على أن أبرز صفات هذا المجتمع الصناعي المتقدم هي قدرته الفائقة على امتصاص قوى السخط والتمرد في داخله، وتحويله إلى قوى تعمل على إبقاء الوضع القائم وتجد لنفسها مصلحة في استمرار هذا الوضع. هذا هو الجديد في عصرنا الحاضر بالقياس إلى العصر الصناعي الأول في القرن التاسع عشر. فالطبقتان المتضادتان، البورجوازية والبروليتاريا، أصبحت لهما معا مصلحة في الإبقاء على الأوضاع الراهنة، بحيث لم تعد الطبقة العاملة، في المجتمع الرأسمالي، أداة أو واسطة للتغيير الاجتماعي. وتتحقق السيطرة في المجتمع «ذي البعد الواحد» عن طريق استبعاد كل إمكانية لإحداث تغير كيفي في الأوضاع، وذلك بإدماج المعترضين (أي الطبقة العاملة) في النظام، واستيعاب المجتمع لكل من يستطيع - نظريا - أن يضع النظام السائد موضع الشك والتساؤل؛ ففي المجتمع الرأسمالي المتقدم يتحول المعارضون إلى مستهلكين لنفس نواتج هذا المجتمع، وبذلك تكون لهم مصلحة مباشرة في استمرار النظام؛ لأنه يلبي حاجاتهم الأساسية، ويخلق فيهم حاجات مصطنعة يقتضيها دوام النظام، وبذلك تكتمل حلقات السيطرة، حين يصل التنظيم الاجتماعي إلى تلك المرحلة التي يستوعب فيها داخله كل إمكانات الاحتجاج والمعارضة والتمرد.
والواقع أن الوفرة التي تحققها التكنولوجيا الحديثة تجعل التشكك في الوضع الراهن أو التمرد عليه أمرا لا معنى له. وبفضل هذه التكنولوجيا المتقدمة يتجه النظام الرأسمالي الحديث إلى أن يكون «شموليا» - لا بمعنى أنه قائم على الإرهاب؛ إذ إن هناك نوعا من الشمولية غير القائمة على الإرهاب، يتمثل في التحكم في حاجات الناس وصبغها بصبغة نمطية بهدف خدمة المصالح القائمة، هذه الشمولية لا تتحقق على يد حزب سياسي معين، كالحزب النازي (قبل الحرب العالمية الثانية مثلا)، بل تحققها طريقة معينة في الإنتاج والتوزيع، يمكن أن تسود في ظل نظام تعددي (كالنظام الأمريكي) يسمح نظريا بحرية الصحافة وتعدد الأحزاب ... إلخ، ونتيجة لهذه الشمولية يستغرق النظام الإنتاجي الفرد بأكمله؛ فالفرد يندمج في مجتمعه اندماجا كاملا، لا يسمح له بأن يحتفظ لنفسه ببعد داخلي أو باطني خاص به، بل يصبح «ذا بعد واحد»، هو البعد الذي يريده النظام الاجتماعي القائم، والذي يتوحد به توحدا تاما. ومن الجدير بالذكر أن عملية التوحد التام بين الفرد والمجتمع، تناظر ما نجده في المجتمعات البدائية؛ حيث لا يكون للفرد أي بعد سوى البعد الاجتماعي. وهكذا يدور التاريخ دورة كاملة من التوحد إلى التمايز ثم التوحد مرة أخرى، ولكن على مستوى أعلى. ولا جدال في أن فقدان البعد الذهني الباطن يعني ضياع القدرة على معارضة النظام القائم، واستخدام ملكة الرفض والنفي والنقد، التي هي الملكة الأصلية للعقل البشري. وبذلك يبتلع الإنسان بأكمله في عملية الإنتاج التي تستهدف أولا وأخيرا دعم المصالح القائمة وزيادة فعاليتها.
إن المنتجات ذاتها، ووسائل الإعلام الجبارة، والسلع المخصصة للمسكن والملبس والمأكل وأدوات الترفيه البارعة، تحمل معها اتجاهات وعادات مفروضة مقدما، وتؤدي إلى استجابات ذهنية وانفعالية تربط المستهلك بالمنتج وبالمجتمع ككل. فالمنتجات تسيطر وتبث عقيدة معينة، وتبعث وعيا زائفا لا يدرك أحد زيفه. وبانتشار نفع هذه المنتجات بين طبقات اجتماعية أوسع، تصبح عقيدتها أسلوبا في الحياة لا مجرد دعاية، ويحارب أسلوب الحياة هذا كل دعوة إلى التغيير الاجتماعي، ونتيجة لانعدام أفكار التغيير، يصبح الفكر والسلوك ذا بعد واحد، ترفض فيه الأفكار والأماني التي تتجاوز نطاق ما هو موجود.
في مجتمع كهذا يطرأ تغيير أساسي على طبيعة كل من الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع: الطبقة الرأسمالية، والطبقة العمالية ولا تعود أي منهما تحمل ملامح التحليل التقليدي للطبقات الاجتماعية كما شاع في القرن التاسع عشر، على يد ماركس بوجه خاص.
فالطبقة الرأسمالية: تقليديا، طبقة ليبرالية بطبيعتها تزدهر في ظلها الحريات البورجوازية المعروفة: حرية الرأي، والكلام، والتجمع، وتكوين الأحزاب والمعارضة ... إلخ، وتلك هي المزايا التي جعلت المرحلة الرأسمالية تمثل تقدما كبيرا بالقياس إلى المرحلة الإقطاعية السابقة عليها. غير أن هذه المزايا، في المجتمع الرأسمالي المتقدم تلغي نفسها بنفسها، بل تتحول إلى عيوب. فالتعددية، التي تتمثل في وجود كثرة من الآراء والاتجاهات والأحزاب، تتحول بالتدريج إلى واحدية، ولا يبقى منها في النهاية إلا مظهرها الخارجي، فيكون هناك مثلا حزبان - أو أكثر - ولكن المواقف في نهاية الأمر واحدة، والعناصر المشتركة غالبة على عناصر الاختلاف؛ لأن الكل مهما اختلفوا في التفاصيل الشكلية - متفقون على محاربة أي تغيير حقيقي يراد إدخاله على المجتمع.
فماذا يكون إذن موقف مجتمع كهذا من مبدأ «التسامح» الذي هو مبدأ أساسي في الرأسمالية التقليدية؟ إن هذا المجتمع يظل يقبل المبدأ ذاته، ولكنه يحوله ببراعة شديدة إلى سلاح للمحافظة على كيانه والقضاء على كل معارضة حقيقية. وقد تتبع ماركيوز عملية التحويل والتزييف هذه ببراعة في المقال الذي ألفه في كتاب مشترك يحمل عنوان «نقد التسامح الخالص»، فأكد أن التسامح المطلق الذي يسمح فيه لكل رأي بالتعبير عن نفسه، بحيث يتساوى الحق والباطل، والصحيح والمزيف، والبناء والهدام، والتقدمي والرجعي، هو سلاح يخدم الرأسمالية ولا يلحق بها أي ضرر. ففي ظل هذه المساواة المطلقة تضيع قضية التقدم الإنساني وتزيف، ويتميع الموقف العام للمجتمع إزاء ضروب الاختيار العديدة التي يتعين عليه أن يتخذ قرارا بينها.
وعندما يكون الرأي العام مسمما بفعل وسائل الإعلام التي يملكها أو يسيطر عليها النظام القائم، ويكون لدى الجمهور رأي جاهز سلفا في المسائل الكبرى - رأي يتفق مع ما تريده «المؤسسة
Establishment » فعندئذ تضيع قيمة الحرية المطلقة التي تتمتع بها الصحافة مثلا، ولا يكون هناك جدوى من عرض الرأي والرأي المضاد؛ لأن أذهان الجماهير مهيأة سلفا لقبول ما يتفق مع موقف النظام القائم، بحيث لا تكون هناك منافسة حقيقية بين الرأيين. وهكذا يختفي وراء هذا التسامح المطلق عدم تسامح اضطهادي، ويظهر شكل جديد فريد، من أشكال القضاء على الحرية، هو ذلك الذي تنعدم فيه الحرية نتيجة لعملية منح الحرية ذاتها ويزيد فيه القمع كلما ازداد التسامح.
أما الطبقة العمالية فإن التغيير الذي يطرأ عليها، في المجتمع الرأسمالي المتقدم، أخطر بكثير. فالمفروض، حسب النظرية الماركسية التقليدية، أن هذه الطبقة تزداد فقرا على الدوام كلما ازداد الإنتاج الرأسمالي واشتدت المنافسة بين المنتجين؛ إذ إن القيمة الفائضة تنقص ولا بد أن يأتي هذا النقص على حساب العمال، لا على حساب أصحاب الأعمال. وهكذا يشتد التناقض بين الرأسماليين الذين يزدادون قوة وسيطرة وثراء، والعمال الذين يزدادون فقرا وسخطا على أوضاعهم. ويؤدي هذا التناقض إلى ظهور وعي طبقي لدى العمال، يدفعهم إلى تنظيم أنفسهم سياسيا، حتى يصل هذا الوعي، في حالة وجود تنظيم سياسي محكم، إلى مستوى العلو على الذات؛ أعني أن الطبقة العمالية لا تكتفي بالعمل من أجل إصلاح أوضاعها الطبقية الخاصة، بل تنظر إلى نفسها على أنها ضمير الإنسانية كلها، وعلى أنها الطبقة القادرة على تخليص البشرية من مظاهر الظلم والشقاء.
هذا هو الوضع الذي تفترضه الماركسية في صورتها التقليدية، ولكن التطور الفعلي الذي حدث في المجتمع الرأسمالي، منذ مطلع القرن العشرين بوجه خاص، أدى إلى إدخال تغيير جذري على الطبقة العاملة وموقفها من النظام الرأسمالي القائم. وكان من أهم أسباب هذا التغيير عاملان رئيسيان طرآ على النظام الرأسمالي خلال هذه الفترة: أولهما قدرة هذا النظام على تحقيق نوع من الاستقرار يجنبه الأزمات والتقلبات المفاجئة، وكان ذلك واضحا منذ اللحظة التي دخلت فيها الرأسمالية المرحلة الاحتكارية، حين حل التنافس المنظم محل التنافس العشوائي الحر، وأصبحت السيطرة لكارتلات وترستات تجمع بين عدد كبير من المنتجين الذين كانوا من قبل متنافسين، وحدث اندماج بين الخبرة المالية والخبرة الصناعية، وبين رجال السياسة ورجال الأعمال؛ أي بالاختصار، حين انتقلت الرأسمالية من مرحلة المشروع الفردي المغامر إلى مرحلة النظام المستقر الذي يسيطر - عن طريق الاقتصاد - على كافة مرافق المجتمع. وأما العامل الثاني فهو تأثير التكنولوجيا الحديثة، التي أدخلت على العمليات الإنتاجية تحسينات، في الكم والكيف، لم يكن من الممكن التنبؤ بها، وانسحب تأثير هذه التحسينات على العمل اليومي الذي يمارسه العمال، مما أدى إلى الإقلال باستمرار من مجهودهم الجسمي، وإلى إزالة الفوارق بالتدريج بين العمل اليدوي وبين العمل المكتبي، أو بين أصحاب «الياقات الزرقاء» وأصحاب «الياقات البيضاء». ففي المصنع الذي تدار آلاته بطريقة التسيير الذاتي (الأتمتة)
अज्ञात पृष्ठ