفضل بالجواب، وأظنك ستفعل، فهذا عنواني: عاليه مارون عبود، مع حفظ الألقاب.
ديك يصلي ليلة عيد الميلاد
ولما دنا العيد استشعرت الدجاج أن الكارثة تحيق بهم. لم ينسوا مذابح السنين الماضيات وأهوالها فرأوا أن يرفعوا أبصارهم نحو العلاء ويسألوا من بيده الأعمار أن يرد عنهم الضربة التي تنزل بهم كل عام في مثل ليلة عيد الميلاد. فعلا صياحهم ورفت أجنحتهم، فقال زعيمهم الديك المرقش: تشددوا يا إخوتي، فالفزع في مثل هذه الساعة لا يجدي، فهبوا بنا نصلي.
فقالت دجاجة أكسبتها الشيخوخة خبرة: ومتى عرفنا الصلاة حتى تدعونا إليها أيها الناسك؟! فلنقاوم ما استطعنا.
فاستضحك ديك الحبش بلهجته المعهودة، فظن سرب الدجاج أن هناك بطلا يربح المعركة إذا خاضها. صوت عريض يرسله متقطعا، فيخيف السامع الذي لا يعرف شجاعة الديك الرومي. ثم سكت ليعود إلى مثل تلك النغمة المزعجة فقال له الديك: وبعد هذا ماذا؟!
قل، فنحن مصغون إليك. فلم يزد على شهقاته المعهودة. ولما لم يقل شيئا قال له الديك البلدي: تفضل صل بنا فنحن خاشعون.
فقالت دجاجة في عز شبابها: هذا تنبل. لا يعرف إلا أن يتنفش ويزهى، ويخضر ويحمر، والله لا يحب المتكبرين، المتلونين. فإن كان ولا بد فأنت تصلي لأن صلاة هذا لا يفهمها الله ولا عبيده، فصوته الكريه يجلب علينا غضب الله لا رحمته.
فشقشق الديك الرومي من الغيظ وخرج من بين جماعة الدجاج، فضحكت إحداهن وقالت: إنه هو المطلوب أولا، فليذهب حيث شاء، وفي هذا المساء تقبض روحه إن شاء الله.
ووقف الديك خاشعا، وطفق يناجي ربه، راجيا أن ينجى معشر الدجاج من المجزرة: يا رب الجميع، لا تسد أذنيك عن تضرعات عبيدك الدجاج، فأنت خلقتهم ضعافا ومن حقهم أن تحميهم، ومن للضعيف غيرك يا الله؟!
إن الإنسان الذي خلقته على صورتك ومثالك، يحلل ما يشاء ويحرم ما يشاء. فأية بدعة هذه خلقها ابن البشر ليأكلنا ليلة عيد ميلادك يا رسول الرحمة. أيقول بلسانه: وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة ثم يهاجمنا ليخطف أرواحنا! أما أنت قلت: أريد رحمة لا ذبيحة؟ فما لهم في هذا اليوم يذبحوننا بمئات الألوف.
أصدقوا قول واحد منهم، زعموا أنه نبي، قال في مزاميره عن الإنسان: على أعمال يديك سلطته، جعلت كل شيء تحت قدميه، الغنم والبقر جميعا، وبهائم البر وطيور السماء، وسمك البحر السالك في سبيل المياه.
فإذا كانت تلك مشئيتك حقا، فأين عدالتك ورحمتك يا رب؟ هل في مخلوقاتك من يستيقظ مثلي في نصف الليل، وعند بزوغ الفجر، وفي الصباح ليسبحك ويتهلل ممجدا عظمتك وجبروتك؟
أما أنا الذي نبهت بطرس كبير تلاميذك وأعدته إلى حظيرتك بعدما جحدك، فصار رأس تلاميذك، وعليه بنيت بيعتك؟
يدعي الإنسان أنه يحب الجمال وهل هناك أجمل مني؟ تاجي عقيقي، ومنقاري زمردي، وثوبي مخطط مقلم لم تلبس عروس أجمل منه فكيف يستحلون ذبحي؟
يقولون: إنهم يحبون الموسيقى، وهل هناك أروع من صوتي في ظلمة الليل. أما أنا الذي أبشرهم بالصباح، والصباح أمل ورجاء؟
أراض أنت أيها الحمل الوديع، عن هذه المجازر التي يستقبلون بها ميلادك كل عام؟
أهكذا يصيب من لا ينسى مواقيت صلاته مرة، فكأنه ناسك. قلت: ناسك، عفوا، فهؤلاء النساك أيضا لا يعفون عن دمي، كأنما عيدك عيد ديوك ودجاج ليس أكثر، وإذا لم يتمتعوا بلحومنا فلا يكون العيد على حقه.
وزاد في طين بلايانا بلة هذا البابا نويل. إنه حيث يمشي تدب الرعبة في قلوبنا فما هذه المساخر يا رب؟! أليس الأفضل والأجدى أن يعملوا عملا واحدا صالحا بدلا من هذه المظاهر التي ليست من العيد في شيء؟
عجيبة هذه البدع، الديوك لعيد ميلادك والبيض لعيد قيامتك، وأنت حمل الله الحامل خطايا العالم، أفلا تلهم هذا العالم أن يكف يده عنا وترتاح أنت من حمل خطايانا؟
يا رب، ما لنا غيرك في ضيقتنا، فاسمع صياحنا واستجب طلباتنا، أفلسنا نحن صنع يديك؟ يقولون: الابن سر أبيه، فكيف خرج هذا الإنسان، المخلوق الذي صنعته على صورتك ومثالك وليس فيه ذرة من حنانك ورحمتك؟!
إنه أناني يستمد أفراحه وملذاته من آلام غيره، فإذا أنت لم تنجدنا ظللنا ضحاياه إلى الأبد. فإليك نتضرع فارحمنا يا رب.
غدا تمتلئ بطون الناس من لحومنا، وتنقطع ترانيمنا التي نسبحك بها كل حين، أفلا ترحم من يمجدك ليلا نهارا؟ وعلى كل حال إن رحمتنا أم لم ترحمنا فنحن لسنا كالبشر الذين يجحدونك في بلاياهم، ولا يذكرونك إلا حين تنعم عليهم.
كانوا فيما مضى يأكلوننا بعد قداس نصف الليل، واليوم غيروا الشريعة فصاروا يقدسون ساعة يريدون: في العصر وفي المساء وفي السهرة، فلماذا لا يغيرون عادة أكل الديوك ويريحوننا؟!
كأنهم لا يصبرون على الأكل لشراهتهم، فحللوا ما حرموه تسعة عشر قرنا، عدلوا طقوسهم على هواهم وبقينا نحن قرابينهم.
مساكين نحن الدجاج، إننا لا نؤذي أحدا حتى الذين يقبضون علينا ليقطعوا رقابنا. أهكذا تكون الأعياد على الضعاف الذين لا حول لهم ولا طول؟ فلين يا رب قلب ابنك المدلل.
ارحم يا رب عبيدك الدجاج.
فقوقت الدجاجات إعجابا بفصاحة الزعيم، ووثقن بدنو الفرج القريب وسلامة الديوك من الذبح، لأنه يعز عليهن فراقهم. بيد أن تلك الآمال قد خابت، وما جاء المساء حتى كان في كل قن مجزرة، وأصبحت الدجاجات أرامل وإن لم يلبسن الحداد.
كنا في ذلك الزمان نصوم اثني عشر يوما منتظرين هذا الديك الشهي، أما في زمننا الحاضر فنأكل ديوكا ولا نصوم. كانوا يسمون الأيام الاثني عشر الصوم الصغير، ولذلك كانت ضحيته ديكا، أما اليوم فيأكلون ولا يصومون. وإني لأعجب من هذا الديك الذي صلى يسأل ربه أن يرفع يد الإنسان عنه وعن بني جنسه، ترى أفاته أن هذا الإنسان يذبح إخوانه ولا يرحم أحدا.
إن رسالة البشر رسالة بطون، وعبثا يتعب إخوان المعري أن يردعوهم. أما الحيوانات الداجنة فقد ظلمتها الحضارة، فلو بقيت آبدة لنجا أكثرها بجلده وريشه، ولكنها جاورت البشر فصارت في متناول أيديهم فقصرت أعمارها، وما أشبهنا بها نحن البشر في خنوعنا!
إن تضرعك أيها الديك لا ينفعك شيئا لأن الإنسان لا يفهم إلا شريعة القوة، وما زلت ضعيفا فهيهات أن تسمع صلاتك.
صاحبنا الصيف
إذا كان الربيع عطرا وزهرا وجمالا، فالصيف جمال وعطر وثمر. هو أرحب الفصول صدرا ودارا، وأوسعهم بساطا، وأغزرهم مادة تهب الحياة، ولذلك جاء في المثل: الذي لا يصيف لا يشتي. فكأن هذا الفصل طبيب يمنحك مع علمه الدواء والشفاء.
أجل، إن الصيف مأدبة الطبيعة الكبرى، وحسبك أنه حاز أكبر شهادة من أكبر من يهمه بطنه، وهو ابن الرومي، القائل:
لولا فواكه أيلول إذا اجتمعت
من كل نوع ورق الجو والماء
إذا لما حفلت نفسي متى اشتملت
علي هائلة الجالين غبراء
قل فيها ما شئت من شهر تعهده
في كل يوم يد لله بيضاء
مع أننا نحن نقول: أيلول طرفه بالماء مبلول. لقد صدق المعري حين قال في إحدى قصائده:
تشتاق أيار نفوس الورى
وإنما الشوق إلى ورده
وإذا اشتاق ابن الرومي ليحلي أضراسه، فأبو الطيب المتنبي لم يحن إلا إلى الشميم، فبعدما وصف صيف لبنان الصارم في شتائه الكافر:
وجبال لبنان وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهن شتاء
عاد يقول في مجال الغزل:
حيث التقى خدها وتفاح لبنان
وثغري على محياها
وإذا هجس أبو الطيب بالجمال الأنثوي، فأبو نواس لا عروسة لشعره غير الخمرة، فقال فيها:
سلاف دن إذا ما الماء خالطها
فاحت كما فاح تفاح بلبنان
يقول المغني: كلنا يحب القمر. ونحن نقول: كلنا نحب الصيف، فأولادنا يترقبون قدومه لتطلق المدارس سراحهم ، فيسرحوا ويمرحوا. يحتالون للعصافير بالدبق، وللحجال بالمطاردة، ويتمتعون بما في الرحلات من جمال وأنس. يطوون الكتب ليفتحوا كتاب الطبيعة الأسمى يقرءون فيه سطور الجمال الرائع والحسن البديع. فالصيف يعتق الناشئين من عبودية النظام، وهم ينتظرون مقدمه انتظار العاشق الولهان. أما المدني فيطلق عمران مدينته وما فيها من ترفيه اصطناعي ليتمتع بمحاسن الصيف في الجبال العالية، حيث تبدو له المناظر التي كان يراها على الشاشة البيضاء ولا يهفو قلبه لها إلا بمقدار ما تهيجه الذكرى.
هؤلاء هم التلاميذ. أما أهل الدساكر والدارات فينتظرون الصيف لتدر لهم بيوتهم المال ويدفعون ما عليهم في الآجال، والفلاح ينتظره ليبيع بعض غلته ويوسع بثمنها على أهله وبنيه.
أما العذارى فلهن في الصيف أمان وآمال. ومن يدري، فالدنيا قسمة ونصيب، وكما تفيض خيرات الصيف في كل مجال فقد توفق هؤلاء إلى طلاب أيدي فيظفرون بشريكة حياة تنتظر ابن الحلال. حقا إن الصيف فكاك المشاكل.
السائح في لبنان يصادف الناس في الصيف فرادى وجماعات حول الجداول والينابيع، وتحت الأشجار حيث يقيلون ويبيتون. وإذا سرح النظر تبدو له العرازيل والخيام، فالناس يهجرون البيوت لينعموا بنسمات الهواء الطلق. وإذا لم يستظلوا الأشجار الوارفة خرجوا إلى مصاطبهم ونصبوا أسرتهم فوق سطوحهم، ولعله من هنا جاء قولهم المأثور: بساط الصيف واسع.
وأي بساط أوسع من أن يكون العنقود مدلى فوقك، وأوراق الكرمة تظللك، والتينة حدك، والتفاحة والإجاصة على مقربة منك وفي متناول يدك، فما تكلف نفسك عناء كبيرا. ما عليك إلا أن تمد يدك ولا بأس عليها إذا كانت غير طويلة، فالتينة هين غمز جانبها، وليست كما قال الحجاج عن نفسه. فإذا كان أبو نواس رأى صورة العريشة في كنيسة ما وجن بها حتى قال في وصفها ما قال، فما تكون حالك أنت؟ لا شك في أنه يمر ببالك، حيث تمر في هذا الجبل، وتشاهد العرائش مجلوة كالعرائس، قول ابن الرومي في وصف العنب الرازقي:
ورازقي مخطف الخصور
كأنه مخازن البلور
لم يبق منه وهج الحرور
إلا ضياء في ظروف نور
فلا بدع أن رأينا اللبنانيين أشد العالمين هياما بفصل الصيف؛ لأنهم تجار بلا رأسمال. رأس مالهم نور وماء وهواء، وثمار يقدمها الصيف بسخاء. فيا لله ما أعجب كرم الطبيعة الخيرة! يقولون عندنا: في الصيف المئونة على العود، وأنا أعرف الكثيرين من القرويين الذين يعيشون على الثمار صيفا، ومنهم من لا يذوق طبخا ولا خبزا. إن الصيف حبيبهم المفضل ومثلهم، يبين لي ولك، مبلغ حسرتهم على انقضاء الصيف إذ يقولون: لو كان للصيف أم بكت عليه.
ولولا كرم الصيف وتوسيعه على الناس لما سمعنا المثل العربي القديم: في الصيف ضيعت اللبن. أما حكاية هذا المثل فهي: كانت دختنوس بنت لقيط تحت عمرو بن عدس فكرهته لأنه شيخ. والغواني كما قال الأخطل التغلبي: فما لهن إلى ذي شيبة وطر. فطلقها وتزوجها فتى، جميل الوجه، وكان ذلك في عز الصيف. ولسوء حظها أجدبت تلك السنة فبعثت في الشتاء إلى زوجها الأول تطلب منه حلوبة حين زمجر الشتاء، فقال يوبخها ويلومها: في الصيف ضيعت اللبن: كما قال النابغة يلوم عروسة شعره:
ولا تعدي مواعد كاذبات
تمر بها رياح الصيف دوني
قد يخال القارئ أن لا عمل للقروي في الصيف غير الأكل والشرب والنوم. يظن ذلك حين يسمع المطرب الأشهر عبد الوهاب يغني بصوته الحلو: يا محلى عيشة الفلاح. أما الحقيقة فلا. إن فصل الصيف عمل دائم لا انقطاع له، فهو فصل الجمع والادخار، يبدأ بالحصاد وينتهي بقطف الأعناب وعصرها، وإعداد التين للخزن مع الزبيب والجوز واللوز وما أشبه من نقل الشتاء في الليالي الثرثارة.
ينتهي جهاد حبة الحنطة في أول الصيف، ولكنها تنتظر جبهة ثانية. الطحن والخبز وآلام النار وأوجاعها، ثم العودة إلى بطن الأرض لتحيا من جديد وتحفظ نوعها الذي هو قوت الإنسان.
كانت دودة القز تنشر الحياة في القرية في أيام الربيع، أما اليوم فلم يبق للبنان فصل تدب فيه الحياة غير الصيف. إن كل المواسم فيه، ما عدا موسم التزحلق الذي ولد جديدا، فكان طفلا ميمون الطالع على أهل الجرود حتى استأنسوا بإخوانهم الوافدين على أرضهم من كل فج عميق. أما الصيف فأرحب وأسهل، فلا هواء يقرصك، ولا برد ينقض عليك، وإذا لم تجد السرير نمت على الحصير وأنت ناعم البال تغني يا ليل.
هذي هي نعم الصيف علينا نحن أهل القرى، ففي الصيف الشمس، كانون الله الذي يدفئنا. ومن حسنات الطبيعة أن المريض المأيوس يعلل نفسه بآمال الشفاء في هذا الفصل الخير، فالوجوه تضحك فيه بملء أفواهها، حتى إذا ما انقضى وبدأت أوراق الشجر تتناثر عبست تلك الوجوه الضاحكة ودب الذعر بالنفوس.
يظهر أن الإنسان يحب بطنه كثيرا؛ ولذلك لا يثني إلا على من يطعمه من جوع. فما مدح الشعراء إلا الكرماء، وما تغنى بوصف الربيع غير شباب الشعراء، وما كان للخريف حظ إلا من شعر المتشائمين.
أما الذي يعيش على الأرض فكل آماله معقودة على فصل الصيف ليعبئ مئونته حين تندر المئونة في الحقول والبراري.
وإذا لاحظنا النملة رأيناها لا تهدأ صيفا، بينا لا نرى لها صورة وجه في الفصول الأخرى، فكأنها والحب على ميعاد، تدخر بلا توان ولا تبالي بالمشقة لتستريح بعدئذ. والقروي اللبناني مثلها يجمع في الصيف كل شيء حتى الحطب، وتنتهي رسالته حين يبيت الزيتون والزيت في الخوابي. وإذا كان من سكان المنطقة العالية، يقبع في بيته طول فصل الشتاء كما تقبع البزاقة في حلزونها، ويسكر بابه كما تسد هي باب قمعها. إن الجبلي والبزاقة على طرفي نقيض، فهي لا تظهر حين تسمع حس المطر، وهو ينتظر سقوط الثلج ليتوارى ويقعد حد موقدته يحلم بمواسمه العتيدة. لقد دفن الحبوب على رجاء القيامة، ومن كلامه المأثور: التعب علينا والطعمة على الله، والذي كتبه ربك يصير.
الذي لا يصيف لا يشتي هي من أقوالهم كما مر في بدء هذا المقال، ولكنهم يعنون أيضا غير المعنى السابق، أي إن الذي لا يكد صيفا لا يستريح شتاء. فالشتاء ولادة، والربيع فتوة، والصيف عزم وحزم وقوة، والخريف شيخوخة وهرم، وقد أدرك أبو تمام سر البقاء من نظره إلى الربيع الذي قال في وصفه:
إن الربيع أثر الزمان
لو كان ذا روح وذا جثمان
مصور في صورة الإنسان
لكان بساما من الفتيان
عجبت من ذي فكرة يقظان
رأى جفون زهر الألوان
فشك أن كل شيء فان
إن الربيع هو ابن الصيف، فما ينضجه الصيف من ثمار يعيد الحياة سيرتها الأولى، فكأنها بعث موقت يحيي في نفوسنا الأمل بالبقاء. فبورك الصيف عبدا أمينا مؤتمنا على حفظ النوع، يعيد إلى الأرض ما أخذ منها لتدور الحياة دورتها الدائمة.
ارفس الحواجز وامرق
كثيرا ما تخدعنا نفسنا فنحسب أننا جبال راسخة لا تأخذ منها العواصف والزوابع مقدار ذرة. وكثيرا ما نتوهم أننا على الأعمال الجلى قادرون، حتى إذا ما دقت ساعة العمل تدعونا ووقفنا أمامها وجها لوجه، رأينا أننا قد تضعضنا، وإذا بالذي كنا نخاله في حيز طاقتنا قد ابتعد عنا. إن مجابهة العظائم تتطلب أعصابا لا ترتجف ولا ترتخي، وكل من لم يتسلح برباطة الجأش لا يستطيع أن يخاطب نفسه، حين يقف على شفير الهاوية، يقول شاعرنا المشهور:
أقول لها وقد جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
ركبت مرة عربة سائقها مكتهل. وكانت الطريق، كأكثر طرق لبنان، معلقة في صدر الجبل. تحتنا واد عميق لا تخترق أحشاءه الشمس، حتى يكاد يكون مظلما صلاة الظهر. مشهد رهيب يقف فيه الرجل على أبواب الأبد ولا يدري متى تبتلعه الهاوية.
خشيت حلول النكبة، فتنهدت ثم صعدت زفرة صارخة وتأففت، فإذا بالسائق الكهل يرفع سوطه في الفضاء مفرقعا به فتنحط الخيل وتنساب فأرتجف. وكأنه أدرك ما بي من خوف فانطوى نحوي وهو يقول: اصبر يا عم، لا تخف. الأرض تنهز ولا تقع. الرجل يجب أن يكون سندانا لا يلين ولا يهتز تحت ضربات المطارق مهما ثقلت وضخمت. قالها ثم عاد يناجي حصانيه، وهو يخال أنهما يفهمان عنه ما يقول.
كبرت كلمة خرجت من فم ذلك الأمي. الرجل يجب أن يكون سندانا. فانتصبت أمامي في تلك الهنيهة، صور جميع ما رأيت في حياتي من سنادين، فتشددت حتى حسبتني واحدا منها . قد تكون مواجهتنا لإحدى النكبات التي تنزل بنا أكبر امتحان لذاتنا، فالخوف وحده نكبة كبرى، وقد تكون كالمعركة الفاصلة في ميادين النضال، فإما أن ننهزم أو نفوز. إن كل ذلك يتوقف على شجاعتنا وسيطرتنا على أعصابنا فلا تضعضعنا أقل نسمة تهب علينا. وكأن كبلنغ شاعر الإمبراطورية البريطانية قد شاء أن يضع ابنه أمام المصاعب الخطيرة، فنظم له هذه القصيدة عارضا عليه فيها ما يواجهه من عظائم مصاعب الحياة فقال:
إذا كنت تقدر أن تنتظر ولا تتعجب من ذلك، وأن تبغض ولا تستأثر بالبغض، وبهذه الحالة لا تفرح بمزاياك، ولا يتملكك العجب فتتكلم بغلو في المعرفة.
وإذا كنت تقبل الظفر والانكسار مع ما بين هذين الاثنين من التباين.
وإذا كنت تقدر أن تسمع الحقيقة التي قلتها مشوهة بالقصد السيئ لخدع البلهاء، وأن تنظر إلى الأشياء التي خصصت لها حياتك تندثر، فتجمعها وتنظمها من جديد بذات الوسائل المعروفة.
وإذا كنت تقدر أن تجمع كل ما ربحته، ثم تخاطر بهذا الكل في قحمة مغامرة، فتخسر، ثم تبدأ من جديد دون أن تتذمر أو تشكو خسارتك ومصيبتك.
وإذا كنت تقدر أن تحرك عضلات وأعصاب قلبك بعد وهيهما ليخدماك ويؤديا بك إلى هدفك.
وإذا كنت تثبت في حين لا يبقى لك شيء سوى الإرادة التي تهتف بك: اثبت.
وإذا كنت تقدر أن تخاطب الجماهير، وأن تحافظ على فضائلك، وأن تتردد على الملوك بدون أن تخسر بساطتك، ثم لا يقدر أحد سواء أكان عدوا أم صديقا أن يحرج موقفك.
وإذا كنت تقدر أن تثق بكل الرجال، ثم لا تثق بأحد منهم ثقة مطلقة عمياء.
وإذا كنت تقدر أن تملأ الدقيقة المارة من حياتك.
فإن العالم، وكل ما فيه الآن، وما هو آت بعد، سيكون لك. وستكون رجلا يا ابني.
كثيرون منا يخالون أن ما يتحدث عنه الشاعر هو فوق طاقة البشر، ولكننا إذا نظرنا إلى ما حولنا، وجدنا هذه النماذج من المثل العليا التي رسمها الشاعر لابنه قائمة حولنا، وإن لم تجتمع كلها في واحد، كما يريد الشاعر لابنه، فهي موجودة في كثيرين. إنها كلها تتجه نحو هدف واحد هو الثبات. وقد قال نابليون: إن النصر حليف الأشد ثباتا. كما قال مونتسكيو: النجاح في الحياة حليف من يعرف أن يصبر. وهذا ما يعنيه كبلنغ في مطلع قصيدته لابنه: إذا كنت تقدر أن (تنتظر) فكثيرون من شبابنا لا يقدرون على الانتظار، فهم يريدون أن يجمعوا المال فور نزولهم إلى السوق إذا كانوا تجارا، وإلا أقفلوا أبواب مخازنهم ثاني يوم وباعوا أثاثها وراحوا يفتشون عن عمل آخر. وإذا كانوا علماء يريدون أن يظفروا بالاكتشافات والحلول فور تفكيرهم بها، وإذا كانوا أدباء يريدون أن يطيروا إلى القمة طيرانا.
كثيرة هي الشواهد على الثبات الذي عبر عنه كبلنغ بالانتظار. كتب أحد أصحاب المكاتب إلى شاب عهد إليه بإدارة فرع جديد: إذا بذلت كل جهدك وصبرت مدة نصف شهر لم تبع فيها كتابا واحدا فإنك ناجح في المستقبل.
ويقول الشاعر لابنه: إذا رأيت الأشياء التي خصصت لها حياتك تندثر، لا تيأس بل استأنف عملها من جديد. وهذه أيضا نجد لها أمثلة في التاريخ، فكارليل صاحب تاريخ الثورة الفرنسية أعار جارا له مسودة المجلد الأول منه فتركها ذلك الجار على أرض غرفته، فلمتها خادمته على أنها من المهملات وأشعلت بها النار. فانقضت هذه النكبة كالصاعقة على رأس كارليل؛ ولكنه بدلا من أن ينثني عزمه أكب على مراجعة المئات من المؤلفات الخطيرة وكثيرا من مخطوطاته وأعاد في شهور ما أحرق في بضع دقائق.
وإديسون العالم الطبيعي قضى سنتين طائفا في غابات أميركا يصور الطيور التي فيها، ولما عاد وضع تلك الرسوم في صندوق ثم غاب عنه مدة، ولما فتحه وجد الجرذان قد أتلفت تلك الرسوم، فتشدد بدلا من أن يقنط وييأس وراح يطوف ثانية في تلك الغابات مستأنفا عمل رسومه فجاءت خيرا من الأولى.
أما الذين جمعوا كل ما ربحوه وخاطروا به فخسروه، ثم بدءوا من جديد بلا تذمر ولا شكوى، فهؤلاء نجدهم في أسواق العالم الكبرى، وإنهم ليستحقون التمجيد.
والكتاب الذين لم تصادف تآليفهم الأولى نجاحا بل أعادها لهم الناشرون مع الشكر، أو استقبل النظارة تمثيلياتهم بالصفير، ولكنهم ثبتوا بعناد وإصرار حتى بلغوا ما يشتهون، فحسبنا أن نذكر منهم برنارد شو الذي ظل ثابتا حتى بلغ أخيرا ما تمنى وأحله اجتهاده المكان الأسمى.
فالثبات هو الذي حض كبلنغ ابنه عليه ليكون ذاك الرجل، والخصال التي ذكرها في قصيدته، وإن اختلفت تعبيرا، فهي تقريبا واحدة، ولا شك في أنها درجات سلم النجاح في الحياة.
إن الحياة ميدان كفاح أو حقل تجارب، والعمر ساحتها فلا تقل ماذا بقي من العمر، فالشاعر يحث ابنه على ملء الدقيقة الحاضرة من حياته.
فإذا كنت يا أخي قد اكتهلت أو شخت فلا تقل: فلنسترح قليلا. فمن يدري أنك لا تعمل في العام أو الشهر أو اليوم الباقي ما لم تعمله في حياتك كلها؟ إن الحزم يقتضينا المحافظة على الباقي من حياتنا. فعام حافل بالجد والكد قد يكون أجدى من حياة صرفناها بين الإحجام والإقدام.
إن البطل الأمين يقبض على العلم بفكيه إذا فقد يديه، فلنكن ذلك الرجل الذي تمنى شاعر الإمبراطورية العظيم أن يراه في ابنه.
الشجر تتهم البشر
ما أثقلك يا ظلام! وما أقساك يا ليل! فقد زدت الغابة وحشة وأخفيت تحت جناحيك وحوشها المفترسة وناديت الضواري خلا لك الجو.
الغابة في الليل كالمدينة في النهار. في الاثنين ذئاب تخشى أنيابها وبراثنها، ولكن لكواسر المدينة أنيابا من حديد وأظافر من نار، وهي أجرأ وأفتك وأحد نابا من وحوش الغابة.
دخلت الغابة تحت لواء الظلام فهمس الضمير في أذني: امش في النور ما دام لك النور. نعم سمعت صوتك أيها الضمير، ولكن أتجهل أن من أحشاء الغيوم السوداء تنبثق الكهرباء الساطعة؟ ما هذا الصراخ والعويل؟! ما هذا البكاء الجارح؟! أرى أشباح الموت تلوح في الفضاء، وزفرات المنية قد ملأت الغابة. ليست الأشجار ببشر لتزاحم بعضها وتقتتل وتشن عليها الغارة. إذن ما الذي أقلق خاطر الليل، وأزعج بال الهدوء والسكينة؟! لا بد من أن تكون لابن الإنسان يد في هذه الضوضاء وفضل على نشأتها. فلنتقدم وننظر. أما قال الشاعر في ذلك الزمان:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذا عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
وكان الخوف ينمو كلما اخترقت قلب الغابة فتثقل علي وطأة الرعب، والصوت يزداد قوة ويحمله الهواء على منكبيه طائفا به في أقطار الغابة الموحشة. ذعرت الضواري وتركت الطيور وكناتها وفر الذئب هاربا خوفا من ريحة الإنس. أما أنا فتقدمت مستقبلا ما يكون بصدري، فقد علمتني الحوادث ألا أدير ظهري لطاعن فأمكنه من مقاتلي.
وكان الصوت ينبعث من كهف ضفرت له يد الطبيعة إكليلا من العليق والعوسج. واهتديت إلى بابه فدخلته قائلا: إن التاريخ يعيد نفسه، وهذا نظير جريح أريحا فما ضرني لو كنت ذلك السامري. وما وقعت عيني على ذلك المتوجع حتى سمعته ينادي: ويلهم قتلوني.
تفرست بالصارخ فإذا هو فتاة غضة الشباب جميلة غطى شعرها الأسود الطويل وجهها البديع الناصع البياض. ناديتها فأعرضت عني مغطية وجهها بيديها الناعمتين وصاحت: إلى هذه البرية لا تزالون تقتفون أثري! دعوني أعيش في هذه الغابة كالنساك فقد سئمت أعمالكم يا بني البشر. لقد جرتم علي وسحقتم قلبي وحطمتم مجدي. اضطهدتموني واحتملت كل ما لحق بي من ظلمكم أيها القساة، فدعوني الآن أستريح في هذه البرية بنفس راضية إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. ثم أعولت فملأ صراخها الفضاء فتفطر قلبي لوعة عليها، وسألتها: من أنت أيتها الفتاة؟! وأية جناية ارتكبت فأبعدت إلى هذه الغابة حيث لا يؤنسك غير نعيق البوم والغراب، وفحيح الأفاعي وخوار الضباع؟ أأنت تموتين وتودعين الوجود؟! ومن يرضى عن موت غادة مثلك؟ فقومي تنقلي بين الأزاهر فإنك لا تزالين زهرة ناضرة لم تنفتح العين على أجمل منها، وحدثيني عما نزل بك من مصائب الدهر فلعل لدائك عندي دواء.
فأجابت: قضي الأمر ولم يعد لي من الحياة نصيب، فأنصاري قد ماتوا، وأنى توجهت لا أرى إلا وجوها كالحة وجباها مقطبة وحناجر مفتحة كالقبور وسم الأفاعي تحت الشفاه. ينظرن إلي نظرة القضاة إلى لص مجرم ولا يريدون غير رجمي، ولهذا تركت معترك المدن حيث تتطاحن البشر وجئت إلى هذه الغابة أنشد السلامة والاطمئنان. هجرت الهيئة الاجتماعية وطويت عنها كشحا.
فقلت لها: ضاق صدري ولم يبق في قوس الصبر منزع فهل أنت ساردة لي تاريخ حياتك؟! يظهر أنك غريبة الأطوار وأسرارك عميقة!
فأجابت بطرف منكسر: أنا هي العذراء التي افتخر بها الإنسان القديم، وتغزل بها كبار النفوس وتعشقها الفلاسفة والمطلعون على أسرار البشرية. أنا هي المحور الذي تدور عليه رحى الحياة، والشمس التي تلقي أنوارها على المجتمع الإنساني فتنعش ما ذبل من رياضه، وتبدد ظلمات لياليه الحالكة. أنا هي الروح لجسم المدنية الحاضرة، وما نفع الجسم إذا فارقته الروح!
أنا هي نعيم هذه الحياة. فمن لجأ إلي أمن الويل والنوازل، ومن أعرض عني عاش معذبا في جهنم الضمير، فالويل للذين جاروا علي وتركوني، فعاقبة حياتهم وخيمة وأيامهم سوداء مظلمة. أنا هي عروس الشعراء، بل عروس كل ذي نفس تشعر، فكم من رجل أراد الصعود إلى سماء المجد، ولكن كرهه لي أدى إلى هبوطه من أعلى إلى أسفل! وكم من فتى أحب أن يسود بدوني فلم يوفق!
فصحت بها: يا أختاه! دعي قول أنا وأنا. فما قلته تغني عنه كلمة، فقوليها بالله عليك.
فنظرت إلي شزرا وقالت: أنا هي (الأمانة) والويل للبشر إذا فقدوني. فالقائد إن لم يكن حائزا على جانب عظيم من الأمانة يخون دولته، ويقوض دعائم مجدها، والخادم إذا لم يكن صادقا مخلصا يدس لسيده السم فيميته شر ميتة، والصديق إذا لم يكن أمينا كان ويلا ويوقع من اصطفاه في شراك البلايا، والتاجر إذا لم يكن صادقا أمينا يبيع ذمته وينهب أموال البشر ولا يبالي إلا بجمع الثروة سواء أعن طريق الشهامة كانت أو عن طريق اللؤم والدناءة. وقصارى الكلام أن كل ذي شأن في الهيئة الاجتماعية إذا لم يكن صادقا فهو مكروه وممقوت من البشر.
فأجبتها: خففي عنك ولينعم بالك؛ فإن أنصارك كثيرون. كثيرون هم الأمناء الصادقون والذين يرون الخيانة جبنا وعارا. فعندنا التاجر والخادم والمخدوم والصديق يحمون ذمارك ويفدونك بدمائهم ، فقد ورثوا هذه الخلة الكريمة عن أجدادهم الذين اشتهروا بها ورفعوا لواءها.
أما هي فأجابتني: لقد عم الطمع والرياء وأصيبت الناس بداء حب الثراء، وانتشرت المداجاة حتى سموها سياسة عصرية، وهذا الذي رغب إلي الاعتزال.
فقلت: وكيف تعتزلين هنا: فالأشجار وحدها تقضي عليك؟
فحدقت إلي شجرة كهلة وقالت: فتح عينك، نحن شجر لا بشر. انظر ترى أننا لا نقتتل على شيء، كل واحدة منا تقف حيث هي فلا تتنازع لا على الماء ولا على الهواء، ولا على النور. إن صفوفنا لا تتحرك ولا تعلن حربا، فهذه الغابة تعيش أشجارها بسلام، تتعانق أغصانها ولا منافسة بينها على شيء، فعند السماء والأرض خير كثير. أصغ، أصغ، ما لك مبهوتا؟! - كلي آذان يا سيدتي، فقولي ما عندك.
فقالت الشجرة: هل سمعت صوتا غير حفيف الأوراق؟! اعلم وخبر جماعتك الناس أن شريعتنا شريعة السلام والاطمئنان، وإذا كان عندنا جور وبغي فهو يأتينا من القرى والمدن. إن الذنب هو ذنب الدم، أما الماء الذي يجري في عروقنا فلا يحملنا على الجريمة، إن ذوي وذوات الدم هم الذين يزعجون الغابة، وإذا قلتم ذامين قادحين: شريعة الغاب، فالذنب ذنبكم أنتم وذنب الحيوانات، وكأنكم أدركتم ذلك فقلتم عن أنفسكم: فلان دمه حار، وفلان دمه بارد، وفلان دموي أي سفاح.
قال أحد مجانينكم: من خلق علق، وكلمته هذه تصدق فينا لأننا لا نسعى، نعطي ولا نأخذ، ويغار علينا ولا نغير على أحد.
تأتوننا بفؤوسكم ومناجلكم فنقابل شركم بالخير ونعطيكم كل ما نملك حتى أنفسنا.
جبلتم على الشر والأذى ولذلك تقولون: الدم لا يصير ماء. لا أقول لك اخرج من غابتنا لأننا خلقنا لا نرد أحدا، أما أنتم فقد يقتل بعضكم بعضا من أجل عود من عيداننا.
أما هذه الفتاة فقد جاءت إلى حمانا ونحن نضمها إلى صدورنا، وإذا اعتدى عليها أحد فلا يكون إلا من ذوي الدم. فاذهب من حيث جئت ودع عندنا هذه اللاجئة وشأنها. لقد جاءت إلينا ونحن لها.
كوافيرنا
يطالبنا نفر غير قليل بالعودة إلى معالجة الشئون الاجتماعية الأخلاقية التي هجرناها مدة، مع أنها أولى بعنايتنا لأنها حجر الزاوية في صرح المجتمع، فالإصلاح الجذري الذي ننشده ونتغنى به دربه من هنا. فإذا استصرخنا الضمير الإنساني وأيقظناه أمسى الإصلاح ممكنا، وإلا فلا أمل ولا رجاء.
إن ضميرنا السياسي مخدر لا يحس ولو ثقبناه بمسمار ... وقلمنا كل وجف فلم يعد يؤثر بهذه الجلود المتمسحة. قالوا: الحياء بالنظر، وأصحابنا يرون الشذوذ العنيف كأنهم يرون القاعدة المثلى التي ما ضل صاحبها ولا غوى. لا يتورعون عن وضع القوانين طبقا لأشخاص معينين حتى إذا ما أجلسوهم في حضن إبراهيم، أو هووا بهم إلى أسفل سافلين، عادت تلك القوانين إلى قواعدها بعد أن قوضت ما قوضت ودكت ما دكت.
اجتهادات وحيل على القانون تجعل الأسود أبيض، والصيف شتاء على سطح واحد. إن صاحب الحق عندنا مقهور، ومن منا يجهل من يقهره! تقهره الوسائط والشفاعات التي لا يترفع عنها أحد من أصحاب النفوذ، فالتجئ إلى من يشد أزرك من رؤساء دين ودنيا واحمل منهم كتبا ووصايا تشهد ببراءتك تفز غصبا عن رقبة القانون، ولإرضاء هؤلاء المتاجرين باسمه تعالى تكون الدولة كبش المحرقة، كما يكونون هم تيس الخطية ومن يتمسح بهم يبرأ من ذنوبه وخطاياه. شهادات زور يؤدونها وهم لا يعرفون شيئا من أسرار القضايا التي يتدخلون بها، غير مبالين بالشكوك التي أتت وتأتي على يدهم.
كانوا يقولون ألسنة الخلق أقلام الحق، والأصح اليوم أن نقول: أفلام الحق، لأن التمثيليات التي تعرض على مسرح العدالة خداعة كذابة. ولعل هذا هو الذي حمل شبلي الشميل، الفيلسوف الاجتماعي اللبناني على القول: رأيت الغني الشبعان يبلع الجمل ولا يتستر، والفقير الجوعان يتلصص لسرقة الرغيف الأسمر، والقانون يكافئ ذاك برفع القبعات، ويعاقب هذا بالسجن سنوات ...
كما قال جبران في مواكبه:
فالسجن والموت للجانين إن صغروا
والمجد والفخر والإثراء إن كبروا
أجل هذا هو واقع الحال. فسارق مئات ألوف الليرات يتنقل كالطاووس من بنك إلى بنك يتفقد ودائعه، ويمشي في الأرض مرحا، وسارق الاثني عشر ألف ليرة نزعج أنفسنا لنقبض عليه في مصر والسودان ونعيده مكبلا بالحديد.
وماذا تريد منا أن نقول بعد هذه الصراحة كلها، ولكن هل من يسمع؟! هل من يستحي؟!
إن السارق الصغير أقل من حمار لأنه لا يستطيع أن يطير برزقه، ولا أن ينقذ نفسه. فميزانيته ضعيفة لا يستطيع أن ينفق منها ما تشترى به الضمائر. أما أبطال الصناديق والخزنات ففي مكنتهم أن يرضوا ويسترضوا، فتخرج (الدعوى) من باب شرقي، والعدالة لا تزال قاعدة في قاعة الانتظار، تندب حظها وسوء مصيرها.
لقد خاب الأمل بمن رجونا عدالة على يدهم. لقد استعجلنا الحكم عليهم، فهللنا وكبرنا ولم نتعلم من الدرس الذي ألقته علينا الأيام. لم نتمهل حتى نرى ما يكون من صدق الآية: أعداء الرجل أهل بيته.
عفوا لقد شط القلم ورحنا نشكو من الألم، مع أننا قلنا فيما مضى: إننا سئمنا تحديث من لهم آذان ولا يسمعون، ولهم أعين ولا يبصرون، ومن أصلك عوجا يا عوجا. كنا نقول فيما مضى: عوجا من سطمبول، أما اليوم فسطمبول صارت عندنا.
أرأيتني كيف أحاول الخروج من ذاك الموضوع، من كلام لا فائدة منه، فلنعالج إذن آفة من آفاتنا الاجتماعية، ونصب عليها سخطنا.
إن هذا الكذب الذي نسميه وعدا لهو شر آفاتنا الشرقية، فالشرقي أسرع ما يكون إلى (نعم) وأبعد ما يكون عن الوفاء بوعده.
إن كلمة (تكرم) على رأس لساننا، ولكنها كلمة مقولة لا خير يرجى منها. قال الله في كتابه العزيز:
متى هذا الوعد إن كنتم صادقين
ليحثنا على الصدق والوفاء بالوعد ولكن الإنسان كان كنودا. والمثل العربي كما ورد في مقامات الحريري: أنجز حر ما وعد، وسح خال إن رعد، يرينا ما للوعد من شأن عظيم في مسير الحياة. فالوعد هو تلك القطرة الدرية التي تتعهد زهور الأماني فتفتر ثغورها، وهو روح محيية تبعث ميت الأمل الثاوي في الصدور، فكم أحيت من نفوس خنقها اليأس أو كاد يدفنها في غيابات قبور القنوط! وكم لمت من أشتات أماني لعبت بها رياح الخيبة والفشل، فبددتها كما تتبدد أوراق الخريف في يوم عاصف! إن الوعد هو ذلك الوثاق المحكم الفتل الذي يربط السواعد بالموعود، والحجة التي يخطها لسان الكريم ويسجلها بمحكمة الشرف والشهامة، فيصبح الوفاء بها واجبا عليه.
وما الوعد غير كلمة بسيطة يلفظها الإنسان فتكون قبل النطق بها نافلة، ثم تصبح بعد ذلك فرضا، من فاته قضاؤه فاته من الشهامة والكرامة شيء كثير. وقد كانت العرب تعد الرجل ساقطا دنيئا إذا خلف بوعده. وإنه لكذلك، وذاك لأنه يكون مخيرا في تقييد نفسه بهذا القيد الذي لا تفكه غير يد الوفاء والصدق وقد قال شاعر العرب:
إذا قلت في شيء نعم فأتمه
لأن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا تسترح وترح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب
والمثل يقول أيضا: وعد الحر دين. نعم إنه أكبر الديون، ومن قضى هذا الدين سما وارتفع لأنه يقضي بذلك واجبات الإنسانية ويصون مقامه وكرامته. والرجل الرجل هو من نظر وافتكر فيما وراء قوله: سأصنع كذا. حتى إذا تأكد أنه مستطيع وعد على نية الوفاء، وإلا فلم يضع هذا الغل في عنقه ويحمل نفسه أثقال المطالبة فيتوارى خجلا وحياء عند مرأى الموعود؟ إن الوعد الكموني شين للكرام، وقد وبخ بشار بن برد ممدوحه بقوله:
وعدت فلم تصدق وقلت: غدا غدا
كما وعد الكمون شربا مؤخرا
وهذا المثل العباسي لا يزال على ألسنتنا فنقول: أسقيك بالوعد يا كمون.
وأولى الناس بوفاء الوعد هم الرجال لأنهم إذا تقاعسوا عن وفاء وعودهم حطوا من كرامتهم وجنوا على نفوسهم واستمطروا عليها دعاء الخائب الذي قيدوه بخيط الرجاء الواهي، وتركوه مدلى فوق جب من اليأس تقلبه رياح المطل كيفما مالت، حتى إذا ما قطعته، سقط ذاك المسكين في هوة الخيبة لاعنا من زين له الأماني.
من لا يذكر منا كافورا الإخشيدي والمتنبي الشاعر العظيم؟ فإنه بعد ما مدح صاحب مصر ببيت، لو تمثلنا الشعر العربي، لكان هو بيتها:
فجاءت به إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
ولما توارى شيخ الرجاء وتقلص، ولم يرجع الشاعر الهائم بحب الولاية ملكا للعراقيين، عاد فهجا كافورا هجاء مرا، وذلك بعد ما يئس من نيل تلك الوعود الطويلة العريضة التي أسكرته سورتها وجعلته يحلم بالأماني فيطيعه الشعر. وانقضت تلك الهجعة الطويلة وتبددت أحلام الشاعر الذهبية فراح يعير الرجل بسواده الذي تخيله مسكا حين مناه، ولما ذهبت غشاوة الأماني عن عين الشاعر لم ير في كافور إلا ماضيه القاتم فقال فيه:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
صدقت يا أيها الشاعر! وهذا جزاء من يخلف الوعد. يا ليت لنا لسانك لنهجو (كوافيرنا) الذين يشيدون لنا قصورا شاهقة من الوعد، ولكنها مبنية على رمال الغايات ودون الوصول إليها عقبات من المطل والإخلاف لا تمهد.
فما أكثر وعود ناسنا وأقل إنجازها! يعدون ولا يضربون للوفاء أجلا مسمى، ولكنهم يأخذون يتقاذفون الموعود من حين إلى حين. ويكثر عندهم في هذا المجال استعمال السين وسوف، وينورون ظلمة وعودهم بكهرباء الآمال فيأتي الموعود عند كل أجل يقذفه تيار الرجاء بنيل المرام، ولكنه يعود من حيث أتى ظافرا بالتسويف. وهكذا يظل يجيء ويروح معللا نفسه بالفوز وهيهات أن ينال مراما. يجرعونه من المطل كئوسا أمر من العلقم، يفوز منهم بحلو الكلام وينام على فراش من ريش النعام، ولكن يقظته تذهب بحلاوة الأحلام. ولطالما ذابت روح بهاء الدين زهير اللطيفة وتشكي فؤاده الرقيق آلام المطل حتى أنشد هذه الأبيات التي ترسم لنا صورة كل موعود وما يقاسيه من أوجاع الخلف. قال:
قد طال في الوعد الأمد
والحر ينجز ما وعد
فوعدتني يوم الخميس
ولا الخميس ولا الأحد
وإذا اقتضيتك لم تزد
عن قول: إي والله غد
فأعد أياما تمر
وقد ضجرت من العدد
وقد سمعنا أبا فراس يناجي ليلاه، بعد ما أعياه الصبر، قائلا:
معللتي بالوصل والموت دونه
إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر
نعم أيها الشعراء قد أصبتم، ولكن قل من يعير أقوالكم آذانا صاغية، بل قل من يسمع لواجب الوفاء نداءه، وللموعود أنينا يتصاعد من وراء جدران الحسرات الغليظة. لقد أصبح قومنا يتركون من يعدونه مطروحا على حضيض الاصطبار متقلبا على شوك الانتظار، يقاسي مضض الوعد ويتنازعه عاملا اليأس والرجاء. فما أحراكم أيها الرجال لو دققتم في وعودكم ووضعتم لها حدا! ألا تعلمون أن العار عليكم إذا سوفتم وما وفيتم، وليس إذا قلتم: صنعنا ما قدرنا عليه ولم نقدر. فيعود الرجل شاكرا ملتجئا إلى سواكم ويتدبر أمره، والله لا يترك أحدا.
وما أحرى ذلك الرجل الذي يملأ الدنيا وعودا عرقوبية أن يصنع ما يريد صنعه من دون أن يمني الناس بوعوده التي أرادها دليلا على مروءته فإذا بها تنقلب شهودا على انحطاطه إذ يخلف وعده!
فكم من الذين عادوا أصحابهم لأجل كلمة نعم التي كانت تنوب عنها كلمة لا، ولكنهم قصدوا بها توثيق عرى الصداقة والمحبة فخاب ظنهم! لا شك في أنها توطد أركان الألفة إذا وفى الواعد ولكنه إذا أخلف فلا يرى غير صدور تنقد فيها نار البغض والحقد عليه، وقد قال المثل: وعد بلا وفاء عداوة بلا سبب. وما أجمل الكريم الذي إذا قال فعل!
ومن يحاول صنع جميل مع رجل فلا يليق به أن يحمله من أثقال الصبر جبالا، بل عليه أن يقضي له حاجته فورا، أو يضرب أجلا يفي به بوعده، ولا يعلله بكلمة رح وتعال، ويظل يمنيه هكذا حتى يوم القيامة.
ويا ليت قومنا يفكرون بما تجره عليهم كلمة نعم قبل أن يطلقوا سراحها، لأنها وإن تكن في أول عهدها أسيرة سجن الفم، فلا تعتم أن تصير حاكمة على الكريم، إن رقد في الظلام تخيلها مسطرة بأحرف نارية على حيطان غرفته، وتزداد كبرا متهددة تلك الغرفة بالاحتراق إذا لم يطفها بماء الوفاء. وخير الناس من أنجز وعده ولم يترك لأحد مجالا ليردد على مسامعه: أنا الغني وأموالي المواعيد.
كان القدماء يقولون: وعدناه فلا بد من الوفاء. أما اليوم فيقال: قذفناه.
نعم يا سيدي قذفته، أحسن الله حاله، ولقاك المخلفين الكذابين ليأخذوا بثأره منك. ألا تعلم ما قيل: وعد الكريم نقد وتعجيل، ووعد اللئيم مطل وتعليل، فكيف رضيت أن تكون لئيما؟! ألم تسمع أيضا: العذر الجميل خير من المطل الطويل؟ فلماذا لم تعتذر؟
التقيت برجل من أبطال المعارك الانتخابية، وزعماء السياسة القروية، فسألته عن ابنه تلميذي ماذا يعمل، فابتسم وقال: (موعودين) وتكرر لقاؤنا وكررنا السؤال فظل الجواب كما كان، وقد شب الفتى وشاب، ولم يدخل الكتاب ليجلس على كرسي موسى.
عثمان ومعاوية وأبو ذر
وفي الماضي لمن بقي اعتبار. هكذا قال أبو الطيب، وما أجمل ما رواه المخزومي عن الأفغاني، عن السلف الصالح، هدانا الله إلى سواء سبيله، قال:
أتت عمر بن الخطاب الأنباء ممن أقامه (رقيبا) على سير وسيرة عماله بأن عامل مصر - عمرو بن العاص - وعامل دمشق - معاوية بن أبي سفيان - قد بدا عليهما البذخ والثراء، وهما الخادمان للجموع، وأنهما يصرفان سلطان الحكم ونفوذه بغير وجوه الحق. فخاف الفاروق أن ينفر المسلمون من حكامهم، فأسرع لسد ذلك الخلل فكتب إلى ابن العاص غاضبا:
إلى العاصي ابن العاصي. ما أقطعتك مصر طعمة لك ولقومك، ومتى كان ابن العاص في مثل ما بلغني عنه من ثراء ودور وقصور؟!
وبمثل هذا الكلام الخشن خاطب معاوية مهددا. ثم لم يكتف بما كتب، ولم يسأل: من أين لكما هذا، لأن هذه العبارة لم تكن رائجة في تلك الأيام، بل أرسل معتمدا من قبله، وأمره أن يشاطر كل عامل مقتناه من ثروة ومتاع. ففعل المعتمد ما أمره به سيده. حتى إنه أخذ فردة نعل ابن العاص وترك له الأخرى.
وآلت الخلافة إلى عثمان بن عفان، فتغيرت الحالة الروحية في الأمة تغييرا محسوسا، فبطر العمال والأمراء، وأثرى ذوو القربى من الخليفة. وقصر (المجاهدون)، مع جريهم وسعيهم وراء تدارك معاشهم عن اللحاق بالمنتمين إلى رجال الدولة القابضين على مفاتيح بيت المال، فتكونت من جراء ذلك طبقة أخذت تتحسس بشيء من الظلم، وتتحفز للمطالبة بالحق المأكول.
وكان الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري أول من تنبه لهذا الخطر الذي يتهدد الخلافة، فجاء إلى معاوية بن أبي سفيان، وخاطبه بتقليل دواعي السرف والترف، وبوجوب الرجوع إلى سيرة السلف، وعدم التمادي في مسببات الحسد.
فأجابه معاوية: يا أبا ذر، إن ما تقوله هو الحق، ولكن ليس في استطاعتي الرجوع إلى سيرة الصديق والفاروق وسيرهما، وغاية ما في إمكاني الحث على بذل الصدقات، والقول اللين إرشادا، وعن طريق الوعظ لتخفيف دواعي الحسد.
فقال أبو ذر: يا معاوية، قد نصحتك والدين النصيحة. فاحذر أنت والخليفة عثمان مغبة ما أنتما عليه. وذهب من مجلس معاوية مغاضبا.
ولكي يسترضيه معاوية بعث إليه ليلا، بألف دينار فقبلها أبو ذر، وفرقها في الحال على المعوزين.
وفي ثاني يوم أرجع معاوية الرسول إلى أبي ذر ليقول له: إن الألف دينار لم ترسل إليك، وإنما غلطت أنا، وإني أخشى عذاب معاوية.
فقال له أبو ذر: والله لم يبق معي من دنانير معاوية ولا دينار.
وضاق معاوية ذرعا بأبي ذر فاستجار بالخليفة عثمان، فأمره هذا بإرسال أبي ذر إليه فأرسله. ولما تقابل أبو ذر مع عثمان لم يسمع منه أكثر مما سمع من معاوية، فقال أبو ذر: يا عثمان، أما تذكر حديث رسول الله؟ ومعناه: إذا وصل البناء إلى سلع، واستعلى في المدينة، وجبت الهجرة. فها قد استعلى بناؤك، وبناء قريبك معاوية وأعوانكما - فأستودعك الله - تاركا لك ولمن استعملت من العمال (أعمالكم)، والله من ورائكم محيط.
فألح عثمان على أبي ذر أن لا يفعل، فقال أبو ذر: إن رسول الله أولى أن يتبع.
وبالفعل قد هاجر هذا الصحابي الجليل من المدينة، حتى لا يرى المال الحرام يرتفع قبابا وقصورا، ويستحيل جنائن غلباء، ودارات مربعة وقوراء، وخيولا عليها البراذغ المفضضة، وسيوفا تنام في أغماد ذهبية استرقت لونها الأصفر من وجوه الرعية اليائسة.
أوانسنا وعوانسنا
دعيت فلبيت، فإذا أنا في بيت ينطح الجو، تضيع في بهوه الضيوف مهما كثرت، وغرف رحيبة يضاحك بعضها بعضا عن بعد، وقبل أن نبلغ المقام استقبلنا السيد والسيدة وعرفانا بأولادهم، فإذا هم خمس بنات لهن أخ واحد، فقلت في قلبي: صبر الله قلب هذا الرجل، فمن أين يفبرك لهؤلاء الشابات عرسانا؟! ومن يجرؤ أن يتقدم، إذا لم يكن قادرا على هذا الحمل الذي يقطع الظهر، فهن لا يرضيهن إلا السري الأمثل، والمثري كأبيهن، وهؤلاء قلائل.
وجلسنا وجلس معي في زاوية قصية من الدار واحد عرفني وما عرفته، فشق الحديث بدون كلفة وقال: كيف رأيت هؤلاء العرائس؟
فقلت: وهل حسبتني أفتش عن عروس؟! أنا أرمل دهر لا شهر، كما قال العوام.
فأجاب: إن لم تكن لك فعندك أولاد، تفرح منهم إن شاء الله.
فقلت: الذي هو مثلنا يصلي لربه صباح ومساء: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، ويعيش على رجاء قيامة عرق جبينه الذي يقبره في تراب الأرض، لا يخاطر بحياته وحياة بنات الناس ...
فقال: وأية مخاطرة؟! كل واحدة منهن معها مليون.
فقلت: لا توجع قلبي بحديث الملايين، فذات المليون تنفق بلا حساب، ومن ينفق بلا حساب لا يعلم مصيره إلا الله. فليتزوجها من يريد أن يكون خادما لها، ولمليونها.
وجاءنا ثالث فقطعنا الحديث، وقضينا السهرة في أحاديث تناسب المقام. لا حاجة إلى وصف كرم المضيف ولطفه وبشاشة عقيلته، وتكلف بناته الظهور بمظهر النبل المبجل، وإن دلت حركاتهن على أن إياهما من الأوادم الطازة، ثم انصرفنا وكلنا ألسنة شكر على كرم البيت، وتحدثنا عن الثروات المفاجئة التي تنبت كالكمأة في السنين الملائمة، فبينما الذي كان يشتهي العضة بالرغيف إذا به يعوم في المحيط الأطلسي.
وبعد سنين التقيت بجليسي في تلك السهرة فذكرني بها، فقلت له: والبنات؟
فأجاب: هن في البيت.
فقلت: بيتهن أستر لهن. ومن يجرؤ على اقتحام هذا الحصن المنيع؟! فالبيت الذي يستقبل هاتيك التصاوير الزيتية الناصعة الدهان يجب أن يكون كاتدرائية.
قال الأخطل في خمرته القديمة العهد:
عذراء قد كلفت من طول ما حبست
حتى اشتراها عبادي بدينار
أما العانس فلا نجد من يشتريها بفلسين. لقد أغلوا السعر في أيام العز ورواج السوق، فبقيت البضاعة في واجهاتها وعلى رفوفها تنتظر من يسومها. وهكذا تحفل البيوت بالعوانس، ولا أمر من عيشة بنت تعنس وتبقى في بيت أبيها، فمن المسئول يا ترى عن هذه النكبة الاجتماعية ؟
إنها تربيتنا، فالبنت التي هي من هذه الطبقة لا تعرف من البيت غير غرفتها والصالون، ولا تدخل المطبخ لئلا تؤذي رائحة الطعام عطرها المختار، ويعلق شيء منه بذيولها. ثم من أين لها الوقت، وهي لا تستيقظ إلا في الضحى، ولا تخرج من غرفة زينتها إلا صلاة الظهر، ثم تتغدى وتنام لتعود إلى التزين مساء، ثم تنتظر لأنها على موعد مع أترابها للتسلي بدق بريدج العشاء والسهرة الراقصة، أو الذهاب إلى السينماء.
وبعد السينماء يدور لعب البوكر حتى مطلع الفجر، فكل لياليهن ليالي قدر (بعيد الشبه).
ومن يرى هذه المشاهد كيف تحمله رجله أو يتجرأ على دخول هذه البروج الحصينة؟! وإذا رأيت في يد البنت كتابا فلا يكون إلا رواية غرامية من العيار الثقيل، فكأنها خريج كلية حقوق يعمل (الستاج).
وهب أنه تقدم لخطبتها شاب أعمى القلب لا يقدر العواقب، فهناك البلاء وشروط المسكوب على السلطان.
سيارة كاديلاك موديل السنة الحالية، وشوفير مثل ياور سلاطين بني عثمان، وماشطات، وطاهيات، وغاسلات، وألف ضربة سخنة، في قصر من قصور ألف ليلة وليلة.
وقبل أن تكرر الزيارة لا بد من الإقدام على الخطبة، إذا ملأت عينها، وما هي الخطبة؟
خاتم برلنتي، سوليتر لا تقل حبته عن عشرة قراريط، وقرط مشلشل بالألماس، وعلبة تواليت تستحضر من باريس، وغير ذلك من التحف وليس على الكريم شرط.
وإذا تم النصيب فلحفلة الإكليل شروط، فبنت فلان ليست أحسن منها. كان في عرسها الحكام والصحفيون ومعهم المصورون، وكللها صاحب الغبطة وعلى رأسه التاج المرصع، وفي يده العكاز الذهبي، وكان شهود عقد الزواج فلان وزوجة فلان، فهي لا ترضى أقل من ذلك.
أما العرس فلا تكون حفلته إلا منقطعة النظير تذكر بحفلة زواج المأمون من بنت بوران. يجب أن تكون الهدية لكل مدعو في علبة من الفضة الخالصة، والشرط الأول ألا يذهب أحد من المدعوين بلا علبة لئلا تحكي الناس بحقنا.
بقيت ثياب العرس فهذه يجب أن تصنع في باريس، وتكون من أنفس قماش وأحدث موديل ، ويجب أن ترى هي تصميم الزي وإذا اقتضى أن تسافر إلى باريس فلا مانع.
عفوا نسينا فرش البيت. فالسجاد العجمي تحصيل حاصل، ولكن القياس، كل غرفة وسجادتها على قدها، وكذلك الدار والمائدة، أما الموبيليا فعلى العريس أن لا يبقي شيئا عتيقا في بيته بل يجب أن يكون كله (مودرن) وينظمه مهندس مختص. ثم لا يشتري إلا أغلى ما في السوق، وإن كان من طبقة عليا فعليه أن يوصي عليها في أوروبا حتى لا يكون لها نظير في البلد.
هذا ما تطلبه البنت. وإذا كانت مفتحة العينين، أو من اللواتي من الله عليهن بشيء من الرحمة والحياء، فهناك أمها. إذا رضيت البنت فأمها لا ترضى، تعلمها الدرس اللازم يوميا: خذي حذرك، لا تقبلي بإنقاص شيء مما ذكرته لك. تلقي عليها المحاضرات ليل نهار خوفا من أن تنسى شيئا. وإذا قبلت البنت بعرس مختصر مفيد، ولم تسخ نفسها عن مال يذهب هدرا في يوم عرس، فالأقارب والجيران والأصحاب والمعارف لا يرضون عن الاختصار. وهكذا يصح قول المثل: لا عرس بدون قرص. وإذا لم يسمعوا الكلمة وبخوهم قائلين: عيب عليكم! بنت فلان ما هي أحسن من بنتكم وأبوها ليس أغنى منكم، وعريسها دون عريسكم، ومع ذلك عملوا لها عرسا غنى له الحادي بالوادي.
أما شهر العسل فحسابه في رأس القائمة، وقد يليه شهر دبس.
حقا إن مشكلة الزواج من أعقد مشاكل هذا العصر، فالشاب يراه قيدا ثقيلا، فيتهرب منه ما استطاع، ويظل يماطل فيه، ويؤجل حتى يلم برأسه الشيب ذاك الضيف غير المحتشم. وإذ ذاك يفتش عن أنثى تلمه، بل فلنقل عن ممرضة.
والفتاة في تشددها وفحصها العريس بالمكروسكوب: هذا طويل وهذا قصير، وهذا أسود وهذا أبيض، وهذا غني ولكنه غير متعلم، وهذا متعلم ولكنه فقير، فإذا مرض فماذا يحل بنا؟ تحل بها قاصمة الظهر وتبقى عالة على بيت أبيها.
إن هذا التشدد وتلك المطاليب تعرقل السير. فاتكلوا على الله لا على ثروة العريس ولا على مال العروس، تأملوا بالطيور كما قال المسيح : فهي لا تزرع ولا تحصد وأبوكم السماوي يقيتها.
ما رأيت في حياتي حيوانا مهما ولا رأيت بهيمة ماتت من الجوع. إن الاتكال على الثروات يهدم اللذات، والهم مرض من ليس به مرض. إن تربيتنا الناعمة لبناتنا هي سبب بقائهن في البيت. نخاف على أيديهن الرخصة أن يخشن ملمسها فلا ندعهن يعملن عملا، فيدخلن بيوت الناس وكأنهن غريبات لم يسمعن قط بشئون البيت، فلا طبخ ولا نفخ. ولا نذكر التنظيف بأيديهن لأن هذا يسقطهن من عين من يراهن يكنسن أو يغسلن أو يشطفن أو يطبخن.
قيل لي: إن أغنياء الألمان كانوا يتبادلون بناتهم ليعودوهم على العمل البيتي كله. فبنتك تخدم في بيتي، وبنتي تخدم في بيتك، ومتى أتقنت كل منهما العمل تعود إلى بيت أبيها، حتى إذا تزوجت تصلح أن تكون ربة بيت، ولا يصح فيها قول الشاعر الشعبي، عمر لزعني:
بيضه ما بتعرف تقلي
شاطره بتركيب المقلي
إن تربيتنا من هذه الناحية ناقصة، فالرجل عندنا يكون عنده دزينة بنات ويستعين بالخادمات لأن الشغل في نظرنا عيب، ولا يليق ببنات البيت الشبعان. قلما تجد في أميركا خادمات ملازمات البيوت كما هي الحالة عندنا. فالخادمة تأتيك ساعة زمان، وفي وقت معين، فكأنها أستاذ في جامعة يوزع ساعاته هنا وهناك.
حدثني صديقي الأستاذ محيي الدين النصولي أنه ضاف بروفوسورا فرآه يعاون زوجته في غسل الصحون ولا خادم عنده.
زرت يافا منذ ثلاثين سنة 1927 فدعاني تلاميذي لرؤية تل أبيب، ودخلنا أكبر مقاهيها فإذا سعر فنجان الشاي عشرة غروش فلسطينية، ولكن المقهى خال من البشر ليس فيه أحد غيرنا، فسألت لماذا؟ فأخذ بيدي تلميذي سهيل النابلسي وأراني جموعا لا تحصى قاعدين على الرمل، وبعضهم معهم كراسي، وكلهم يصنعون شايهم بأيديهم، وبناتهم ونساؤهم قائمات على خدمتهن حتى إذا انتهى التجهيز قعدوا جميعا يشربون ويأكلون.
قال سهيل: العائلة الكاملة منهم تدفع نصف قرش رسم بلدية وفي عمرهم كله ما دخلوا هذا المكان لأنه غال.
وفي سنة 1908 دعينا إلى حفلة تدشين مدرسة في وادي شحرور كان يترأسها قنصل إيطاليا في ذلك الزمان ، فرأيت الحاضرات من نسائنا يلبسن أغلى الثياب وأثمن الحلي، والأحذية اللماعة التي كعبها محط كف، بينما زوجة القنصل الآتية لزيارة رسمية في بلد غريب كانت تلبس فسطانا من الساتين وسكربينة لا كعب لها إلا قليلا، وليس في معصمها ولا أذنها شيء من الحلي.
أجل نحن نتنافس في كل شيء، ثم نشكو الضائقة المالية. فلو ربينا بناتنا كما يربي القوم بناتهم لكانت لنا عائلة مقدسة لا تحملنا أحمالا ثقيلة، ولما بقي في بيوتنا بنات يكن حملا ثقيلا على إخوتهم.
مسكينات هن العوانس. إن تفكيرهن بآخرتهن يرعبهن، ولو كن ممن يعملن ويأكلن خبزهن بعرق جبينهن، لأن هذا العرق لا بد من أن ينضب وهناك يكون البكاء وصريف الأسنان.
فلا تغتري أيتها الآنسة بعلمك ولا بمالك، فلا يخفف من أهوال الشيخوخة وفزعها إلا الزوج والبنون. من التي لا تذكر منكن ميتة الكاتبة الشهيرة مي؟ أما ماتت من الكمد ولم يعلم بها أحد.
تعلمي أيتها الآنسة لتحسني عملك البيتي، لا لتستلقي على الصفة أو تضعي رجلا على رجل. فهذا الكسل والفتور لا يحسن ببنات اليوم، وإن رآه الأعشى من مغريات صاحبته هريرة حتى قال فيها:
يكاد يقعدها لولا تشددها
إذا تقوم إلى جاراتها الكسل
فهذا الكسل غير مرغوب فيه في عصر السرعة، بل في عصر الذرة. فنحن أحوج إلى ذرة نشاط منك لنماشي أمم الأرض. إن جسما اجتماعيا نصفه لا يعمل، فهذا جسم مشلول. الحمد لله على أننا استيقظنا من نومة أهل الكهف ولم نعد نقول:
كتب الحرب والقتال علينا
وعلى الغانيات جر الذيول
وأخيرا شكرا للآنسة مادلين. ن. التي أوحت إلي رسالتها هذا الموضوع. أما قولها: إن خطبة شباب اليوم لتقطيع الوقت والتسلية فجوابه: خذي حذرك. لا تدعيه يتسلى، فتطويل الخطبة مثل تطويل الحبل، فقصريه ما استطعت وإلا فلومك على نفسك.
حاشية: وإذا جاءك خاطب فلا تتعنتي، اطلبي السترة يا بنتي، اطلبي الحب أولا، وتشبهي، أنت الآنسة المثقفة، حاملة الليسانس بتلك البدوية التي قالت:
ولبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
اطلبي قرة العين يا نور العين. والسلام عليك ورحمة الله.
بمناسبة العام الجديد
كل عام وأنتم بخير. وبعد، فقد تعودنا أن نودع كل رائح ونستقبل كل آت حتى من الأعوام، ولكتابنا وشعرائنا بدائع وطرائف في هذا الموضوع. فالفائت - وخصوصا من السنين - حبيب قلب ابن آدم. إنه يرى الخير كله في القديم على إطلاقه، وإن لم يكن شيئا مذكورا. على ألسنتنا يدور الترحم على ما فات، وفي أعيننا تحلو الذكريات، وما نحن في شيخوختنا إلا إلى قوة فارقتنا في منتصف طريق العمر، وآمال أضعناها على درب الأبد. فكأنما استقبالنا لعامنا الجديد بهذه اللهفة دليل على أننا ما كنا نصدق أننا نبلغ هذه المحطة.
سوف لا أنشر شراع الخيال، ولا أقرع طبول الفصاحة في موكب استقبال العام الجديد. فلا تهليل ولا ترحيب، ولا تمنيات ولا آمال. إن عجلة الزمن لا تنتظر زجري لتسير، ولا إيماءتي لتقف. إن تهليلي لها لا يقدم ولا يؤخر. فما فات فات، وما هو آت آت، كما قال ابن ساعدة. إن تمنياتي لا توازي ثقل حبة خردل في ميزان القدر، فلماذا أتعب نفسي بتعابير فارغة لا تنفعني ولا تنفعكم. إن عبارة كل عام وأنتم بخير، على صغرها وبساطتها، لهي أحب وأغنى دعاء في هذا المقام، على شرط أن يكون للبؤساء والمساكين شيء من الخير الذي نتمناه لكم يا سادة.
من عادة التجار أن يرصدوا حسابهم في آخر كل عام، ويعدوا للعام الجديد دفاتر بيضاء، تحمل في أولها رصيد العام الماضي من مكسب وخسارة، فينظر التاجر إلى (اليكون) إما بعين مفتوحة وإما بقلب مكسور. إننا في زمن انحصرت فيه كل القيم بالصناديق الحديدية. فإذا كان الصندوق متخما من كثر ما بلع وزلع فصاحبه هو ذاك الرجل، وإذا كان الصندوق غير مبشوم أحس صاحبه أنه دون جاره العائم في بحر من الثروة، بعيد القار. وفي أميركا يعرفون الرجال بما يملكون من المال، فإذا سألت عن واحد أجابوك: فلان يسوي كذا من مئات ألوف الدولارات، وهكذا صارت الثروة ميزان القيم فاقتتلنا لننال منها حصة الأسد.
حنانيك يا أخي، لا تنم على وجهك لأن مبلغا من ميزانيتك مفقود. إن الله سيخلف عليك إن كنت أحسنت بهذا المبلغ إلى المساكين ونسيت أن تقيده. لا تدقق في دفتر الصندوق بهذه الشدة والصرامة، لتعرف أين ذهب ذلك القرش، أرجوك يا سيدي. عفوا أرجوك يا سيد الصندوق، وأتضرع إليك لكي تعيد النظر في دفتر حساباتك لترى فيه مقدار أرقام الإحسان، وعمل الخير، وخدمة الإنسانية، أنسيت يا أخي أنك إنسان؟!!
مهلا لا تزرع الدنيا أملا، ورفقا لا تعد الخطط الجهنمية لاقتناص القرش، فأنت في التقدير والله في التدبير. فبدلا من أن تستقبل عامك الجديد بالدف والعود والمزمار وتنفق على السهرات الصارخة ألوفا، اخل بنفسك هنيهة، وارفع وجهك إلى فوق، ولو في السنة مرة. نسيت أن لك نفسا؟! أتظل عينك في الأرض دائما تفتش فيها عن حطامها؟ بربك قل لي متى تشبع؟!
عند النصارى شيء يقال له: (فحص الضمير) وهذا ما يعمله المسيحي الممارس كل ليلة، فيستعرض حسنات النهار وسيئاته. وبعد أن (يقصد) إصلاح نفسه في الغد، ينام مستريحا. وقد سمعنا الحجاج، على قساوة قلبه، يقول في إحدى خطبه: امرؤ حاسب نفسه، امرؤ راقب ربه، فهل فعلت شيئا من هذا؟! هل ودعت عامك الذي انسلخ بفحص الضمير إن كنت مسيحيا؟ وهل حاسبت نفسك إن كنت مسلما، لترى إذا كنت زكيت مالك؟ معاذ الله أن أسيء الظن بك، وأقول: إنه لا يعنيك إلا أن تعرف مقدار ما جمعت؟ ومعاذ الله أن أقول: إن دفترك ليس فيه للفقير باب (إلى).
قل لي: ماذا أنفقت أمس على الطاولة الخضراء، بل ماذا خسرت زوجتك؟! ألا تستحي يا أخي من أن تلعب وأولادك على طاولة واحدة بحجة كشف البخت؟! أتصدق الورق الكذاب؟! ألا تدري أن صغار الأمور تؤدي إلى كبارها، فكيف تدفع ولدك إلى هاوية اللعب؟! قل لي: كم كانت تكاليف مأدبتك يوم العيد؟! بحياتك لا تكذب.
هل خرج من كيسك ثمن رغيف لفقير؟! هل فكرت بإعطاء شيء من ثيابك وأحذيتك العتيقة إلى العراة والحفاة من إخوانك الآدميين، يا آدمي؟!
كم دفعت بمناسبة هذا العام ثمن لعب وهدايا، وكم قطعت من الثياب الأنيقة لزوجتك وبناتك وبنيك في هذا العيد؟ ترى من هو أحوج إليها، أأولادك وأحفادك وخزائنهم ملأى بها، أم ابن جارك الحافي العريان الجوعان؟ إنه محتاج إلى رغيف ليفك ريقه ويسند قلبه، وإلى قطعة من القماش الرخيص يستر بها عورته. وكلب زوجتك المدلل - جل شأنك وشأنها - ما ضره لو عودته أكل الخبز بدلا من البسكوت، وأكل فضلات المطبخ بدلا من لحم الضأن وعلب السمك والدجاج، ثم أعطيت فضل ما بينهما فقيرا ملهوفا يأكل الخبز بعينيه ولا يمسه بيديه.
الناس - اليوم - يلجئون إلى التقنين الصارم. فلماذا لا تعود - ولو كلابك - على هذا وتحسن بما توفره إلى أخيك الإنسان. أنت غني من فضل القدر الأعمى لا كدك واجتهادك، فلماذا لا تزكي مالك وتزين غناك بالإحسان؟
إن من طالت يده بالمواهب تمتد إليه ألسنة المطالب، وأنت تعترف ولا شك بنعمة الله عليك، فلماذا لا تقضي حقوق المروءة وتفي ديونها عليك؟ إن البيت الذي لا يخرج منه شيء في سبيل الله لا بد من تسكير أبوابه إما عاجلا وإما آجلا.
الثمر يستحلى في أوانه، والشيء يحسن في إبانه. وهذا موسم الإحسان يا صديق الدينار، لا تقس قلبك فيقسو قلب الله عليك، فهو حين أنعم عليك كأنه اختارك دون غيرك قيما على البؤساء والمساكين، فإن كنت لم تقم بهذا الواجب أمس فعجل، وقم به غدا، وخير البر عاجله.
إذا كانت محاسبة النفس واجبة علينا كل ليلة؛ فكيف بها حين يموت عام ويولد عام! أفما يجب أن نولد نحن معه؟ وكما نعمل ميزانية تجاراتنا يجب أن نعمل ميزانية حسناتنا، لنرى ما علينا وما لنا عند الإنسانية.
أرأيت في عمرك ودهرك حيوانا يشاركه أحد في طعامه؟! فكيف أكون حيوانا بعدما شرفني الله فخلقني إنسانا؟!
وهناك محاسبات كثيرة غير هذه، ولا بد من هذه المحاسبات لجميع طبقات البشر من السيد الرفيع إلى الخادم الوضيع، وما بينهما من خلق الله. فكل منهم مسئول عن عمله. الحاكم يجب أن يحاسب نفسه ليرى كيف ساس رعيته لكي يحسن إن كان ظلم وأساء، ولكي يحسن أكثر إن كان أحسن، فمجال الإحسان رحب واسع.
على الحاكم أن يحاسب نفسه عن الأيام التي ضيعها في ملاهيه وملذاته وهو يقبض ثمن تلك الأيام من الرعية، فرب يوم يضيعه (الراعي) تهلك فيه نفوس الألوف من القطيع.
إن يوم رأس السنة هو يوم الحساب الشديد لتقويم كل اعوجاج فينا، وليس هو يوم قمار وشرب وسكر، ولا يوم أكل مما رزقنا الله من الطيبات دون أن نفكر بالآخرين. أمرنا الله أن نأكل من طيبات ما رزقنا، وأمرنا أيضا بالزكاة والإحسان، فهل تعمل يا صاحبي بواحدة من وصاياه ونترك الثانية.
فلو خففنا من هذا البطر ولو قليلا، لننفق تكاليفه على المحرومين لأمنا شر العواقب. إن أعوام الحياة مراحل، وإذا حمدنا الله على قطعنا إحداها، فلنقدم مع الحمد قربانا من الإحسان ليأخذ الله بيدنا ونصل آمنين إلى الواحة الكبرى، إلى بيت الجميع.
هناك ينعدم الفقر الذي هو صوت صارخ يطلب الانتقام من ثروتك. أخمد هذا الصوت بإحسانك، وترقب عاما جديدا يكون لك فيه إحسان جديد.
ليتك تتعود العطاء! جربه تنس لذة الأخذ. إنه لأسمى وأرفع. واليد العليا خير من اليد السفلى، والسلام عليك إن كنت محسنا، وإلا فسلامي يرجع إلي لأنك لا تستحقه.
موسم المقامرة
لا بد من خص القمار بحديث، وقد تقول إذا كنت من المقامرين: ما لهذا الرجل وهذا الموضوع الشائك؟! إنه يفتح أبوابا مغلقة في مطلع هذا العام. لا يا أخي، إن هذا اليوم هو يوم المقامرة العارم. وكأني أرى زوجتك تضع هذا المقال حد رأسك، إذا كنت ممن تركوا المائدة الخضراء في ساعة متأخرة من الليل لتصبحك به. وإذا كنت امرأتك من السيدات العصريات المقامرات، وأنت لست منهم، فإنني أتخيلك تقرأ هذه الكلمة بصوت جهوري لتسمعها ما كتبت لأنك لا تجسر أن تؤنبها، فهي حرة بمالها الذي جاءت به من بيت أبيها حين جاءت بيتك لتستتر تحت جناحيك .
اللهم صفحا عن زلاتنا وقوم اعوجاجنا. فقد صار القمار سمة للناس الراقين، وصار من لا يقامر - في نظر الطبقة العليا - رجلا غير متمدن. وقد يعذر من ينفق ماله على لذة من الملذات الدنيا، أما من يقامر فأية لذة يجد في تبديد ماله وثروته، فيمسي غنيا ويصبح فقيرا بين ليلة وضحاها، إذا شاكسه الحظ. فكم من بيوت عامرة دك أساساتها القمار! أعرف رجلا كان يملك ربع عكار، وكان له ولد وحيد أصيب بهذا الطاعون، فقال واحد لوالده: انتبه لابنك فإذا بقي على هذه الخطة (طير الدكة). فأجاب الأب: عصفور على بيدر، ماذا يأكل؟!
وبعد سنين التقيت بذاك العصفور في (سير) فإذا به منتوف الريش مكسور الجناح.
أعرف أناسا كثيرين قامروا على ثيابهم، وأعرف آخرين عجزوا عن إيجاد المال، فباعوا عفش بيوتهم، وأخيرا نزعوا الأبواب وباعوها. وأعرف غيرهم اقتلعوا شجر الزيتون وباعوه ليلعبوا في هذا اليوم السعيد. لا يثنيهم عن فعلتهم الشنعاء شرف، ولا يؤثر بهم لوم ولا تعنيف تاركين أولادهم عراة حفاة جياعا.
ورأيت والدا، وابنه كان من طلاب مدرستنا، جالسين على الطاولة الملعونة ليلة يوم (رأس السنة) فقلت: يا رجل، ماذا تفعل؟ أتقامر أنت وابنك؟!
فأجابني: ليلة وتمضي، إننا نكشف بختنا في العام القادم.
فقلت له: أتعود ابنك وتخرب بيتك لتتعلق بخرافة؟ الجد يا صاحبي لا يعرف المستقبل فكيف باللعب؟
ودارت بضع سنوات دورتها وصار الشاب في بيروت وأمسى مقامرا من الطراز الأول. وفي الأمس - كما سمعت - باع البيت بعد موت الوالد، حين فرغ من العقارات الأخرى والمنقولات، وهكذا استعجل الفقر قبل أوانه. إذا احتال على أحد ونصب، أكل واكتسى وقامر، وإلا فيقامر بعينيه لأنه عاجز عن ذلك بيديه.
إن آفة هذا العصر تشجبها الأديان والتقاليد، ولكن الناس أعداء أنفسهم، فلا يردعهم وعد ولا وعيد، ولا سيما من تملكته عادة من العادات فإنه يصير عبدا لها.
إنني ألفت نظر القارئ إلى مقالة للمنفلوطي، عنوانها (الكأس الأولى) ففيها العظة لمن يسمح لولده أن يلعب في (رأس السنة ) ليستطلع أنباء عامه قبل أوانه.
وخير ما قرأت في ذم القمار قصيدة نجيب الحداد. فليت المبتلى بهذا الداء يقرؤها، فأنا لا أعرف القمار لأحسن وصفه، كما وصفه الشاعر.
إن القمار لخطر على العزة والكرامة، فكم رجل عبث بالأمانة ليقامر! وكم من امرأة عبثت بأقدس الأخلاق حين أفلست، فتداوت من الداء بالتي كانت شرا من الداء.
أضحكني أحد أصحابي حين لمته على المقامرة فقال لي: وماذا تريد؟ أنا موظف، والقمار وسيلتي للاتصال بمن هم فوقي لأوطد مركزي.
وبعد شهرين عرفت أنه زج في السجن لأنه سرق الصندوق المؤتمن عليه، وهكذا وطد مركزه فصار أمنع من الأهرام.
ويا ليت شعري كيف يؤدي واجبه على حقه من يسهر إلى الصبح؟ وبأي وجه يستقبل صاحب الأعمال من لم ينم؟ ألا يقاتل خياله كما يقولون؟!
وإذا كان المبذرون إخوان الشياطين، فالمقامرون إخوان من؟ وقد حددهم نجيب الحداد تحديدا قاطعا مانعا بقوله:
قد اختصروا التجارة من قريب
فعدم في الدقيقة أو يسار
اللهم كن في العون.
رسالة إلى السماء
يا سيدي يسوع المسيح
أنت قلت: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم، وها أنا ذا قد أتيتك، وعيني في الأرض، ويدي على صدري.
ما جئت لأطلب منك شيئا، فأنا من خيرك مكفي. أتذكر تلك المناجاة عام أول؟ فقد أقدمت بعدها متكلا عليك فنجوت من الموت الذي كان فاتحا فمه ليبتلعني، وها قد انقضى عام على نجاتي وجددت مثل النسر شبابي.
لقد تحدثت كثيرا عن ميلادك، وسوف نفتش اليوم عما يعنينا قوله لك، فهل أنت مستعد أن تسمع؟ إنني لا أطلب منك غير الإصغاء فهل تنشط لذلك؟
إني أصارحك القول: لقد تعبت ألسنتنا وآذاننا وحناجرنا من الترتيل: المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام.
لست أدري ما في العلاء من مجد، أما السلام على الأرض فلا أرى أي دليل عليه سوى دول تغلي كالقدر الفائر. كل منهما يعد شبكته ليصطاد الحيتان والدلافين، وباسم السلام يقتتلون هنا وهناك وهنالك، وباسم السلام نؤيد مضطهدي السلام.
حاشاك يا سيدي أن تطلب مني أن أقول غير الحق ، وأنت الذي علمتنا منذ أجيال: تعرفون الحق والحق يحرركم، فهل أكذب وأرتل معهم، وعلى الأرض السلام، وليس على الأرض إلا قنابل تزعزع أساسات المسكونة وتجعل عاليها سافلها؟
أما (الرجاء الصالح والمسرة) فما زلنا ننتظر قدومهما، وأظنهما لا يأتيان إلا معك، أما وعدتنا بالرجعة، فما لك تأخرت؟! عد يا سيد، وقوم ما اعوج من القيمين على تعاليمك.
يا سيد، يا أمير السلام. ألهم تابعيك أن يسيروا على ضوء تعاليمك لئلا يدركهم الظلام.
إنهم يقرءون وصاياك بألسنتهم وقلوبهم بعيدة عنك.
أنت قلت: يا بني أعطني قلبك. أما هم فزنادقة وذئاب يلبسون جلود الحملان. فإذا كنت حين تجلس عن يمين أبيك تقيم الخراف عن يمينك، والجداء عن شمالك، فأي مكان تعد لهؤلاء؟ أليست الجداء خيرا منهم؟! فلا لحمهم يؤكل ولا جلدهم يسكف.
يتحدثون عن فقرك ويرفلون بالحرير والديباج كالغواني، ونتحلى مثلهن بالذهب، ونعصب رءوسنا بالطراطير ونسميها تيجانا.
لقد صار صليبك حلية، وإكليل شوكك رمزا يزهى به، فإذا كنت عظيما بميلادك فأنت أعظم منك بحياتك وموتك، وإذا لجأت إلى الخيال بحديث ميلادك، فإني لا أتجاوز تخوم الواقع إذا عظمت حياتك وموتك.
أنغني (على الأرض السلام.) ولا نخجل؟! أنترنم بالمجد لله في العلاء ونحن نزحف على بطوننا كالأفاعي، أنفرح ونتهلل في ذكرى ميلادك وأمس أجرينا الدماء أنهارا؟
أنسيت أن فلسطين أنبتتك وقلت أسمى الشعر الإنساني في سهولها ووهادها وعلى شواطئ بحيراتها. لقد كانت حياتك فيها أروع قصيدة، أفلا ترثي لها وتشفق عليها؟
إن الذين صلبوك هم الذين يضطهدون اليوم أتباعك ويقتلونهم غدرا وظلما ويناصرهم مؤمنون بتعاليمك ينتسبون إليك، فتعال يا سيد.
ومصر ما ذنبها؟ إذا كان يهود فلسطين أساءوا إليك، فمصر آوتك حين هرب بك أبوك وأمك من وجه هيرودوس. لقد ذقت يا سيد قسوة المستعمر، فلو لم يهربوك من وجه هيرودوس لكان قضي عليك، ومع ذلك لم تنج من بيلاطس، الذي قضى بصلبك وغسل يديه ليقول: إني بريء من دم هذا الصديق.
إنهم المستعمرون يا سيد. فهم هم في كل زمان ومكان، جئت لتنقذ شعبك ظلمهم وتعديهم، فتآمرت عليك السلطتان وكانت النكبة الفاجعة.
إن وطنك لا يزال تحت نير الاستعمار رازحا، فهل من مجير؟
قال فيك شاعر من مصر:
عيسى سبيلك رحمة ومحبة
للعالمين وعصمة وسلام
ما كنت سفاك الدماء ولا امرأ
هان الضعاف عليه والأيتام
لقد أعدت عليك ما قال لعلي أستنهض همتك فتقول لأتباعك في الغرب: قفوا يا جماعة ما هكذا علمتكم! وإلا فاطووا إنجيلي ولا تقرءوه، فما نفع علم لا يعمل به.
أجل يا سيد، إن تعاليمك هنا وفي جارتنا القارة الأوربية قد شاخت، وقد تكون في أميركا لا تزال شابة، ولكن المصلحة تشوبها.
أما علمت: لا تفعلوا بالناس إلا ما تريدون أن يفعله الناس بكم؟ أما قلت: من ضربك على خدك الأيمن فحول له الأيسر، ومن سخرك ميلا امش معه ميلين، ومن طلب رداءك فأعطه ثوبك؟ فما بال هؤلاء يضربون الآمنين ويقتلونهم بالآلاف؟
اليوم لم تعد القضية قضية ضرب كفوف، بل قضية إبادة واستئصال. فانظر ماذا تفعل، فالاتكال عليك، وعلى ممثلك على الأرض، ولكنه لا يزال كالذي بنيت بيعتك عليه لا يملك إلا سيفا أو سيفين، وهو يعمل بعدما جرد من سلاحه بقولك لذلك التلميذ: اردد سيفك إلى قرابه، فمن أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.
فما الحيلة إذن في الذين يأخذون البريء بذي الذنب ويدعون أنهم مسيحيون.
أراهم لا يحفظون من إنجيلك إلا قولك: ما جئت لألقي سلاما بل حربا. ولكن على الباغي دارت الدوائر، فقد نجونا بفضل ولسن، وأيزنهاور من الاستعمار السياسي، وببركة دمك وصليبك سننجو من الاستعمار الاقتصادي. أما (أصحابنا) فقل لهم كي يعملوا بما يعلمون ولا يحملوا الناس أحمالا ثقيلة لا يحركونها بإحدى أصابعهم.
قل لهم: دعوا السلام في الأسواق والجلوس في صدور المجالس، واذهبوا بشروا برسالتي جميع الأمم.
ليذكروا قولك: كنت جوعانا فأطعمتموني، وليطعموا الناس من أموال حبست عليهم. قل لهم: ليس عيد الميلاد عيد أكل الديوك وشرب الخمور المعتقة، ولكنه جعل لكي يتذكروا أخا الرب. أتعرف لماذا نأكل الديوك في ذكرى ميلادك ؟ لكي لا يذكرنا صياحها بمن أنكرك. بطرس تاب، أما هؤلاء فلا يريدون. إنهم يأكلونها فراريج قبل أن تصيح، والويل لهم متى صاحت الديوك. لا بد من الصياح لأن الفجر قريب جدا. وقد لاح مفتوق من الشرق أشقر.
قل لوكلائك عندنا يكفونا شرهم، فأنت في غنى عن نصرتهم. إذا كنت في معركة المحاكمة لم تدافع عن نفسك بكلمة، فقل لهؤلاء من جميع الطبقات: لا تكلفوا خاطركم، فأنا في غنى عن محاماتكم ودفاعكم، فليكن فيكم محبة قدر حبة خردل لتعيشوا سعداء آمنين.
يتعزون بخطبتك على الجبل، ولكن اقرأ تفرح جرب تحزن. فأسيادهم يعطون ما لقيصر ليأخذوا ما لله ... على طول، فلا حاجب ولا بواب ولا محاسب، الدفتر في أيديهم وهم الخصم والحكم، فقل لي متى نرى وجهك ليحدث الانقلاب الرائع. لقد عتقت البشرية فتعال جددها. أما قلت لتلاميذك كما روى إنجيل متى: أنتم الذين اتبعتموني في (التجديد) تجلسون على اثني عشر كرسيا متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده.
تعال اجلس يا سيد ونحن نقعد على الأرض ولا شرط لنا إلا التجديد.
أما قال شاوول الذي اضطهدك ثم صار بولس الرسول حين اتبعك، أما قال في رسالته لأهل رومية: لا تشاكلوا هذا الدهر، بل تغيروا عن شكلكم بتجديد أذهانكم.
إننا نريد تجديد الملح، وتجديد الخمير، وإلا فمن يستحقك منا أيها المجدد العظيم؟!
أنا حامل صليبي وتابعك منذ خلقت، وإني أتعذب لأجل تطهير تعليمك، فإذا دعوتك للعودة إلينا فبحياتك لا تحسب كلامي تطفلا وتنتهرني كما انتهرت بطرس قائلا لي: اذهب عني يا شيطان. أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس.
وهنا أضم صوتي إلى صوت بولس القائل في رسالته إلى العبرانيين: وسقطوا لا يمكن تجديدهم أيضا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه.
أما قياصرة اليوم فلا يرتضون بما يعطون، بل هم يعطون أنفسهم من مال المساكين ويأكلون البيضة والتقشيرة، وإخوتك ينامون في العراء على ريق بطونهم. كانت الضرائب في أيامك محسوسة ملموسة، أما اليوم فسحر القياصرة عجيب غريب.
إذا شئت أن أزودك بكل ما عندنا من أخبار، فلو بقيت عامين لا أعمل غير كتابة هذه الرسالة فهيهات أن أنتهي. وقد حدث عندنا شيء جديد هو المراقبة، فالأفواه مكمومة والأفواه ملجومة وفطانتك كفاية، أنا لا أدري في المراقبة شيئا غريبا، فقد تعودتها منذ صباي وتعلمت كيف أنفذ من المضيق، ثم من يراقبني ويحول بيني وبين مخاطبة سيدي يسوع المسيح، ألا يحق لنا أن نتحدث مع ربنا؟!
تساءلت يا سيد: من يقول الناس إني أنا، وهذا دلني على أنك تهتم لما يقال. أما لو عدت اليوم ورأيت أن (الرعاة) لم يعد يهمهم حكي الناس لتعجبت وأعطيت جيلنا آية أخرى عن حوت يونان لأن جلودهم صارت أسمك من جلده.
تذكر جيدا رسائل بولس، أول صحافي عالمي في التاريخ القديم، وعندنا اليوم ما يشبهها ويسمونها جرائد ومجلات وقد منحوها لقب السلطة الرابعة، ولكن المسيطرين ينتقصون من قدرها ليخففوا من وطأة كلامها عليهم، ولو فكر هؤلاء لما حاولوا. إنهم يجهلون أنك أنت السيد المسيح، ابن الله الوحيد، سألت تلاميذك عما يقوله الناس عنك؟ ولكن (حكي) الناس لا يؤثر إلا بالناس ولهم خلق، أما أولئك فلهم النبوت والمساس.
قلت لنا: لا تدينوا لئلا تدانوا. وهم لا تهمهم الدينونة، ولو كانت في وادي يوشافاط كما وعدت، ووعدك صادق بلا ريب.
قلت: أخرجوا العبد البطال إلى الظلمة البرانية، فيا ترى ماذا أعددت لعبيد غير بطالين ولكنهم يعملون دائما في السر، وإذا عجزوا عن قطع الأعناق يقطعون الأرزاق؟
قلت: أحبوا أعداءكم وأحسنوا إلى مبغضيكم. وهم يبغضون من أحسن إليهم. وقلت: ليس من يقول: يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل إرادة أبي الذي في السماوات، وها هم قد تركوا الثنتين في هذا الجيل الشرير الفاسق.
حذرتنا من الباب الواسع وهم لا يدخلون إلا منه، أما الباب الضيق فقد ضربت عليه العنكبوت بنسجها. وحتى الآن لم يرث الودعاء الأرض والحزانى لم يتعزوا. أما ملكوت السماوات الذي وعدت به المساكين فعلمه عندك يا ساكن الأعالي، فهل دخل عليك أحد منهم؟
وحذرت من صنع الصدقة قدام الناس لئلا يضيع الأجر. أما في هذا الزمن فلا توص حريصا، فما أقل من يتصدق سرا أو علانية.
اعذرني يا سيد على طول لساني، فهكذا خلقني أبوك السماوي، وقد خسرت أكثر أصدقائي. إنني أعمل مشيئتك لأن خاصتك لا يصلحون ما بأنفسهم من اعوجاج إلا إذا قومناهم بسيف النقد.
وإلى اللقاء في ملكوتك، أقبل جراحك الخمسة، أنا الذي أكلت جسدك المقدس صغيرا، فلا تأكلني النار.
هكذا كنت أرتل مع جدي في ختام قداسه، جعل الله النهاية خيرا.
كنوز مرصودة
كثيرة هي الفرص التي تفلت من أيدينا ولا نكترث لها. حكي أن زائرا دخل متحفا رأى فيه بين تماثيل الآلهة تمثال إله وجهه مغطى بالشعر وأجنحته على قدميه، فسأل: ما اسم هذا الإله؟ فأجابه النقاش: هو الفرصة. فقال: ولماذا هو مخبئ وجهه؟ فأجابه: لأن الناس قلما يعرفونه حين يجيء إليهم. فقال: ولم أجنحته على قدميه؟ فأجابه: لأنه يذهب حالا، وإن ذهب فلا أمل لأحد باللحاق به.
ويقول مثل لاتيني: إن الفرصة لها شعر في مقدمة رأسها. وأما في مؤخرته فهي صلعاء، فإذا أمسكت بناصيتها قبضت عليها. أما إذا أفلتت منك، فإن جوبيتر نفسه لا يقدر أن يقبض عليها ثانية.
قال شاعر إنكليزي:
إن في حياة الناس مدا وجزرا
فمن استفاد من المد وصل إلى الثروة
أما من أهمله فإنه يظل حياته بأسرها في شقاء.
فأول ثروة يجب أن نغتنمها هي الفرصة، وكثيرا ما نتأسف على فواتها لأنها لا تسنح مرتين، فعلينا ألا نحجم ولا نتردد. ليكن شعارك دائما: فلنبدأ بالعمل من هذه الدقيقة، ومن يباشر حالا ينجح دائما. نحن عرضة للتجربة كل ساعة، فلنثبت في أعمالنا ولا نتنقل من موضوع إلى موضوع، وإن فعلنا فإننا لا نظفر بشيء.
قال نابليون: النصر لمن هو أشد ثباتا. تأمل الشجرة فإنها تعمل عاما كاملا لتعطيك زهرة عطرة جميلة، أو ثمرة شهية. اعلم يا صديقي، أن الأعصاب التي لا ترتخي، والعين التي لا تكل، والفكر الذي لا يتشتت هي التي تنجح دائما.
فاعمل بثبات، فالثبات هو الذي عمل عجائب الدنيا السبع. إنك ستكون رجلا عظيما إذا ثبت ولم تغير عزمك لأول عقبة تقف في سبيلك. كان الأقدمون يمثلون الإله هرقل ملفعا رأسه بجلد أسد، ومخالبه مجموعة تحت ذقنه، ليدلوا بذلك على أننا إذا تغلبنا على مصائبنا فإن تلك المصائب تصير أعوانا لنا.
أنت والحمد لله، بألف خير، لا ينقصك إلا الرغبة والإرادة القوية. تشبه بإبرهيم لنكلن: ولد في كوخ خشبي، ولم يتح له الدخول إلى المدارس ولا الحصول على كتب، ولا الدرس على معلم ولا غير ذلك من الوسائل العادية، تمثله وهو شاب طويل، نحيف غريب الشكل يقطع الأشجار ويبني كوخه الخشبي. يتعلم الحساب واللغة على نفسه في المساء، وعلى نور الموقدة. ثم صار بعد ما علم نفسه بالمشقة رئيسا للولايات المتحدة، وأعتق أربعة ملايين نفس من قيد العبودية.
قد تقول لي: مشاغلي كثيرة، وأنا أقول لك: الوقت كثير إذا أحسنا التصرف به، وسأخبرك عن بعض أعظم الأعمال التي أنشئت في أوقات الفراغ. إن الوقت قليل إذا أنفقناه في الثرثرة واللهو، وقال وقلت. أما إذا تدبرناه برغبة وإرادة فإنه يزيد كثيرا عن حاجتنا.
كثيرا ما نقول في البيت: ما بقي إلى وقت الأكل إلا خمس أو عشر دقائق، فلا وقت لعمل شيء الآن. أما الحقيقة فهي أن أعمالا كثيرة عظيمة أتمها فتيان فقراء في فضلات زهيدة من الوقت.
إن ملتن صاحب (الفردوس المفقود) كان معلما ومستخدما في بعض أعمال الحكومة ككاتب سر، فكان ينظم أناشيده الخالدة في بضع دقائق يختلسها من خلال أعماله المتراكمة.
وبقي غلادستون طول حياته يحمل في جيبه كتيبا يطالع فيه كلما سنحت له دقيقة فراغ. إن ساعة تنتزع كل يوم من ساعات اللهو، وتستعمل في ما يفيد تمكن كل امرئ ذي مقدرة عقلية أن يتضلع من علم بتمامه. وساعة واحدة تمكنك من مطالعة عشرين صفحة مطالعة تمعن وفهم، وإذا ثبت على هذا العمل عاما تطالع سبعة آلاف صفحة أي ثمانية عشر مجلدا كبيرا في السنة . إن هذه الساعة التي تحصل عليها بسهولة فائقة تصير من هو غير معروف، شهيرا، ومن هو غير نافع مفيدا. إن هذه الساعة تحول الحياة الفارغة إلى حياة حافلة بالأعمال المفيدة، فنابليون لم يكن يسمح لنفسه بالنوم أكثر من أربع ساعات. وحياة رافائيل القصيرة التي لم تتجاوز السبعة والثلاثين عاما عبرة لمن يعتذرون عن تضييعهم حياتهم عبثا، وحجتهم أنهم ليس لديهم وقت.
قال شيشرون: إن ما يخصصه غيري من الوقت للولائم واللهو أخصصه أنا لدرس الفلسفة.
إن أشد ما في إضاعة الوقت من الضرر هو خسارة القوة، فالأعصاب تصدأ بالبطالة. إن للعمل نظاما، أما الكسل فليس له نظام.
قال فرنكلين: إذا كنت تحب الحياة فلا تضع الوقت سدى، لأن الوقت هو المادة المصنوعة منها الحياة.
قد تقول يا عزيزي، إنه لم يذكر الأخلاق في كلامه! بلى، إن كل ما حثثتك على عمله لا يدرك إلا بالأخلاق المتينة، وقلما وجدت رجلا يمشي على الخطة التي رسمتها لك إلا وهو صاحب أخلاق رفيعة. فالأخلاق قوة ونفوذ، وهي تقف خلفنا لتحمي ظهرنا في كل معترك.
وأخيرا أوصيك بالتدقيق وإتقان العمل، ففيهما تبلغ ما تصبو إليه من شهرة وثروة. فالتدقيق هو أخو الاستقامة التوءم. قال إمرسون: إذا كان امرؤ يجيد تأليف كتاب، أو إنشاء خطبة، أو صنع مصيدة للفأر إجادة يمتاز بها على جاره، فإن الناس يشقون طريقا نافذا إلى بيته، ولو بنى منزله في الغابات.
فأتقن إذن كل عمل تقوم به، ففي هذا فلاحك ونجاحك، ولا تضع الدقيقة التي قيل من أجلها: الوقت من ذهب. إن كل ما ترويه الأساطير عن الكنوز المرصودة، ما هو إلا رمز يعرض لنا من فرص لا نغتنمها، فتذهب ولا تعود.
अज्ञात पृष्ठ