كان تاريخ الصحيفة: الجمعة 18 يونيو 2004م.
كنت قد وصلت لاستنتاج أن سببا ما يمر به «عمار» يتعلق بذكرى مكبوتة ما، موقف صادم معين من طفولته نسيه أو حاول تناسيه يسبب له تلك الأعراض التي بدت لي أقرب لاضطرابات ما بعد الصدمة في مناطق الحروب والكوارث؛ لذا طلبت من أحد أصدقائي القدامى في دار الوثائق القومية أن يبحث لي عن أي خبر يخص المنطقة التي نشأ فيها «عمار»، كانت محاولة بعيدة المدى على كل حال، لكنني فوجئت به بعد أيام يبعث لي بنسخة من إحدى الصحف اليومية تذكر المنطقة، وبرغم أنها لا تذكر القرية تحديدا، لكنني قدرت أنه كان شاهدا على الأمر، أو فقد شخصا ما.
لم أتوقع أن يكون استنتاجي دقيقا إلى هذه الدرجة.
ناولته الصحيفة، ورحت أتأمله في صمت، وجهه يخونه مجددا، وراح صدره يعلو ويهبط، قال بصوت باك: «أمي لم تكن من المتمردين عندما اغتصبها «الجنجويد» وقتلوها كالكلب الأجرب، أختي لم تكن متمردة، أصدقائي وكل من أعرفهم لم يكونوا متمردين، كانوا أشخاصا بسطاء مسالمين، لم يريدوا شيئا سوى أن يتركوا وشأنهم، لكنهم أصروا على إزالتهم من الوجود.» - «كيف تعرف هذا؟»
كور الصحيفة بقبضتيه بغضب، ونظر لي في حدة وهو يقول: «لقد فقدت الوعي واستيقظت بعد ذلك في مستشفى بالمدينة، قالوا لي إنني أصبت برصاصة في ظهري، وقاموا بعمل عملية جراحية؛ لاستخراجها وإنقاذي. قالوا لي إن أختي كانت مصابة بحروق خطيرة عندما نقلوها للمستشفى وحاولوا جهدهم لإنقاذها، لكنها لم تنج.»
وارتجفت شفتاه وهو يضيف: «كانت تبكي لساعات بجواري وهي تنزف تحت شمس الصحراء الحارقة وأنا فاقد للوعي، حتى جاء الرعاة من القرية المجاورة بعد ساعات من رحيل الملثمين، وراحوا يبحثون عن ناجين، لقد استدلوا على مكاننا من صوت بكائها الواهن، لقد أنقذت حياتي، كنا سنموت هناك معا لو لم يجدونا.»
دموعه تبلل خديه، ويده ترتجف إذ تكور الصحيفة في قوة: «سمعت الأطباء يتهامسون أن الجنجويد قاموا باغتصاب النساء، بعد أن قاموا بأسرهن، اغتصبوا حتى القاصرات منهن، واعتدوا عليهن بالضرب وقتلوهن. قالوا لم ينج من القرية سوى بعض المزارعين الذين كانوا في الحقول وفروا للقرى المجاورة مع بداية الاعتداء، وأنا، وطفلة من الأسيرات، وجدوها هائمة على وجهها في الصحراء.»
كانت زوجتي قد نامت، وهي مستلقية على ركبتي، وضعتها في الفراش بحذر وقمت بتغطيتها، ثم قبلتها على جبينها، وانسللت خارج الغرفة في هدوء.
دخلت المطبخ ورحت أعد كوبا من الشاي، صببت الشاي، ورحت أقلب القدح بالملعقة، وأنا أرمق الظلام عبر النافذة في شرود.
صوت كلب يعوي في الخارج، فيرد عليه آخر بنفس العواء الطويل. ثم الصوت المزعج المميز لمحرك «الركشة»، يتردد من مكان لشخص لا زال يبحث عن رزقه في هذا الوقت من الليل.
अज्ञात पृष्ठ