مقدمة
النقد الفلسفي
النقد الاجتماعي
مقومات الحضارة الجديدة
ماركيوز بين واقع الثورة وأحلام الفلسفة
مقدمة
النقد الفلسفي
النقد الاجتماعي
مقومات الحضارة الجديدة
ماركيوز بين واقع الثورة وأحلام الفلسفة
هربرت ماركيوز
هربرت ماركيوز
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
في حياة كل عظيم فترة حاسمة هي تلك التي تأتيه فيها الشهرة وينال اعتراف المجتمع بعد أن كان مغمورا. وفي أحيان غير قليلة تأتي هذه الشهرة متأخرة، حين تفرض الأعمال الكبيرة نفسها على مجتمع ظل يتجاهلها أو يقاوم تأثيرها أمدا طويلا. وقد لا يأتي اعتراف المجتمع بها إلا على ما هي عليه، دون أن يطرأ عليها تغيير جوهري، ومع ذلك تقبل عليه الشهرة في المرحلة الأخيرة من عمره، ويصبح ملء أسماع الناس وأبصارهم بين يوم وليلة مع أن أفكاره ذاتها ظلت قبل ذلك في متناول أيدي الناس عشرات طويلة من السنين.
وتلك واحدة من المفارقات العديدة التي تحفل بها حياة هربرت ماركيوز. فقد صاغ آراءه الرئيسية في الثلاثينيات من هذا القرن، وربما قبل ذلك ولم يهتم به الناس، بل إنه ظل - على أحسن الفروض - أستاذا ينال بعض التقدير في الأوساط الأكاديمية المتخصصة، ولكن بعد مضي قرابة ثلث قرن على نشره لآرائه، أتته الشهرة مفاجئة على هذه الآراء نفسها. ولم تكن تلك شهرة من نوع مألوف، بل لقد أصبحت كتبه أشبه بالفيلم العالمي الذي يراه الكبير والصغير في مختلف أرجاء الدنيا، وتحول أستاذ الفلسفة الأكاديمي إلى «نجم» لامع، وأصبح الشيخ الأشيب معبود الشباب الثائر المتمرد في العالم كله، وتحولت كتبه إلى دليل ثوري في أيدي كل من يسيرون في مظاهرة أو يهاجمون رجال شرطة أو يعلنون إضرابا عاما. ومجمل القول إن ذلك التفكير الذي صيغت معالمه الأساسية منذ أكثر من جيل مضى، وفي ظروف عالمية تختلف إلى أبعد حد عن ظروف عصر الصواريخ الذي نعيش فيه، قد أصبح في أيامنا هذه إنجيلا لأبناء الجيل الجديد، ومرشدا لهم في سعيهم إلى تشكيل عالم الغد.
وليس لهذه المفارقات إلا تعليل واحد هو أن العالم قد تغير كثيرا ، على حين أن ماركيوز لم يتغير إلا قليلا. فما هي إذن التغيرات التي جعلت عالمنا يلتقي مع تفكير هذا الرجل ويحوله من فلسفة أكاديمية إلى دليل عمل لكل من يؤمن بأن المجتمع الإنساني في حاجة إلى تغيير شامل؟ ذلك هو السؤال الذي ينبغي أن يفهم فكر ماركيوز في ضوئه. وتلك هي المهمة التي نود أن نأخذها على عاتقنا في هذا البحث، والتي ستتيح لنا أن نقوم بتقييم شامل لفكر ماركيوز، نتبين من خلاله مدى جدارة هذا المفكر بالشهرة الخيالية التي سعت إليه، ومدى قدرته على التعبير عما ينبغي أن يرفضه إنسان الحاضر، وما ينبغي أن يحققه إنسان المستقبل. •••
ولد هربرت ماركيوز في برلين عام 1898م لوالدين يهوديين. وينبغي أن نظل نذكر هذه الحقيقة ونحن نتتبع مجرى تفكيره؛ إذ يبدو - بالرغم من الاعتقاد الشائع بأنه مفكر ذو نزعة عالمية خالصة - أنه لم يستطع التخلص من تأثير هذا الأصل اليهودي تخلصا تاما. وقد درس الفلسفة في جامعة برلين ثم في فرايبورج على الفيلسوف الألماني الكبير «هيدجر» وحصل من هذه الجامعة الأخيرة على درجة الدكتوراه في الفلسفة، وكان موضوع رسالته أنطولوجيا هيجل وعلاقتها بفلسفته في التاريخ. وفي الوقت ذاته، بدأ اهتمامه بالسياسة يتخذ صورة تعاطف مع الحركة الديمقراطية الاشتراكية الألمانية، ولكنه انفصل عنها عام 1919م بعد حدث ضخم هو مقتل الزعيمين روزا لوكسمبرج وكارل ليبكنشت. وعلى الرغم من أنه أصبح في عام 1927م رئيسا لتحرير مجلة تدين بمبادئ هذه الحركة، مجلة
Gesellshaft ، فقد كان يقوم بهذه المهمة دون أي ارتباط فعلي بمبادئ هذا الحزب.
وعندما تولى النازيون الحكم عام 1933م، غادر ماركيوز ألمانيا، شأنه شأن الغالبية العظمى من الأساتذة والعلماء اليهود في ألمانيا، وبدأت مرحلة جديدة من حياته، انقطعت فيها روابطه ببلده الأصلي، وبدأ يبحث لنفسه عن وطن ثان. وبعد فترة لم تزد عن سنة قام خلالها بالتدريس في جنيف، رحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لا يزال يقيم فيها حتى اليوم.
وقد أسس ماركيوز بعد رحيله إلى الولايات المتحدة مباشرة، وبالاشتراك مع زميله ماكس هوركيمر
Max Horkheimer
معهد البحوث الاجتماعية
Institute Of Social Reseacrh
أو لنقل على الأصح أنهما نقلا هذا المعهد من مقره في فرانكفورت إلى جامعة كولومبيا في نيويورك.
ولكن قليلا من الكتب التي ألفت عن ماركيوز تذكر في معرض حديثها عن حياته، أنه اشتغل في مكتب أبحاث المخابرات
Office Of Intelligence Research
التابع لوزارة الخارجية الأمريكية لمدة عشر سنوات، كان يعمل خلالها في القسم المختص بشئون شرق أوروبا ووصل إلى وظيفة نائب رئيس هذا المكتب. وامتدادا لهذا العمل، اشتغل بمعهد الشئون الروسية التابع لجامعة هارفارد، وكان كتابه «الماركسية السوفيتية» ثمرة لعمله في هذا المركز الأخير.
وقد انضم ماركيوز من عام 1954م إلى عام 1967م إلى هيئة التدريس بجامعة برانديس
Brandeis ، ثم انتقل إلى جامعة كاليفورنيا، حيث لا يزال يعمل حتى اليوم.
ولو شئنا أن نستخلص أهم المعالم في هذا العرض الموجز لحياة هربرت ماركيوز، أعني تلك المعالم التي تلقي ضوءا على فكره وتفسر اتجاهاته المتباينة، لكانت أبرز هذه المعالم في رأيي هي: (1)
انتماؤه إلى أسرة يهودية، وهو الانتماء الذي ظل ماركيوز متمسكا به، ولم يحاول أن يعلن تحرره منه، كما فعل ماركس بصورة قاطعة، وكما فعل فرويد بصورة تكاد تكون قاطعة. وليس أدل على ذلك من تلك المدة الطويلة التي قضاها في جامعة برانديس بالولايات المتحدة.
ذلك لأن هذه الجامعة يهودية بحكم نشأتها. وهي معقل الثقافة اليهودية في أمريكا، وجميع أعضاء هيئة التدريس والطلبة فيها من اليهود. (2)
اتجاهه إلى التعاطف مع الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا، ثم إعلانه بعد ذلك استقلاله عن جميع الأحزاب؛ ذلك لأن هذا الاستقلال أتاح له أن يتخذ مواقف تبدو كأنها تعبر الحواجز بين الأيديولوجيات المتعارضة، دون أن يجد في ذلك ما يتناقض مع معتقداته السياسية والاجتماعية الأصلية. (3)
اشتغاله لمدة طويلة في أعمال تخدم نشاط الحكومة الأمريكية المتعلق بالشئون الروسية وشئون أوروبا الشرقية بوجه عام، مما يحمل على الاعتقاد باستحالة أن يكون موقفه الحقيقي هو موقف الحياد بين المعسكرين. (4)
اتخاذه الولايات المتحدة وطنا ثانيا أقام فيه منذ عام 1934م؛ أي حوالي نصف عمره، مما أتاح له فرصة الاطلاع الكامل عن كثب على أحوال الحياة في أكثر البلاد الرأسمالية تقدما، وزوده بمعرفة مباشرة عن طبيعة المجتمع الصناعي المتقدم، لا سيما وهو قد رحل إليها في سن النضوج، وفي وقت كانت فيه قدراته الفكرية قد بلغت مستوى يتيح له القيام بتحليلات عميقة للمجتمع الذي يعيش فيه.
ولسنا نود، في الوقت الحالي، أن نبحث في مدى الاتساق بين هذه المعالم الرئيسية الأربعة في حياة ماركيوز، ولا سيما الثالث والرابع منها؛ ذلك لأنه يبدو أن هناك تناقضا بين قبوله الاشتغال في خدمة النشاط الأمريكي الموجه ضد أوروبا الشرقية عامة وبين نقده الحاسم للمجتمع الصناعي المتقدم كما يتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص. وتلك بالفعل مسألة جديرة بالبحث؛ لأنها تلقي ضوءا على موقفه العام من الأيديولوجيات المعاصرة وتكشف عن التيارات الخفية الكامنة وراء كثير من آرائه ذات المظهر التقدمي البراق. غير أننا لن نستطيع خوض موضوع معقد كهذا - هو في واقع الأمر متعلق بتقييم ماركيوز من حيث هو مفكر أيديولوجي بوجه عام - إلا بعد أن نكون قد عرضنا الجوانب الرئيسية لتفكيره.
النقد الفلسفي
تبلور تفكير ماركيوز من خلال حوار صامت أجراه مع «هيجل وماركس ونيتشه وفرويد» ومن خلال حوار حقيقي أجراه مع «هيدجر». وإذا كان من المعترف به أن هذه هي الشخصيات الرئيسية التي تحكمت في تشكيل فكر الإنسان المعاصر، فمن الصعب أن نتصور كيف يستطيع عقل واحد أن يستوعب كل هذه المؤثرات المتعارضة ويعترف صراحة بأنه كان بالفعل تلميذا لكل هؤلاء في آن واحد. على أن كل شيء - كما هو معروف - يتوقف على نوع «التلمذة» التي ربطت بين ماركيوز وبين هؤلاء الأقطاب. والأمر المؤكد أنه كان تلميذا خلاقا، وأن شخصيته كانت هناك دائما، أيا كانت قوة المصادر التي أثرت في تفكيره.
على أن تأثير هذه الشخصيات على ماركيوز لم يمارس في وقت واحد أو في نفس الميادين؛ فقد كان تأثير «هيجل» هو الأسبق، وهو الذي ظل ملازما له حتى النهاية. وتلاه تأثير ماركس، ومع «نيتشه». وفي مرحلة تالية كان تأثير «فرويد»، ثم «هيدجر»، «ومن جهة أخرى فإن تأثير هيجل وهيدجر كان أقرب إلى الطابع الفلسفي، على حين أن «ماركس ونيتشه وفرويد» قد زودوه بالأسلحة اللازمة لنقد المجتمع الحديث نقدا حضاريا وأيديولوجيا.»
ولكن هذا كله قد يوحي بأن تفكير ماركيوز قد سار في ميادين منفصلة. بل إن عنوان هذا القسم قد يعني أن ثمة نقدا فلسفيا مستقلا، وأن لدى ماركيوز مذهبا واسع الأطراف، يعالج في جانب منه مشكلات فلسفية خالصة وفي جانب آخر مشكلات اجتماعية أو نفسية أو فنية. وحقيقة الأمر أن هذه الصورة التجزيئية، وإن كانت تصدق على كثير من المفكرين، هي أبعد ما تكون عن الصواب في حالة ماركيوز؛ ذلك لأن من الميزات القليلة لفكره ذلك التماسك والإحكام وروح الوحدة التي تبلغ أحيانا حد التكرار شبه الحرفي للآراء؛ فهناك علاقة عضوية وثيقة بين كل ما يقوله ماركيوز في مختلف مجالات الفكر.
ولقد تعمدنا أن نبدأ هذا العرض لفكر ماركيوز بالكلام عن نقده الفلسفي لسببين رئيسيين: «أولهما» أن النقد الفلسفي عنده أساس لكل نقد آخر، وأن الفلسفة هي التي تقدم بذور تفكيره في سائر الميادين، «وثانيهما» أن نظرته إلى الفلسفة - التي يفترض أنها أكثر ميادين الفكر تجريدا - كانت أبعد ما تكون عن التجريد، بل إن الفلسفة عنده يستحيل أن تنعزل وتنتحي جانبا، تاركة بقية ميادين النشاط الروحي وشأنها؛ فهي على الدوام متشابكة متداخلة مع هذه الميادين. ومن هنا كان عرض نقده الفلسفي في بداية هذا البحث يمثل في الواقع إشارة واضحة إلى تلك الوحدة الفكرية العميقة التي هي من أبرز سمات هذا الفيلسوف. •••
إن تفكير ماركيوز يعد في واقع الأمر نموذجا للبحث الفلسفي الذي لا يكتفي بمعالجة المفاهيم أو المذاهب بصورة تجريدية تعزلها عن مضمونها الاجتماعي، بل هو يحاول دائما كشف هذا المضمون حتى في أشد المفاهيم تجريدا، وحتى في تلك المذاهب التي تبدو بعيدة كل البعد عن حركة الواقع ومجرى التاريخ. وهو من جهة أخرى ينقب عن الأسس الفلسفية للحركات والتيارات الاجتماعية في عصرنا الحديث بوجه خاص، ويؤمن بأن هناك، من وراء كل ممارسة عملية أساسا نظريا تستطيع الفلسفة أن تعبر عنه تعبيرا كافيا. «وهكذا يتبين لنا، في موقف ماركيوز من الفلسفة، اتجاهان متكاملان: أولهما الاتجاه إلى كشف الأساس العيني - المستمد من تجربة المجتمع الفعلية - للمعاني والأفكار الرئيسية التي تحكمت في مسار الفكر الفلسفي، وثانيهما هو الاتجاه المقابل الذي لا يكتفي، في تحليله لأية حركة اجتماعية، بالوصف المباشر، بل يمضي في التحليل حتى يكتشف لها أسسا فلسفية عميقة.» ومن الجلي أن الاتجاه الأول يبدو كما لو كان يقضي على الطابع المميز للفلسفة؛ إذ إنه لا يعترف بالاستقلال الذاتي للمفاهيم الكبرى في الفلسفة، وإنما يربطها على الدوام بسياق أوسع، هو سياق العلاقات الاجتماعية التي تكتسب هذه المفاهيم معناها الحقيقي منها، ومن ثم فهو ينكر أن يكون للفلسفة تطور تلقائي مستقل، وإنما يجعل تطورها جزءا من التطور الأعم الذي مرت به المجتمعات البشرية في كفاحها من أجل حياة تسودها علاقات متحررة من الظلم والاستغلال. غير أن الاتجاه الثاني يعوض تأثير الأول، ويعيد تأكيد هذا الطابع المميز للفلسفة، بل إنه يجعل الفكر الفلسفي النظري منبثا في أكثر حركات التاريخ عينية وأقواها تأثيرا في حياة الناس العملية. ومن ثم فإن الفلسفة تصبح، في هذه الحالة، هي التيار الخفي الذي يتحكم في كل ما يظهر فوق السطح من اتجاهات.
ومعنى ذلك أن إضفاء الطابع العيني على الفلسفة لا يتم - عند ماركيوز - على حساب الفلسفة ذاتها، وهو في ذلك يتميز عن الكثيرين ممن يستهويهم هدف القضاء على عزلة الفلسفة وتستبد بهم الرغبة في إعطائها وظيفة عملية من نوع ما، وإزالة الحواجز بينها وبين بقية مظاهر النشاط العيني للإنسان، فينتهي بهم الأمر إلى القضاء على خصوصية التفكير الفلسفي، أو إلغاء كل ما هو مميز له. فقيمة المحاولة التي قام بها ماركيوز - مع الاعتراف بكل ما يشوبها من عيوب سننبه إلى البعض منها بعد قليل - تكمن في أنها قد احتفظت للفلسفة بكل عناصرها، واكتشفت، داخل هذه العناصر، مضمونا عينيا هو أساس تلك النظرة الجديدة التي تأمل بها ماركيوز مفاهيم الفلسفة وتياراتها الكبرى.
ولقد عبر ماركيوز ذاته تعبيرا واضحا عن نظريته الجديدة هذه، القائلة بوجود مضمون اجتماعي وتاريخي حتى لأشد المفاهيم الفلسفية تجريدا، فقال: «توجد في الفلسفة مفاهيم أساسية لها طابع ميتافيزيقي ينأى بها عن الجذور الاجتماعية التاريخية للفكر. ويبدو أن بقاء مضمونها على ما هو عليه في أشد النظريات الفلسفية تباينا هو أقوى تبرير لفكرة «الفلسفية الأزلية الثابتة
» ومع ذلك فحتى أرفع التصورات الفلسفية وأشدها مفارقة تخضع للتطور التاريخي، وليس ما يتغير هو مضمونها، بقدر ما هو موقعها ووظيفتها داخل المذاهب الفلسفية.»
1
ومن الجدير بالذكر أن ماركيوز قد اتخذ هذا الموقف من الفلسفة منذ بداية حياته الفكرية الناضجة، وكان اتخاذه هذا الموقف تعبيرا عن طريقته الخاصة في الجمع بين تأثير «هيجل وماركس وهيدجر» في مركب واحد؛ ذلك لأن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، وإن اختلفوا في اتجاههم العام اختلافا هائلا، يشتركون جميعا في أنهم يؤمنون بأن للفلسفة طابعا عينيا، وبأن عهد التجريد المطلق قد انتهى. وهكذا نرى ماركيوز يؤلف بحثا من أول كتاباته بعنوان «في الفلسفة العينية
über konkrete Philosophie » (1929م) وينطلق فيه من أفكار «هيدجر»كما عبر عنها في كتابه الأكبر «الوجود والزمان»، ليمزجها بأفكار «هيجل وماركس» في التاريخ، ويخرج من هذا كله بوظيفة جديدة للفلسفة - حتى في أشد اتجاهاتها إغراقا في التجريد - هي في أساسها وظيفة عينية مرتبطة بالواقع والتاريخ، وبالمجتمع الذي نشأت فيه.
إن الحقيقة الفلسفية، في رأى ماركيوز، لا تعيش في عالمها الخاص، عالمها المفارق الذي انقطعت جميع روابطه بعالم الإنسان، بل إنها ترتبط ارتباطا وثيقا بممارسة الإنسان العملية، وبوجود الإنسان في معناه العيني لا المجرد. هذا الوجود العيني لا يمكن أن يفهم بمعزل عن اللحظة التاريخية التي يتحقق فيها، وعن المجتمع الذي يحدد لقدرات الإنسان وإمكاناته مجالا تمارس فيه. وينبغي أن نذكر أن هذ العنصر التاريخي الذي يتحكم في تحديد معنى المفاهيم والمشكلات الفلسفية وفي تطورها ليس مجرد حالة عارضة تضاف إلى أساس ثابت، بل جزء لا يتجزأ من بناء هذه المفاهيم والمشكلات. ولا جدال في أن التشابه واضح بين نظرة ماركيوز الديناميكية العملية إلى الفلسفة، وبين رأي ماركس القائل إن على الفلسفة ألا تكتفي بفهم العالم، بل ينبغي أن تعمل على تغييره.
ولو أمعن المرء النظر في موقف ماركيوز لتبين له أن ينطوي على نقد لنوعين من المذاهب الفلسفية: الأولى هي تلك المذاهب التي تؤمن بأن للفلسفة طابعا مطلقا يعلو على الزمان، وبأن مشكلاتها أزلية لا يؤثر فيها أي تطور تاريخي، أعني المذاهب التي لا تعتقد بأن هناك تطورا فلسفيا، وربما ذهبت إلى حد القول بأن هذا التطور - إن وجد - قابل للانعكاس. أما النوع الثاني من المذاهب التي ترفضها نظرة ماركيوز هذه، فهي تلك التي تقوم على أساس تجريبي محض. وقد يبدو لأول وهلة أن المذاهب التجريبية تقترب من تحقيق هدف ماركيوز في إقامة الفلسفة على أساس عيني، ولكن حقيقة الأمر هي أن حرص هذه المذاهب على التقيد بالتجربة يجعلها تلتزم الواقع في صورته القائمة بالفعل، ولا تلقي بالا إلى أية إمكانات قد تكون كامنة في قلب هذا الواقع دون أن تظهر فيه ظهورا فعليا في حالته الراهنة، وتلك، في رأي ماركيوز، آفة من الآفات التي يمكن أن تصيب الفلسفة، إذ إنها تحكم عليها بأن تظل إلى الأبد حبيسة «الوضع الراهن»، عاجزة عن المشاركة بأي نصيب في نقل ما هو ممكن، وما يسعى جاهدا إلى تحقيق ذاته، إلى مستوى الواقع الفعلي.
ولعلنا نستطيع، في ضوء نقد ماركيوز هذا لكافة ضروب المذاهب التجريبية، أن نزيد فكرته عن «الفلسفة العينية» إيضاحا. فمن الواضح، بعد ما قلنا، إن المقصود بالفلسفة العينية ليس على الإطلاق تلك الفلسفة التي تقتصر على ما هو عيني مباشر، أو تلتزم عالم الواقع على ما هو عليه. إنها على عكس ذلك، تستخلص من قلب الواقع ما هو ممكن فيه، وبذلك يمكن القول إنها تعترف بالواقع من ناحية، وتنكره وترفضه من ناحية أخرى. ولا بد أن تتسم كل فلسفة عينية أصيلة بقدر من عنصر الرفض هذا - ومن هنا كان للفلسفات التي تستهدف العلو على الواقع بعض العذر، وإن كان معظمها يذهب، كما ذكرنا من قبل، إلى حد إقامة عالم مفارق انقطعت كل الأسباب بينه وبين عالم الوجود الإنساني الفعلي - فليس هناك، في رأي ماركيوز، حد فاصل قاطع بين الممكن والواقع؛ إذ إن الإمكانات الكاملة لأي شيء لا تتحقق في أية لحظة بعينها من لحظات واقعه، كما أن الواقع، من جهة أخرى، لا يفهم إلا بالإشارة إلى وجود هذه الممكنات في الماضي واحتمال تحققها في المستقبل، ومن هنا كان الموجود والممكن متداخلين، يستحيل فهم أحدهما بدون الآخر.
وعلى أساس هذا الفهم للفلسفة العينية عند ماركيوز نستطيع أن نقدم عرضا موجزا لبعض تحليلاته الفلسفية التي ارتكزت على فهمه هذا، والتي يتجلى فيها كلها وجود خط واحد يتبعه في تحليل المفاهيم الفلسفية من ناحية، وفي تحليل المذاهب من ناحية أخرى. وسوف نختار نماذج من تحليلاته هذه توضح، بصورة أقرب إلى الطابع العلمي، طريقته في التراث الفلسفي. •••
لا شك في أن أشهر المفاهيم التي قام ماركيوز بتحليلها هو مفهوم «الماهية»
Essence
الذي خصص له دراسة كاملة أعيد نشرها حديثا في كتاب
Negations . ففي رأيه أن مفهوم «الماهية» كان يعبر دائما عن الوجود الحق، الأصيل، في مقابل الوجود العارض المتغير. وتتجلى هذه الصفة بوضوح منذ أول استخدام فلسفي عميق لهذا المفهوم؛ أي منذ عهد أفلاطون؛ ذلك لأن أفلاطون عندما أكد أن الوجود الحق هو الوجود الكلي الشامل، وهو الوحدة داخل الكثرة، لم يكن يقدم رأيا معينا في المعرفة أو في كيفية حصول العلم فحسب، ولم يكن يعبر عن رأي أنطولوجي في طبيعة الوجود فحسب، بل كان يعرض فكرة أخلافية نقدية في أساسها. إن التفرقة بين الماهية وبين المظهر أو المثال الجزئي هي في واقع الأمر تفرقة بين وجود أصيل يستحق أن يكون، ووجود زائف يتصف بأنه كائن فحسب. وحين يبني أفلاطون نظريته في المثل على أساس وجود عالم آخر «حقيقي» من وراء عالم الحواس الخادعة، فإن في هذه التفرقة بين العالمين تأكيدا ضمنيا بأن وجود الأشياء لا يستنفد كله فيما تكون عليه هذه الأشياء في صورتها المباشرة، وبأنها لا تبدو على النحو الذي تسمح لها إمكاناتها بأن تكون عليه، أي أن الوجود المباشر (المظهر) ناقص بالقياس إلى الإمكانات التي يدركها الذهن بوصفها ماهية للشيء. وعندئذ تكون فكرة المثال أو الصورة
eidos
عند أفلاطون تعبيرا عن معيار تقاس به المسافة التي تفصل بين الوجود المباشر للشيء، وبين ما يمكن أن يكونه الشيء،
2
أي أن هذه الفكرة في أساسها نقدية تعبر عن موقف سلبي من العالم الذي يعيش فيه الفيلسوف.
وقبل أن نمضي قدما في متابعة هذا التحليل الطريف الذي يقدمه ماركيوز لمفهوم الماهية عند أكبر فلاسفة اليونان، نود أن نتأمل تحليله هذا بنظرة ناقدة، حتى لا يستقر في ذهن القارئ أن رأي ماركيوز هذا تعبير عن حقيقة موضوعية، وحتى يوضع هذا الرأي في موضعه الصحيح، بوصفه مجرد اجتهاد شخصي قد يكون فيه قدر غير قليل من التعسف.
ذلك لأن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن كل مذهب يقول بازدواج العالم، ويضع في مقابل العالم الذي نعيش فيه عالما آخر يتميز بكل ما يفتقر إليه عالمنا هذا من فضائل - كل مذهب كهذا يقف من عالمنا الواقعي موقفا سلبيا ويعبر عن رفضه له. ولكن الموقف السلبي أو الرفض يختلف معناه، وتتباين دلالته تباينا تاما، حسب نوع العالم المرفوض، ففي حالة أفلاطون كان العالم الذي رفضه هو عالم الديمقراطية الأثينية التي كان أفلاطون يضمر لها كراهية عميقة - كان عالما ديناميا متغيرا يتنافى مع المثل العليا الأوليجاركية السكونية التي يؤمن بها مفكر أرستقراطي مثل أفلاطون؛ ولذلك كانت نظرية المثل عنده أبعد ما تكون عن الدعوة إلى التغيير والنقد، بل كانت في حقيقتها رفضا لعالم متغير، وأملا في عودة العالم التقليدي السكوني القبلي مرة أخرى. أو هي - بعبارة أخرى - رفض لممكنات ظهرت وتحققت وازدهرت بالفعل في سبيل العودة بالأشياء إلى وضعها الأقدم والأكثر ثباتا، الذي كانت فيه ممكناتها هذه مطوية مخفية. ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل نزعة أفلاطون المحافظة تجاهلا تاما، وأضفى على بحثه عن الماهية «طابعا ديناميا» هو أبعد ما يكون عنه.
وفي وسع المرء أن يذهب في هذا النقد شوطا أبعد، فيقول - ضد ماركيوز - إن البحث عن عالم الحقيقة تمثل الماهية الحقة للأشياء يمكن أن يكون في أساسه سعيا إلى إيقاف كل تغير، وكبت كل نقد، وقبول للأمر الواقع على ما هو عليه. ولدينا على ذلك مثال واضح في التفسير الرجعي لفكرة «العالم الآخر» في الأديان، وهو التفسير الذي يؤدي إلى الاستسلام لكل المظالم والشرور السائدة في عالمنا هذا، بحجة أنها ستعوض في العالم الآخر، وأن الظالم سيلقى جزاءه الحق في الآخرة، ومن ثم فلا داع للقصاص منه، أو حتى لمقاومته، في هذه الحياة. فإذا علمنا أن فكرة العالم الآخر تمثل «عالم الماهية الحقة» بالنسبة إلى العالم الحاضر الزائل والزائف، وأنه هو الذي تتحقق فيه الممكنات التي لا يكشف عنها الوجود الراهن للأشياء كشفا كاملا؛ لتبين لنا أن فكرة الماهية، بالمعنى الذي عرضها به ماركيوز، لا يتعين أن تكون ناقدة رافضة، بل قد تكون في بعض الأحيان تعبيرا عن أوضح أنواع الاستسلام وقبول الأمر الواقع.
ويشير ماركيوز إلى التحول الذي طرأ على مفهوم الماهية في العصر الحديث، وخاصة عند ديكارت، فينبه إلى أن وجود القوى اللاشخصية المجهولة، قوى السوق والعمل، قد جعل الفرد ينقل الماهية إلى ذاته بحيث يرى أنه هو وحده الثابت المضمون وسط عالم خارجي لا يمكن السيطرة على تقلباته، ومن هنا أصبحت الماهية الوحيدة هي ماهية الذات المفكرة، وأصبح الشعار الفلسفي السائد هو أنني «أدرك نفسي على أنني كائن تنحصر ماهيته الوحيدة في كونه مفكرا» ذلك لأن البورجوازية، التي حملت لواء الفلسفة الحديثة، قد فسرت العلاقة بين الماهية والمظهر في فجر عهدها، على أساس أن استقلال الذات العاقلة هو الذي يشيد ويبرر الحقائق النهائية القصوى التي تتوقف عليها كل حقيقة نظرية وعملية، فالفرد المفكر لديه حرية تضم في داخلها ماهية الإنسان والأشياء.
3
والخطوة الرئيسية التالية في تطور مفهوم الماهية، تتمثل في ظاهريات هوسرل. هنا تصبح الماهية ما لا يتغير في تلك التمثلات التي يمكن أن تطرأ عليها شتى أنواع التحول والتبدل بفعل الخيال . صحيح أن الماهية تظل في هذه الحالة، كما كانت دائما على مر تاريخ الفلسفة، هي الثابت وسط المتغيرات، ولكن التقابل لا يعود هنا بين ثبات الفكر الداخلي وتغير العالم الخارجي، بل بين ثبات وتغير ينتميان معا إلى مجال الذاتية. فالماهية لا تعود معبرة عن توتر بين الأنا المفكر وبين الوجود الواقعي ولا بين ما هو موجود بحكم الأمر الواقع وما يمكن أو يجب أن يوجد، بل إن الماهيات التي تصفها الظاهريات تتميز بأنها ماثلة على ما هي عليه، دون أي توتر في داخلها. ويرى ماركيوز في قبول الظاهريات لما يرد إلينا على النحو الذي يرد عليه، وفي اكتفائها بوصفه، ومناداتها بشعار «العود إلى الأشياء»؛ يرى في ذلك كله تعبيرا عن طابع الاستسلام، واختفاء لروح النقد والرفض التي كانت تميز الفلسفات الكبرى الماضية. ولنذكر ها هنا أن «الأشياء» التي تدعو الظاهريات إلى العودة إليها ليست تلك الأشياء المادية التي تصادفها في العالم الموضوعي، وإنما هي أشياء منتمية إلى مجال الذات الترنسندنتالية، وهو المجال الذي يتساوى فيه كل شيء من حيث هو واقعة للوعي؛ ولذلك فإن زعم الظاهريات أنها تتحرر من كل المسلمات والفروض السابقة (بشأن الوجود الفعلي للأشياء) يعني، في حقيقة الأمر، أنها تضع الأشياء جميعا على قدم المساواة.
إن الظاهريات تصل إلى ماهيات الأشياء عن طريق تجريد واقعيتها الحادثة
Facticité
فحسب، أي تجريد انتمائها إلى العالم المكاني الزماني فحسب. «ولكن استخلاص فيلسوف الظاهريات لتجريداته عن طريق البدء بما هو موجود، هو الذي يجعل الظاهريات تتخلى عن فكرة وجود أي تعارض أساسي بين الواقع والإمكان.»
4
فعالم الإمكان عند الظاهريات هو ذاته عالم الواقع وقد أعيد ترديده على مستوى آخر. ومن هنا كان الطابع الوصفي الذي تتسم به الظاهريات عيبا يفرضه عليها منهجها، وليس ميزة كما تصور هوسرل؛ إذ إن هذا الوصف الظاهرياتي، وإن كان قد احتفظ بالتمييز بين الماهية والوجود، قد أزال عن هذا التمييز أهم وظيفة له، ألا وهي الوظيفة التي تؤدي إلى الوقوف من الواقع موقفا نقديا.
ومن هنا كان حكم ماركيوز القائل إن «مفهوم الماهية في مذهب الظاهريات يذهب في ابتعاده عن أية دلالة نقدية إلى حد أنه ينظر إلى الأساسي وغير الأساسي، وموضوع الخيال فضلا عن موضوع الإدراك الحسي، على أنها جميعا «وقائع». ومن هنا فإن الخصومة الإبستمولوجية التي يبديها هذا المذهب للفلسفة الوضعية لا تكاد تنجح في إخفاء اتجاهه الخاص الذي كان بالفعل وضعيا.»
5 •••
وكما أعاد ماركيوز تفسير مفاهيم فلسفية رئيسية، فقد كان له رأيه الخاص، المتميز، في فهم المذاهب الفلسفية السابقة. ونستطيع القول إنه ما من مذهب فلسفي عرض له ماركيوز إلا وألقى عليه ضوءا جديدا مستمدا من طريقته الأصيلة في تفسير التاريخ السابق للفلسفة. ولقد أشرنا من قبل، بصورة ضمنية، إلى موقف ماركيوز من فلسفة أفلاطون وبعض الفلسفات الحديثة، وبخاصة فلسفة الظاهريات. ولو شاء المرء أن يقدم عرضا لطريقته في فهم المذاهب الفلسفية لاقتضى ذلك منه جهدا شاقا، وشغل حيزا كبيرا؛ إذ إن هناك دائما ما هو جديد، وما هو شائق، في هذا الفهم. ولكنا سوف نكتفي ها هنا بمثلين؛ أحدها تفسيره لهيجل، والآخر تفسيره للفلسفة الوضعية. أما تفسيره لماركس وفرويد فإن بقية أجزاء هذا البحث سوف تتضمن عرضا أوسع له، وذلك من خلال مناقشة رأي ماركيوز في المشكلات التي حدد هذان المفكران إطارها العام.
لقد استطاع هيجل - كما يفسره ماركيوز - أن ينقل المذهب المثالي من مرحلة الاستسلام للأمر الواقع والدفاع عنه إلى مرحلة النقد المكافح الذي يعتمد أساسا - في مجال الفكر - على مفهوم السلب؛ ذلك لأن الكثيرين يعرفون عن هيجل أنه جعل للفكر مسارا ديالكتيكيا، تحتل فيه فكرة السلب مكانة رئيسية، ويعلمون أن من صميم فلسفة هيجل القول باستحالة فهم، أو تحقيق أي تطور فيها، إلا إذا أصبح السلب جزءا لا يتجزأ من كيانها ومن طبيعتها الباطنة. فكل شيء لا يكون له معنى حقيقي إلا من خلال السلب الكامن فيه، هذا كله معروف، وهو من بدهيات فلسفة هيجل. ولكن القليلين فقط هم الذين تساءلوا عن دلالة هذا الاهتمام بالسلب عند هيجل وعن أثره في تحويل مجرى المثالية من فلسفة تتجاهل الواقع وتغمض عينيها عنه، وتدعو إلى تركيز آمال الإنسان في عالم مفارق منقطع الصلة بعالم الحياة النابضة، إلى فلسفة تسهم بدور إيجابي، لا في فهم الواقع فحسب، بل في محاولة تغييره، بالفكر على الأقل. وإنها لمفارقة عجيبة أن تكون فكرة السلب هي وسيلة الفلسفة المثالية في الانتقال إلى اتخاذ موقف إيجابي من العالم المحيط بنا، غير أن العجب يزول إذا أدركنا أن السلب هنا هو النبض المحرك للفكر والواقع معا، وهو الذي يضفي عليهما القدرة على اتخاذ مواقع جديدة تزيد من ثراء الحياة وامتلائها.
ذلك لأن المثالية تكتفي عادة بتركيز جهدها على عالم الفكر، وتصل في تعمقها لذلك العالم إلى أبعاد يعجز أي مذهب آخر عن بلوغها. ولكنها خلال ذلك لا تبدي اهتماما كبيرا بالتناقض الذي يولده جهدها هذا بين الفكر والواقع. إنها تتصور الواقع معقولا؛ لأن العقل هو الذي يضفي على الواقع طابعه وقالبه، بل هو الذي يكون بناء الواقع ذاته. غير أن بعض مجالات الواقع، على الأقل، تظل متحدية لتنظيم العقل، وتلك بعينها هي المجالات التي تتجاهلها المذاهب المثالية التقليدية. أما مثالية هيجل فإنها تتخذ نقطة بدايتها من هذه المجالات بعينها. ففي كتابات هيجل عود دائم إلى عالم التجربة، ومحاولة لا تكل من أجل إيجاد دور للعقل في تنظيم هذا العالم. ولكن هيجل كان يؤكد، في الوقت ذاته، أن كل وضع لعالم التجربة يكون فيه ذلك العالم متناقضا مع العقل إنما هو وضع مؤقت، ومن ثم يتعين رفضه وتجاوزه. وهكذا تكون المثالية الهيجلية، كما فسرها ماركيوز،
6
مرتبطة بنزعة الرفض والسلب - رفض للواقع القائم في لا معقوليته، وسعي دائم إلى إقرار حكم العقل في عالم التجربة.
إن هيجل لم ينظر إلى الوضع القائم، في أي مجال، على أنه وضع يمكن أن يستقر ويدوم، مهما بدا لأول وهلة متمشيا مع العقل؛ فأي وضع لا بد أن ينظر إليه في ضوء ما فيه من إمكانات لم تتحقق بعد، والاكتفاء بالحالة الراهنة يعني خنق هذه الإمكانات وهي لم تزل في مهدها، وحرمانها من أية فرصة لرؤية النور. ومن هنا كانت مهمة العقل الرئيسية هي إدراك ما هو ممكن من خلال ما هو موجود؛ أعني أن يلمح فيما هو متحقق فعلا إمكانات أخرى أوسع وأرحب يمكنها بدورها أن تتحقق. وتلك هي السمة التي تتميز بها قدرة العقل؛ فهو وحده الذي يستطيع أن يدرك الممكنات، واحتمالات التطور، في كل وضع قائم، وهو وحده الذي يمكنه أن يتجاوز حالة الأشياء الراهنة في الوقت الذي لا يكون فيه أمامنا سواها.
وهكذا يبدو العقل الهيجلي - في نظر ماركيوز - قوة ثورية في المحل الأول. إنه سعي لا يتوقف إلى الحركة والدينامية، ونزوع لا يكل إلى التجاوز والعلو وإن لم يكن ذلك علوا منقطع الصلة بما يعلو عليه، وإنما هو علو مستمد من قلب ما هو موجود، وتجاوز منتزع من باطن الوضع القائم. وذلك بعينه هو الشرط الأول للثورة؛ أعني وجود القدرة على إدراك وضع جديد ممكن داخل الوضع الراهن الموجود. فلم يكن من المستغرب إذن أن يربط ماركيوز مفهوم العقل، عند هيجل، بمفهوم الثورة، ويرى في مثالية هيجل - على عكس كثير من التفسيرات الشائعة - أداة لا غناء عنها في يد القوى الثورية التي ظهرت منذ أواسط القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا. فعلى يد هيجل أصبح العقل - بصورة صريحة واضحة لأول مرة - أداة في يد قوى التغيير، بعد أن ظل منذ العصور القديمة قوة تنزع بطبيعتها إلى المحافظة وتنحو نحو الاستقرار وتتجه إلى تثبيت كل وضع قائم، وربما إعادة أوضاع كانت قائمة في عهود سالفة (كما هي الحال عند أفلاطون). صحيح إن هذا الاتجاه إلى استخدام العقل أداة للتغيير قد بدأت بوادره في الظهور منذ أوائل العصر الحديث، حين عمدت البورجوازية الصاعدة إلى إعلاء شأن العقل من أجل تأكيد مكانة الإنسان في هذا العالم، وإقرار دوره في تشكيل الطبيعة والتسيد عليها. ولكن هذا الاتجاه بأكمله قد غرق في خضم المثاليات التقليدية المتعددة التي لم تستطع أن تدرك الدلالة الحقيقية لسيادة العقل على العالم، وجعلت من هذه السيادة وسيلة لتجاهل الواقع والاكتفاء ببحث مطالب العقل وشروطه. وكان هيجل هو أول من أقام فلسفة كاملة، مترامية الأطراف، على أساس مبدأ دينامية العقل وقدرته على تجديد ذاته، وتجديد العالم معه، بلا انقطاع. وقد شيد هيجل هذه الفلسفة على أساس من المنطق أراد به أن يرسي دعائم نظريته الجديدة إلى العقل، فوضع منطقه الجدلي في مقابل المنطق الشكلي الأرسطي، أو على الأصح جعل من ذلك المنطق الأخير مجرد لحظة من لحظات بناء منطقي أوسع يضمن للفكر حركته من ناحية، ويزيل، من ناحية أخرى، ما بين عالم الصورة والشكل وعالم التجربة والواقع من حواجز.
وهكذا قدم ماركيوز تفسيرا جديدا لهيجل، لا يعود فيه هيجل آخر الفلاسفة التقليديين الكبار فحسب، ولا يعود فيه مذهبه آخر بناء عقلي شامخ شيدته الفلسفة الغربية فقط، بل يصبح فيه هيجل أول المعاصرين، ويغدو فيه تفكيره نقطة البداية التي تفرعت عنها مختلف الاتجاهات العقلية والسياسية والاجتماعية - التقدمية منها والرجعية - في عالم اليوم. •••
وعلى هذا النحو ذاته أعاد ماركيوز تفسير الفلسفة الوضعية، في اتجاهاتها المتعددة، على نحو يلقي عليها ضوءا جديدا لم ينتبه إليه من قبله أحد. والواقع أن نظرة ماركيوز إلى الوضعية كانت هي الوجه الآخر، المقابل لنظرته إلى هيجل. فإذا كان هيجل قد استطاع أن يجعل من العقل قوة ثورية بفضل قدرته على السلب والرفض، فإن الوضعية قد جعلت منه قوة محافظة لأنها تصورت أن مهمته الأولى هي تحليل ما هو موجود على ما هو عليه، وقبول الواقع واتخاذ موقفا إيجابيا منه. بل إن اسم الوضعية ذاته يعني، في الوقت نفسه، الإيجابية
؛ أي استبعاد كل اتجاه فكري رافض سالب. وربما اقترب هذا المعنى إلى ذهن قارئ العربية لو ربط بين لفظ «الوضعية» وبين «الوضع» الذي توجد عليه الأشياء في حالتها الراهنة، ومن هنا لم يكن من المستغرب أن تقف الفلسفة الوضعية - بكل أشكالها - موقف العداء من فكر هيجل ومن كل نزعة مستمدة أساسا من روح الهيجلية.
ولقد ركز ماركيوز جهوده، في نقده للوضعية، على وضعية القرن التاسع عشر في كتاب «العقل والثورة»، أما وضعية القرن العشرين، أو الوضعية المعاصرة، فقد وجه إليها نقده في الباب الثاني من كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد». وعلى الرغم من المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصل بين نوعي الوضعية هذين، بل تفصل بين كتابي ماركيوز اللذين أشرنا إليهما الآن، فليس من الصعب أن يهتدي القارئ إلى نقاط التقاء كثيرة بينهما تحدد الأساس المشترك للروح الوضعية في نظر ماركيوز.
لقد كان أعظم وأشهر نتاج لوضعية القرن التاسع عشر هو ذلك العلم الجديد الذي رأى فيه «أوجست كونت» خلاصة لكل المعارف البشرية السابقة، وهو علم الاجتماع. وكان هناك ارتباط وثيق بين مفهوم علم الاجتماع، كما تصوره كونت، وبين هدف الفلسفة الوضعية؛ فالمجتمع الإنساني ينبغي أن يدرس بنفس الأساليب الدقيقة المضبوطة التي تدرس بها العلوم الطبيعية. وهذا هدف يبدو في ظاهره مغريا لكل من يحرص على تقدم العلوم الإنسانية؛ إذ إنه يخضع المعرفة التي تتخذ من الإنسان موضوعا لنفس الشروط المنضبطة التي تخضع لها دراسة الطبيعة ويجعل لفكرة القانون الضروري الشامل انطباقا على مجال المجتمع البشري الذي ظل حتى ذلك الحين مستعصيا على كل قانون. ولكن قليلا من التعمق كفيل بأن يكشف، من وراء هذه الغيرة المتحمسة على المضي قدما بدراسة الإنسان، عن سعي خفي إلى الحيلولة دون وقوع أي تغيير ثوري في نظام المجتمع؛ إذ إن المطلوب، في دراستنا للمجتمع، أن نحذو حذو العالم الطبيعي، ومن المعروف أن العالم الطبيعي لا يخترع شيئا ولا يغير الظواهر التي يبحثها، بل يكتفي بتسجيل ما هو موجود منها، وتحليل الطريقة التي تسلك بها هذه الظواهر بالفعل. وهكذا ينبغي أن يكون الحال في أية دراسة «علمية» أو «وضعية» للمجتمع البشري؛ فعلينا أن نحلل الظواهر الموجودة، ونصفها بأكبر قدر من الدقة، على أن يتم ذلك كله في إطار وجودها كأمر واقع لا سبيل إلى الاعتراض عليه. أما محاولات الثورة على هذا الواقع أو تغييره من جذوره، فتوصف بأنها «غير علمية» - وهو وصف لا يعود غريبا ما دام الأنموذج الوحيد للعلم، في نظر الوضعية، هو أنموذج العلم الطبيعي.
ويقدم ماركيوز شواهد أخرى يدلل بها على صحة تحليله هذا للفلسفة الوضعية، ويثبت بها أن دفاع هذه الفلسفة عن الوضع الراهن ومحاربتها لكل دعوة إلى الثورة عليه ليس استنتاج نظري يستخلص من موقفها الفكري العام، وإنما هو اتجاه ظهر واضحا صريحا في كتابات الوضعيين أنفسهم. فهو يجمع عددا من النصوص والاقتباسات التي تدل دلالة واضحة على أن أوجست كونت كان في صميمه مدافعا عن النظام القائم، وكان عدوا لأي اتجاه إلى إدخال تغيير ثوري عليه.
7
ولقد كان ماركيوز بارعا حقا حين جمع هذه الاقتباسات واستطاع أن يهتدي إلى الخيط الجامع بينها، وهو الخيط الذي وصفه بأنه محافظ في أساسه. والحق أنه ليس هناك ما يدعو إلى الاستغراب في أن تجتمع النزعة العلمية الدقيقة والنزعة المحافظة في مركب واحد؛ ذلك لأن كل اتجاه ثوري أصيل كان يقتضي نوعا من الخروج عن معايير الدقة والإحكام، وعن الالتزام الدقيق بالأمر الواقع، فالتخيل وتكوين صورة عن المستقبل لا تستمد كلها من الحاضر، هو عنصر لا غناء عنه في كل محاولة لإدخال تغيير جذري على حياة الناس. وهذا العنصر هو بعينه ما تحاربه الوضعية باسم «العلم».
وعند هذه النقطة الأخيرة تلتقي وضعية القرن التاسع عشر بوضعية القرن العشرين؛ ذلك لأن الوضعية المنطقية المعاصرة، وما يرتبط بها من فلسفات تحليلية لغوية متعددة، تركز بدورها جهودها على أن تحقق للفكر الوضوح عن طريق الاستخدام الدقيق للألفاظ، والتحليل التشريحي للقضايا اللغوية، آملة بذلك أن تفصل بين ماله معنى وما يبدو كأن له معنى وهو في واقع الأمر ليس كذلك. والهدف النهائي، كما قلت، هو الدقة والوضوح - وهذا هو بعينه الهدف الذي كانت تسعى إليه وضعية القرن التاسع عشر، ولكن عن طريق الالتجاء إلى منهج العلم الطبيعي، لا المنهج التحليلي اللغوي. إن الهدف واحد، وإن اختلفت الوسائل، ولا بد أن يترتب على الاهتمام المفرط بالتحليل اللفظي إيجاد حاجز بين الفكر وبين الواقع، وتقوقع الفكر في مجاله الخاص موصدا نوافذه في وجه رياح التغيير التي تعصف بعالم الواقع؛ ذلك لأن من حق المرء أن يتساءل: وما هدف الوضوح آخر الأمر؟ هل الوضوح غاية في ذاته، كما يعتقد الوضعيون المحدثون؛ من الجلي أن الوضوح وسيلة لخدمة هدف آخر خارج عن مجال التحليل، بل خارج عن مجال اللغة بوجه عام. فهل يكون من الصواب أن نوصد هذا الباب أمام الفلسفة، لكي نقصر مهمتها على ضمان الوضوح اللغوي أو الفكري فحسب؟ لقد كانت الفلسفة، على مر عصورها، شيئا أجل من ذلك وأخطر. كانت على الدوام جهدا يبذله الإنسان من أجل فهم نفسه وعالمه، وتمهيد الطريق لتغيير ما يستحق أن يتغير من الظواهر المحيطة به.
8
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل لم تكن الفلسفة تتردد حتى في اقتحام مجالات غامضة تضطر من أجل التعبير عنها إلى استخدام تعبيرات لا تنطبق عليها كل شروط الوضوح، وتبدو كما لو كانت خلوا من المعنى. ولكن هذه بعينها هي المخاطرة التي تقدم عليها الفلسفة وهي تعلم ما يكتنفها من الصعوبات، ولو كانت الفلسفة تستهدف التعبير الدقيق الواضح وحده، ولأجل ذاته، لكانت مهمتها هينة ميسورة، ولكنها كانت ستحقق هذا الهدف على حساب قدرتها على خوض تجارب جديدة، وعلى استشفاف عالم المجهول، وتلمس الطريق إلى مستقبل لم تتحدد معالمه بعد.
إن الوضعية التحليلية فلسفة لا تعترف بالعلو أو التجاوز، هي فلسفة تعترف ضمنا بكل ما هو قائم وبكل ما هو واقع، لسبب بسيط هو أنها لا تقترب منه ولا تبذل أدني جهد من أجل تغييره، بل وتعد ذلك خروجا عن مهمة الفلسفة التي تقتصر، في رأيها، على تحليل عبارات اللغة - واللغة العلمية بوجه خاص - دون أن تتعرض لمضمون الفكر ولمشكلاته الفعلية من قريب أو من بعيد.
فإذا أدركنا أن كتابات الفلاسفة التحليليين هي ذاتها أبعد ما تكون عن الوضوح، وأن قراءتها تمثل جهدا شاقا للعقل الذي كانت تسعى في الأصل إلى أن تجعل كل شيء واضحا أمامه، تبين لنا أن هذه الفلسفة ترتكب خطأ مزدوجا إذ تعزل الفكر عن الواقع بعد أن ظل طوال تاريخه مشتبكا وملتحما به، وتفعل ذلك لحساب وضوح لا تبلغه قط.
إن الفلسفة في صميمها نقدية، وحتى في الحالات التي كانت الفلسفة تبدو فيها منطوية على ذاتها، محتمية داخل أسوار «الفكر الخالص» المنيعة (كما هي الحال في كثير من تيارات الفكر المثالي)، كانت الفلسفة تمارس نوعا خاصا من عملية تحرير الإنسان «في داخله»، وعلى المستوى الفكري وحده، تعوض به عدم قدرتها على التحكم في الواقع الخارجي. بل إن التجاء الفلسفة المثالية إلى العقل المجرد هو جزء من طبيعة الواقع الذي تظهر فيه هذه الفلسفة، وهو الواقع الذي يضطر فيه العقل إلى الانطواء على ذاته دون مساس بما يحدث في المجتمع. ومن هنا كانت أشد المذاهب المثالية تجريدا معبرة عن الواقع بمعنى ما؛
9
لأنها تحتمي بمجال العقل الخالص تعبيرا عن رفضها لهذا الواقع وسعيها إلى كشفه وفضحه على طريقتها الخاصة. أما الوضعية، بكافة أشكالها، فتقبل هذا الواقع على ما هو عليه، ولا تتخذ منه موقفا نقديا ولو بصورة ضمنية، وتتركه - من حيث المبدأ - سليما لا يمس. إنها قمة ذلك الاتجاه الأيديولوجي المستسلم للوضع القائم، الذي يرى ماركيوز أنه كان ملازما للمنطق الصوري منذ نشأته على يد أرسطو،
10
إذ إن كل اهتمام بالصورة وإغفال للمضمون يساعد المسيطرين على إحكام قبضتهم على زمام الأمور بتركه لمحتوى الحياة على ما هو عليه. •••
من هذه النماذج لطريقة ماركيوز في تفسير المفاهيم والمذاهب الفلسفية، يتبين لنا بوضوح أنه كان له، ككل فيلسوف ذي شأن، منهجه الخاص في النظر إلى التراث السابق عليه، فهو قد أعاد بناء هذا التراث من منظوره الخاص، وفسر الأفكار والمذاهب وفقا لنظرته الخاصة إلى العالم الذي يعيش فيه، وللدور الذي يود أن يقوم به في هذا العالم بوصفه مفكرا، وقد تكون هذه الطريقة غير مرغوب فيها بالنسبة إلى المؤرخ، الذي تعد الموضوعية فضيلته الرئيسية. أما في حالة الفيلسوف فإن تمثل الماضي من جديد لا يعد نقيصة على الإطلاق ، بل إنه ليبدو - من فرط شيوعه بين الفلاسفة - كما لو كان شرطا لكي يصبح المرء فيلسوفا له طريقه الخاص؛ فمعظم الفلاسفة الكبار مؤرخون سيئون للفلسفة، إذا حكمنا عليهم بمقياس التعبير الموضوعي عن آراء الغير؛ ذلك لأن الفيلسوف الذي يتسم بالأصالة لا يستطيع أن ينسى نفسه حتى وهو يسترجع آراء الآخرين؛ إنه لا يقبل أن يكون مرآة تنعكس عليها أفكار السابقين، بل يريد أن يتخذ من هذه الأفكار وسيلة أو أداة تتيح له أن يعبر عن الطريق الذي اختطه لنفسه على نحو لا تنقطع روابطه بتراث الفكر الماضي، وربما كان يريد أن يجعل من ذلك الماضي كله وسيلة لتبرير فلسفته وإثبات أن التاريخ بأسره يشير إليها ويتجه نحوها.
وليس من شك في أن عرض ماركيوز للتراث الفلسفي السابق عليه مليء بالمآخذ، وأن طريقة فهمه لهيجل والوضعيين، وكذلك لماركس وفرويد وهيدجر، لا ترضي الباحث المتخصص. ولكننا إذا أدركنا أن ماركيوز إنما أراد أن يعبر عن نفسه من خلال هؤلاء جميعا، لغدونا أكثر استعدادا لغفران أية أخطاء في تفسيره للآخرين، ولقبول وجهة نظر «نيكولاس» القائلة: «إن هرطقات ماركيوز هي حقيقة ماركيوز.»
11
Les hérésies de Marcuse sont la verité de Marcuse .
النقد الاجتماعي
لعل أبرز النقاط التي تلاقى فيها فكر ماركيوز مع الفلسفة الماركسية هي موقف هذه الفلسفة من مشكلة ماهية الإنسان - التي تمثل عند ماركيوز مشكلة أساسية كفيلة بتحديد الاتجاه العام لكل فلسفة، وبالكشف عن مدى تقدميتها أو رجعيتها - فالماركسية هي في رأيه فلسفة تقدمية لأنها لا تثبت الماهية الإنسانية عند أية لحظة معينة من لحظات تطورها، بل إن الإنسان يمكنه في كل لحظة أن يصبح على خلاف ما هو عليه، ومن ثم فإن الإنسان لا يفهم إلا في حركته الدينامية ولا يمكن أن يستوعب من خلال ما يكون عليه في أية لحظة بعينها، وبعبارة أخرى فليس هناك حد فاصل بين تاريخية الإنسان وبين تحقيق ماهيته، فحياة الإنسان في كل عصر معين تستهدف تحقيق شكل جديد، ومن ثم فهي لا تتحقق كاملة في أي شكل محدد من الأشكال التي تتخذها عبر التاريخ ، أو لنقل بلغة فلسفية إن الواقع والممكن متداخلان ، ومن المحال أن يفهم أحدهما من دون الآخر.
في الماركسية إذن نجد القطب المضاد لعالم الماهيات الأزلية الساكنة الذي يتم فيه تحديد حقيقة الإنسان - فضلا عن حقيقة الأشياء - مرة واحدة وإلى الأبد. فهي فلسفة تؤكد لنا أن البناءات التي يمكن أن تفهم من خلالها حقائق المجتمع لا تفهم في أية لحظة إلا فهما جزئيا، ومن ثم فإن تجاوز الواقع الراهن لهذا أمر لا بد منه من أجل فهم حقيقته المتطورة. هذه الحقيقة المتطورة هي التي تدفع المجتمعات البشرية في حركة لا تتوقف، تستهدف على الدوام إزالة المتناقضات التي تقتضيها كل مرحلة من مراحل الإنتاج، وترمي آخر الأمر إلى فهم الإنسان من خلال ما يستطيع أن ينجزه، لا من خلال ما أنجزه بالفعل. «هذا الفهم للماركسية - الذي كان في أساسه فهما هيجليا - كان يعني أن النظرية الماركسية ذاتها لا يمكن أن تكون تعبيرا عن حقائق أزلية، وإنما هي تصدق أساسا على مرحلة معينة من مراحل التطور، هي مرحلة النصف الثاني من القرن التاسع عشر.»
فالماركسي المخلص - في نظر ماركيوز - لا بد أن يطبق معيار التطور والتاريخية والتجدد الدائم على النظرية الماركسية ذاتها، وفي هذه الحالة يتعين عليه أن يمتنع عن تثبيت هذه النظرية في «عقيدة» جامدة يفترض أنها تسري على الصور اللاحقة جميعا، بل يجب أن يتأمل النظرية ذاتها في ضوء التداخل الذي تقول به بين الواقع والممكن. وفي هذه الحالة - أي حين نطبق على الماركسية معيارها الخاص - يصبح من الضروري أن نعيد تفسيرها في ضوء الظروف الدائمة التغير، وأن تخضع ماركسية القرن التاسع عشر لنقد مستمد من ظروف القرن العشرين. «لقد كانت الماركسية التقليدية تفترض تناقضا أساسيا هائلا يقوم في قلب المجتمع الرأسمالي، ويهيئ الظروف الموضوعية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، هو التناقض بين طبقة من أصحاب الأعمال تتزايد قوتها، وتعمل دائما على زيادة الإنتاج من أجل تكديس أرباحها، وتتركز فيها بالتدريج السلطة الاقتصادية التي تندمج مع السلطة السياسية، وتتحول آخر الأمر إلى رأسمالية الدولة؛ وطبقة عمالية تزداد فقرا نتيجة لحرص الرأسمالية على ضمان أرباحها، ولكنها تزداد في الوقت ذاته وعيا بوضعها الطبقي، وبأنها هي القادرة على تحقيق الثورة وعلى تجسيد آمال البشرية في مستقبل أفضل، ومن ثم فإنها تعمل تنظيم نفسها بطريقة واعية محكمة تكفل لها تحقيق هدفها في الثورة العالمية.» «على أن المسار الفعلي للأحداث، منذ بداية القرن العشرين، قد سار في اتجاه مختلف عن ذلك كل الاختلاف»؛ فالبلاد الرأسمالية الكبرى لم تزد فيها حدة التناقض بين الطبقتين الرئيسيتين، ومن ثم فقد أخذت تتباعد عن تحقيق الظروف المؤدية إلى قيام الثورة، والبلاد التي قامت فيها تجارب اشتراكية مرتكزة - من حيث المبدأ - على النظرية الماركسية، قد ابتعدت في سلوكها الفعلي ابتعادا شبه تام عن أصول هذه النظرية ومبادئها، ولم تحاول تطويرها على النحو الكفيل بمواجهة واقع دائم التغير.
وهكذا فإن الواقع قد تجاوز النظرية الماركسية التقليدية، سواء في المجتمعات التي أنكرتها أو في تلك التي اعترفت بها. ومن هنا كان من الضروري في رأي ماركيوز القيام بمراجعة لهذه النظرية في ضوء الظروف الراهنة. ولقد قام هو ذاته بهذه المراجعة، ولكن حصيلتها النهائية لم تكن في واقع الأمر تعديلا للنظرية، بل تغييرا شاملا لها، واستعاضة عنها بنظرية خاصة به، يعتقد أنها أكثر ملاءمة لواقع العالم المعاصر، وهي نظرية لم يحتفظ فيها من الماركسية إلا بالمبدأ العام الذي أشرنا إليه من قبل؛ وأعني به أن ماهية المجتمع الإنساني لا تنفصل عن تاريخه، وأن الواقع - في أية مرحلة من مراحل التطور - لا يفهم إلا في ضوء إمكاناته الكامنة التي لم تتكشف بعد، والتي يتعين على كل من يتصدى لدراسة المشكلات الاجتماعية أن يضعها في اعتباره عند أي تحليل يقوم به للوضع الراهن. (أ) نقد المجتمع الرأسمالي
كان القهر، وما زال، حقيقة أساسية من حقائق المجتمع البشري. غير أن أشكال القهر قد اختلفت باختلاف العصور، ويمكن القول إن أعجب أنواع القهر وأقواها تسلطا هي تلك التي تمارس في عصرنا الحالي؛ ففي العصور الماضية كان يمارس القهر والسيطرة طاغية أو حاكم مطلق، يعترف صراحة بأن تصرفاته لا تقوم على أساس من العقل أو المنطق، بل على أساس من الانفعالات الوقتية العابرة، أما في المجتمع الصناعي، الذي بلغ أقصى درجات تقدمه في البلاد الرأسمالية الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة، فإن الطغيان يمارس على أساس من المعقولية التامة، وفي ظل الحساب الدقيق لكل الظروف والاحتمالات، دون أن تتدخل فيه نزوات حاكم مستبد أو أهواء سلطة عنيدة.
1
ومن ناحية أخرى، فإن التسلط على الإنسان لم يكن حتى عهد قريب، بل حتى ما قبل الحرب العالمية الثانية على وجه التحديد، يمتد بحيث يهدد حرية الإنسان الداخلية، بل كانت هذه الحرية تعد أساسية لدى الفرد ولا يحاول المجتمع المساس بها. «فلم تكن القوى الإنتاجية قد بلغت بعد مرحلة التطور التي أصبح فيها بيع نواتج العمل الاجتماعي يقتضي تنظيما للحاجات والرغبات، حتى العقلية منها، فعندما كان المجتمع البورجوازي على مستوى منخفض من حيث قواه الإنتاجية، لم تكن توافرت لديه بعد الوسائل التي تتيح له التحكم في الروح والعقل إلا إذا شوه هذا التحكم ووصمه عن طريق العنف الإرهابي. أما اليوم فإن التحكم التام ضروري، ووسائله متوافرة: الإرضاء الشامل للجماهير، وأبحاث التسويق، وعلم النفس الصناعي، ورياضيات العقول الإلكترونية، وما يسمى بعلم العلاقات الإنسانية. وبفضل هذه الوسائل كلها يتم تحقيق الانسجام والتناسق بين الفرد والرغبات الضرورية للمجتمع؛ أي بين الاستقلال والخضوع، بطريقة غير إرهابية، ديمقراطية، تلقائية آلية.»
2
الجديد، إذن، في نوع القهر الذي يمارس على الإنسان في مجتمعنا أنه أولا قهر عقلي منطقي، يندمج تماما مع المقومات الأساسية للتنظيم الاجتماعي، وليس عقبة في وجه هذا التنظيم أو حالة انحراف انفعالي عابرة، وأنه ثانيا قهر يمارس على الإنسان كله، على حياته الباطنة وعلى تفكيره وعقله وعواطفه بقدر ما يمارس على مظاهر حياته الخارجية وظروف عمله وإنتاجه وعلاقاته الاجتماعية، وتلك هي قصة القضاء على إنسانية الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث. فلنتابع من خلال كتابات ماركيوز، وخاصة كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد»، بعض تفاصيل هذه القصة.
إن المجتمع الصناعي الحديث، الذي يقتضي تنظيما إداريا بالغ الدقة والإحكام، يسيطر على الإنسان بنفس أساليب الإدارة المحكمة التي يسيطر بها على عملية الإنتاج، وتترتب على هذه السيطرة أنواع من الاغتراب العقلي والثقافي، تشكل دعامة أساسية للسيطرة الاقتصادية في نفس الوقت الذي تعد فيه نتيجة لها.
فالإنسان الحديث يستعبد باسم العقل - نفس العقل الذي يقوم بتنظيم الإنتاج وتوزيعه في العالم الرأسمالي. ولما كان هذا الاستعباد قائما على العقل، ومرتبطا بالازدهار الاقتصادي الذي تتمتع به المجتمعات الصناعية المتقدمة، فقد غدا - لأول مرة في تاريخ البشرية - استعبادا مقبولا، بل استعبادا يحرص عليه، ويدافع عنه، ضحاياه أنفسهم؛ ذلك لأن هؤلاء الضحايا هم الذين يستهلكون منتجات المجتمع الصناعي ومن ثم فإنهم هم الذين يحافظون عليه، ويعملون على ضمان استمراره.
والواقع أن الإدارة، التي تتحكم في العمليات الاقتصادية، أصبحت في عصرنا الحاضر أكمل وسائل السيطرة على البشر والتحكم فيهم، بحيث غدت أفضل المجتمعات إدارة هي أكثرها عبودية. ولقد أصبح من الضروري في عصرنا هذا أن ترتبط عملية الترشيد المتزايد للإنتاج باستعباد متزايد للإنسان، ويزداد هذا الاستعباد فظاعة حين لا يتخذ صورة إدارة منظمة فحسب؛ ذلك لأنه يطالب لنفسه عندئذ، باسم السعي إلى مزيد من التنظيم، وباسم العقل والترشيد، بسلطة أعظم وبمجال أوسع للقهر والتسلط.
وهكذا يرتبط القهر المتزايد بالارتفاع الكبير في مستوى المعيشة - في المجتمع الصناعي المتقدم - بعد أن كان من قبل يرتبط بالفقر والعجز عن تلبية الحاجات الضرورية. كما يرتبط ذلك القهر بسيادة العقلانية، بل وبالسعي إلى الحرية، وكأننا هنا إزاء مظهر من مظاهر «دهاء العقل» وخداعه، على نحو ما تحدث عنه هيجل؛ فالعقل يخدع ذاته، ويقع في شراك نصبها لنفسه، حين يجعل من التنظيم العقلاني وسيلة لممارسة الاضطهاد على ضحايا يقبلون اغترابهم عن طيب خاطر، ويعملون بإخلاص على دعم الظروف التي تزيد من اضطهادهم، وحين ينظم حكم الحرية على نحو يقضي فيه تماما على أي احتمال لظهور الحرية.
3
ولنضرب مثلا لهذا الخداع الذاتي الذي يمارسه العقل في المجتمع الصناعي المتقدم؛ فالتهديد بالفناء الذري. في عصرنا الحالي يستخدم في المحافظة على نفس القوى التي تسبب هذا التهديد، بحيث تنصرف الجهود كلها إلى درء الخطر والإقلال من التهديد، لا إلى إزالة الأسباب المؤدية إليه. وتقوم الدول سلميا بإنتاج وسائل الدمار، ويثري المجتمع ويزداد قوة وضخامة بفضل محافظته على الخطر، والحياة على حافة الهاوية. ولا جدال في أن هناك لا معقولية واضحة في هذا السلم الذي يحافظ عليه بالتهديد المستمر بالحرب.
على أن أبرز صفات هذا المجتمع الصناعي المتقدم هي قدرته الفائقة على امتصاص قوى السخط والتمرد في داخله، وتحويله إلى قوى تعمل على إبقاء الوضع القائم وتجد لنفسها مصلحة في استمرار هذا الوضع. هذا هو الجديد في عصرنا الحاضر بالقياس إلى العصر الصناعي الأول في القرن التاسع عشر. فالطبقتان المتضادتان، البورجوازية والبروليتاريا، أصبحت لهما معا مصلحة في الإبقاء على الأوضاع الراهنة، بحيث لم تعد الطبقة العاملة، في المجتمع الرأسمالي، أداة أو واسطة للتغيير الاجتماعي. وتتحقق السيطرة في المجتمع «ذي البعد الواحد» عن طريق استبعاد كل إمكانية لإحداث تغير كيفي في الأوضاع، وذلك بإدماج المعترضين (أي الطبقة العاملة) في النظام، واستيعاب المجتمع لكل من يستطيع - نظريا - أن يضع النظام السائد موضع الشك والتساؤل؛ ففي المجتمع الرأسمالي المتقدم يتحول المعارضون إلى مستهلكين لنفس نواتج هذا المجتمع، وبذلك تكون لهم مصلحة مباشرة في استمرار النظام؛ لأنه يلبي حاجاتهم الأساسية، ويخلق فيهم حاجات مصطنعة يقتضيها دوام النظام، وبذلك تكتمل حلقات السيطرة، حين يصل التنظيم الاجتماعي إلى تلك المرحلة التي يستوعب فيها داخله كل إمكانات الاحتجاج والمعارضة والتمرد.
والواقع أن الوفرة التي تحققها التكنولوجيا الحديثة تجعل التشكك في الوضع الراهن أو التمرد عليه أمرا لا معنى له. وبفضل هذه التكنولوجيا المتقدمة يتجه النظام الرأسمالي الحديث إلى أن يكون «شموليا» - لا بمعنى أنه قائم على الإرهاب؛ إذ إن هناك نوعا من الشمولية غير القائمة على الإرهاب، يتمثل في التحكم في حاجات الناس وصبغها بصبغة نمطية بهدف خدمة المصالح القائمة، هذه الشمولية لا تتحقق على يد حزب سياسي معين، كالحزب النازي (قبل الحرب العالمية الثانية مثلا)، بل تحققها طريقة معينة في الإنتاج والتوزيع، يمكن أن تسود في ظل نظام تعددي (كالنظام الأمريكي) يسمح نظريا بحرية الصحافة وتعدد الأحزاب ... إلخ، ونتيجة لهذه الشمولية يستغرق النظام الإنتاجي الفرد بأكمله؛ فالفرد يندمج في مجتمعه اندماجا كاملا، لا يسمح له بأن يحتفظ لنفسه ببعد داخلي أو باطني خاص به، بل يصبح «ذا بعد واحد»، هو البعد الذي يريده النظام الاجتماعي القائم، والذي يتوحد به توحدا تاما. ومن الجدير بالذكر أن عملية التوحد التام بين الفرد والمجتمع، تناظر ما نجده في المجتمعات البدائية؛ حيث لا يكون للفرد أي بعد سوى البعد الاجتماعي. وهكذا يدور التاريخ دورة كاملة من التوحد إلى التمايز ثم التوحد مرة أخرى، ولكن على مستوى أعلى. ولا جدال في أن فقدان البعد الذهني الباطن يعني ضياع القدرة على معارضة النظام القائم، واستخدام ملكة الرفض والنفي والنقد، التي هي الملكة الأصلية للعقل البشري. وبذلك يبتلع الإنسان بأكمله في عملية الإنتاج التي تستهدف أولا وأخيرا دعم المصالح القائمة وزيادة فعاليتها.
إن المنتجات ذاتها، ووسائل الإعلام الجبارة، والسلع المخصصة للمسكن والملبس والمأكل وأدوات الترفيه البارعة، تحمل معها اتجاهات وعادات مفروضة مقدما، وتؤدي إلى استجابات ذهنية وانفعالية تربط المستهلك بالمنتج وبالمجتمع ككل. فالمنتجات تسيطر وتبث عقيدة معينة، وتبعث وعيا زائفا لا يدرك أحد زيفه. وبانتشار نفع هذه المنتجات بين طبقات اجتماعية أوسع، تصبح عقيدتها أسلوبا في الحياة لا مجرد دعاية، ويحارب أسلوب الحياة هذا كل دعوة إلى التغيير الاجتماعي، ونتيجة لانعدام أفكار التغيير، يصبح الفكر والسلوك ذا بعد واحد، ترفض فيه الأفكار والأماني التي تتجاوز نطاق ما هو موجود.
في مجتمع كهذا يطرأ تغيير أساسي على طبيعة كل من الطبقتين الرئيسيتين في المجتمع: الطبقة الرأسمالية، والطبقة العمالية ولا تعود أي منهما تحمل ملامح التحليل التقليدي للطبقات الاجتماعية كما شاع في القرن التاسع عشر، على يد ماركس بوجه خاص.
فالطبقة الرأسمالية: تقليديا، طبقة ليبرالية بطبيعتها تزدهر في ظلها الحريات البورجوازية المعروفة: حرية الرأي، والكلام، والتجمع، وتكوين الأحزاب والمعارضة ... إلخ، وتلك هي المزايا التي جعلت المرحلة الرأسمالية تمثل تقدما كبيرا بالقياس إلى المرحلة الإقطاعية السابقة عليها. غير أن هذه المزايا، في المجتمع الرأسمالي المتقدم تلغي نفسها بنفسها، بل تتحول إلى عيوب. فالتعددية، التي تتمثل في وجود كثرة من الآراء والاتجاهات والأحزاب، تتحول بالتدريج إلى واحدية، ولا يبقى منها في النهاية إلا مظهرها الخارجي، فيكون هناك مثلا حزبان - أو أكثر - ولكن المواقف في نهاية الأمر واحدة، والعناصر المشتركة غالبة على عناصر الاختلاف؛ لأن الكل مهما اختلفوا في التفاصيل الشكلية - متفقون على محاربة أي تغيير حقيقي يراد إدخاله على المجتمع.
فماذا يكون إذن موقف مجتمع كهذا من مبدأ «التسامح» الذي هو مبدأ أساسي في الرأسمالية التقليدية؟ إن هذا المجتمع يظل يقبل المبدأ ذاته، ولكنه يحوله ببراعة شديدة إلى سلاح للمحافظة على كيانه والقضاء على كل معارضة حقيقية. وقد تتبع ماركيوز عملية التحويل والتزييف هذه ببراعة في المقال الذي ألفه في كتاب مشترك يحمل عنوان «نقد التسامح الخالص»، فأكد أن التسامح المطلق الذي يسمح فيه لكل رأي بالتعبير عن نفسه، بحيث يتساوى الحق والباطل، والصحيح والمزيف، والبناء والهدام، والتقدمي والرجعي، هو سلاح يخدم الرأسمالية ولا يلحق بها أي ضرر. ففي ظل هذه المساواة المطلقة تضيع قضية التقدم الإنساني وتزيف، ويتميع الموقف العام للمجتمع إزاء ضروب الاختيار العديدة التي يتعين عليه أن يتخذ قرارا بينها.
وعندما يكون الرأي العام مسمما بفعل وسائل الإعلام التي يملكها أو يسيطر عليها النظام القائم، ويكون لدى الجمهور رأي جاهز سلفا في المسائل الكبرى - رأي يتفق مع ما تريده «المؤسسة
Establishment » فعندئذ تضيع قيمة الحرية المطلقة التي تتمتع بها الصحافة مثلا، ولا يكون هناك جدوى من عرض الرأي والرأي المضاد؛ لأن أذهان الجماهير مهيأة سلفا لقبول ما يتفق مع موقف النظام القائم، بحيث لا تكون هناك منافسة حقيقية بين الرأيين. وهكذا يختفي وراء هذا التسامح المطلق عدم تسامح اضطهادي، ويظهر شكل جديد فريد، من أشكال القضاء على الحرية، هو ذلك الذي تنعدم فيه الحرية نتيجة لعملية منح الحرية ذاتها ويزيد فيه القمع كلما ازداد التسامح.
أما الطبقة العمالية فإن التغيير الذي يطرأ عليها، في المجتمع الرأسمالي المتقدم، أخطر بكثير. فالمفروض، حسب النظرية الماركسية التقليدية، أن هذه الطبقة تزداد فقرا على الدوام كلما ازداد الإنتاج الرأسمالي واشتدت المنافسة بين المنتجين؛ إذ إن القيمة الفائضة تنقص ولا بد أن يأتي هذا النقص على حساب العمال، لا على حساب أصحاب الأعمال. وهكذا يشتد التناقض بين الرأسماليين الذين يزدادون قوة وسيطرة وثراء، والعمال الذين يزدادون فقرا وسخطا على أوضاعهم. ويؤدي هذا التناقض إلى ظهور وعي طبقي لدى العمال، يدفعهم إلى تنظيم أنفسهم سياسيا، حتى يصل هذا الوعي، في حالة وجود تنظيم سياسي محكم، إلى مستوى العلو على الذات؛ أعني أن الطبقة العمالية لا تكتفي بالعمل من أجل إصلاح أوضاعها الطبقية الخاصة، بل تنظر إلى نفسها على أنها ضمير الإنسانية كلها، وعلى أنها الطبقة القادرة على تخليص البشرية من مظاهر الظلم والشقاء.
هذا هو الوضع الذي تفترضه الماركسية في صورتها التقليدية، ولكن التطور الفعلي الذي حدث في المجتمع الرأسمالي، منذ مطلع القرن العشرين بوجه خاص، أدى إلى إدخال تغيير جذري على الطبقة العاملة وموقفها من النظام الرأسمالي القائم. وكان من أهم أسباب هذا التغيير عاملان رئيسيان طرآ على النظام الرأسمالي خلال هذه الفترة: أولهما قدرة هذا النظام على تحقيق نوع من الاستقرار يجنبه الأزمات والتقلبات المفاجئة، وكان ذلك واضحا منذ اللحظة التي دخلت فيها الرأسمالية المرحلة الاحتكارية، حين حل التنافس المنظم محل التنافس العشوائي الحر، وأصبحت السيطرة لكارتلات وترستات تجمع بين عدد كبير من المنتجين الذين كانوا من قبل متنافسين، وحدث اندماج بين الخبرة المالية والخبرة الصناعية، وبين رجال السياسة ورجال الأعمال؛ أي بالاختصار، حين انتقلت الرأسمالية من مرحلة المشروع الفردي المغامر إلى مرحلة النظام المستقر الذي يسيطر - عن طريق الاقتصاد - على كافة مرافق المجتمع. وأما العامل الثاني فهو تأثير التكنولوجيا الحديثة، التي أدخلت على العمليات الإنتاجية تحسينات، في الكم والكيف، لم يكن من الممكن التنبؤ بها، وانسحب تأثير هذه التحسينات على العمل اليومي الذي يمارسه العمال، مما أدى إلى الإقلال باستمرار من مجهودهم الجسمي، وإلى إزالة الفوارق بالتدريج بين العمل اليدوي وبين العمل المكتبي، أو بين أصحاب «الياقات الزرقاء» وأصحاب «الياقات البيضاء». ففي المصنع الذي تدار آلاته بطريقة التسيير الذاتي (الأتمتة)
automation
لا يعود العامل هو ذلك الإنسان المجهد الكادح الذي تحدث عنه ماركس، ولا يعود الألم الجسمي والشقاء جزءا لا يتجزأ من حياته، ومن ثم كان من الضروري أن تقل، ثم تختفي، أسباب تمرده.
فإذا أضفنا إلى ذلك قدرة التكنولوجيا الحديثة على الإنتاج الوفير، الذي يعود جزء منه إلى العمال في صورة مستوى معيشة مرتفع يساعد بدوره على دعم النظام الرأسمالي؛ لأن مظهر ارتفاع مستوى المعيشة هو أن يشتري العمال منتجات المجتمع الرأسمالي ويكونوا أداة من أدوات تصريفها - أمكننا عندئذ أن نفهم كيف أن العمال أصبحوا، في المجتمع الصناعي المتقدم، وسيلة لدعم النظام القائم، وأصبحت عملية الإنتاج، التي ترفع مستوى معيشتهم، هي نفسها العملية التي تعمل على زيادة اندماجهم في هذا النظام، وبالتالي على زيادة خضوعهم له. وبالاختصار، فقد أصبحت للعمال في مثل هذا المجتمع مصلحة في بقاء النظام وازدهاره، ومن ثم فقد تم - بطريقة سلمية بحتة - تقليم أظافرهم الثورية، والقضاء على روح التمرد والثورة فيهم.
هذا على المستوى الواعي، أما على المستوى غير الواعي، فإن هذه التكنولوجيا الحديثة ذاتها تسهم في إنتاج نوع خاص من الثقافة يعمل بدوره على توطيد أركان النظام القائم، إذ ينشر بين الطبقة العاملة قيم الرضوخ والاستسلام، ويقدم إليهم في أوقات فراغهم ترويحا سطحيا تتغلغل فيه المعاني التخديرية التي يريد النظام أن يبثها في النفوس، مما يترتب عليه إضعاف موقف الرفض أو السلب لدى العامل، بحيث يختفي نهائيا عن الطبقة العاملة مظهرها القديم الذي كانت تعد فيه «النقيض الحي» للمجتمع القائم. (ب) نقد المجتمع السوفيتي
يكشف تحليل ماركيوز للمجتمع الرأسمالي، بوضوح، عن اعتقاده باستحالة حدوث تغيير ثوري في هذا المجتمع على يد القوى الراهنة التي تسيطر على هذا المجتمع. وهكذا كتب على الإنسان العامل في هذا المجتمع أن يظل عبدا راضيا، مرتاحا، يعمل - بوعي أو بلا وعي - على إحكام سيطرة القائمين باستعباده.
ولقد كانت التجربة السوفيتية، في العقد الثاني من هذا القرن، مبعث الأمل لدى الكثيرين في أن يظهر نظام آخر تختفي فيه نهائيا مظاهر الاستغلال، وتزول فيه أساليب السيطرة المادية والمعنوية على الإنسان، وتتحقق فيه - لأول مرة - حرية حقيقية للبشر، ولكن ماركيوز يعتقد أن هذه التجربة لم تحقق شيئا من هذه الأهداف وإنها، على العكس مما تدعي، قد تنكرت للمبادئ الأصلية التي قامت من أجل وضعها موضع التنفيذ.
ومن الجدير بالملاحظة أن ماركيوز، في نقده للتجربة السوفيتية، يحرص على أن يؤكد أنه لا ينقد التجربة الاشتراكية في ذاتها؛ لأنه يعتقد أنه اشتراكي على طريقته الخاصة، بل إنه لا يوجه هجومه إلى الماركسية، وإنما يهاجم شكلا معينا من أشكالها، هو الماركسية السوفيتية على التخصيص (باعتبارها أقدم التجارب الاشتراكية وأشدها رسوخا، وبوصفها القوة الكبرى المقابلة للرأسمالية المتقدمة كما تتمثل في الولايات المتحدة)؛ ذلك لأن لدى ماركيوز تفسيره الخاص للماركسية، الذي يؤمن بأن التطبيق السوفيتي قد أدى إلى تشويهه. ومن هنا كنا نجد في كتاباته، ولا سيما كتاب «الماركسية السوفيتية» ميلا إلى المقارنة الدائمة بين التجربة الأمريكية والتجربة السوفيتية، وإصرارا على تأكيد وجود أوجه شبه قوية بين النظامين، على الرغم مما بينهما من تضاد ظاهري، ومحاولة ملحة لإثبات أن «الجنة السوفيتية» ليست على الإطلاق أفضل من «الجحيم الأمريكي الرأسمالي» بل إنها تتضمن كل عناصر القمع والاستبداد والتحكم في الإنسان، التي ينطوي عليها المجتمع الرأسمالي (مضافا إليها - بالطبع - أن الاستبداد في حالة هذا المجتمع الأخير يمارس في إطار ظاهري مخفف من الحريات الليبرالية، ومن خلال إغراق الطبقة الثورية المحتملة في النعم الاستهلاكية التي يفتقر إليها، في معظم الأحيان، من يعيشون في ظل النظام السوفيتي).
إن النظام السوفيتي كان يستهدف من الثورة إعادة تشكيل المجتمع وفقا لمقتضيات العقل، وإزالة التناقض بين الطابع الاجتماعي لعملية الإنتاج (وهو طابع لا بد منه لأن عملية الإنتاج تفترض بطبيعتها اشتراك صاحب العمل بآلاته والعامل بقوته والمجتمع بأسره في انتفاعه من الناتج) والطابع الفردي لملكية الثروة - وتلك هي الأهداف الفعلية للنظرية الماركسية في صورتها الأصلية. ولكن الذي حدث بالفعل هو أن النظام السوفيتي أخذ يتباعد بالتدريج عن التعاليم الماركسية، حتى أصبح نظاما قائما بذاته، ينبغي أن يحكم عليه بمعزل عن النظرية الأصلية التي ظهر في ظلها. ومع ذلك فقد ظل يستخدم الصيغ الماركسية التقليدية كشعارات سحرية يخلب بها ألباب المواطنين، ويخدر بها عقولهم حتى تنتشر بينهم روح المسايرة والرضوخ، وهي نفس الروح المميزة لإنسان المجتمع الرأسمالي المتقدم.
ولقد وقع النظام السوفيتي في فخ السعي إلى التفوق الإنتاجي، فكانت النتيجة أن تكررت فيه نفس الأخطاء التي تولدت عن هذا السعي في المجتمع الرأسمالي؛ فالهدف الذي يتجه إليه المجتمع السوفيتي، بكل قواه، هو تجاوز معدلاته الإنتاجية باستمرار حتى يلحق بالغرب ثم يتفوق عليه، وحين تصبح الزيادة الإنتاجية غاية قصوى، يتحول الإنسان ذاته إلى مجرد أداة لتحقيق الهدف الأسمى، وتخضع جميع الاعتبارات الإنسانية لتنفيذ التخطيط الشامل. ومن الضروري أن يؤدي استهداف الزيادة الإنتاجية إلى وضع نظام إداري يتسلط على كافة جوانب الحياة، فهنا تصبح السيطرة لكبار رجال الإدارة؛ أي البيروقراطيين، ولكبار الفنيين المختصين في العمليات الإنتاجية؛ أي «التكنوقراطيين» ويضيع الإنسان نفسه ويغترب بين هؤلاء وأولئك.
فالفرد العامل، الذي ينتج مباشرة، تقوم بينه وبين السلطة حوائل وحواجز، تتمثل في مجموعات كبيرة من المديرين والفنيين الذين يملكون زمام السيطرة على كل الأمور، بحيث يتحول هذا العامل إلى وسيلة في يد قوى أعلى منه - كما هي الحال في النظام الرأسمالي - لا إلى غاية في ذاته، كما كان المأمول في الماركسية الأصلية.
إن العامل في ظل الرأسمالية يغترب حين يعجز عن الاهتداء إلى ذاته، وإلى الهدف من عمله، في ظل قوى لا شخصية مجهولة، هي قوة رأس المال، وتقلبات «السوق»، والمضاربات، وكلها قوى تؤدي إلى تحويل حصيلة عمله في طرق ومسالك لا يعرف عنها شيئا، وإلى التصرف فيها على نحو لا دخل لإرادته فيه. ومثل هذا يحدث في النظام السوفيتي، وإن اختلف نوع القوى التي تسبب هذا الاغتراب. فأساس الاغتراب في هذه الحالة هو «الخطة» التي تشكل بدورها عاملا لا شخصيا مجهولا ينبغي أن يخضع له كل فرد في المجتمع وإن لم يكن يستطيع أن يحدد نوع الالتزامات التي ستفرضها عليه، أو أن يتنبأ بما ستلقيه عليه من مسئوليات. إن الخطة نوع من التنظيم الأعلى الذي يفرض على كل فرد، ويمارس على الجميع نوعا من الإرهاب غير المنظور. وهي أقوى الوسائل التي يستخدمها البيروقراطيون الاقتصاديون والسياسيون في السيطرة على المجتمع، والحيلولة دون اشتراك الأفراد مباشرة في تنظيم إنتاجهم بصورة تكفل لهم الشعور عن وعي بثمرة جهدهم.
وهكذا يسهم التخطيط الشامل في زيادة سلطان الترشيد التكنولوجي، ويشكل بدوره سلاحا من أسلحة الإرهاب والقضاء على تلقائية الفرد، ويتقارب النظام السوفيتي مع الرأسمالية المتقدمة في خلق إنسان ذي بعد واحد، هو البعد الذي تحتاج إليه الخطة، والذي يسهم في تحقيق المعدلات الإنتاجية المطلوبة، دون اعتبار لأي عامل آخر.
بل إن الصراع بين النظامين السائدين في البلدين الكبيرين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، هو ذاته عامل يؤدي إلى تثبيت الأوضاع غير الإنسانية في كلا النظامين. فالمفروض أن هذا الصراع جزء من الديالكتيك التاريخي الذي يؤدي، في نهاية الأمر، إلى إزالة التناقض بين النظامين لصالح تقدم الإنسانية، بحيث لا يحتفظ من النظامين إلا بما يسهم في خلق أوضاع أفضل. ولكن الذي يحدث بالفعل عكس ذلك.
فالاتحاد السوفيتي يعجز عن المواءمة بين الأساس الأيديولوجي النظري لسياسته، وبين الواقع الفعلي الذي يظهر بمزيد من الوضوح يوما بعد يوم. فهو؛ على المستوى النظري، لا يزال ينظر إلى البروليتاريا على أنها طبقة واحدة ينبغي أن تتحد كلها، بغض النظر عن أية اختلافات في المستوى الاقتصادي، للقضاء على استغلال النظام الرأسمالي. وفي مقابل هذه النظرة «الدولية» إلى الطبقة العمالية، يشهد الواقع بحدوث تحول أساسي في البروليتاريا، جعل جزءا كبيرا منها يتحول إلى فئة غير ثورية مندمجة في النظام الرأسمالي المستغل على نحو يوحي بوجود اتحاد في المصالح بين العمال وبين بقاء النظام القائم. وهكذا طرأ على فكرة «التناقض» بين العمال والرأسماليين تغير أساسي، لم تعترف به الأيديولوجية السوفيتية نظريا. ومما يزيد الأمر تعقيدا أن الممارسة السياسية للاتحاد السوفيتي، بوصفه دولة (لا بوصفه نظاما يطبق أيديولوجية معينة) تضطره إلى الاعتراف - ولو بصفة جزئية - بهذا الواقع القائم، وبأن الصراع الدولي ليس صراعا بين طبقتين متناقضتين يتخطى حواجز السياسية القومية، وإنما هو إلى حد معين على الأقل، صراع بين «دول» لها مصالح متكاملة محددة.
أما في الجانب الآخر فإن الولايات المتحدة تستغل الصراع بينها وبين الاتحاد السوفيتي أحسن استغلال، بحيث أصبحت تجني نفعا من وجود هذه القوة المنافسة لها (بعكس ما كان متوقعا). فكلما أحرز الاتحاد السوفيتي تقدما في مجال ما، استغلت الرأسمالية هذا التقدم في شحذ قواها من أجل إحراز تقدم مناظر، أو من أجل الاحتفاظ بتفوقها. كذلك فإن حدة المنافسة أفادت في استمرار اقتصاديات الحرب فترة أطول مما ينبغي بعد انتهاء الحرب، ومن المعروف أن الرأسمالية هي المستفيدة دائما من توجيه الاقتصاد في خدمة الأغراض الحربية. ويمكن القول بوجه عام إن وجود «العدو» هو جزء من الأسلوب الدفاعي الذي يحمي به النظام الرأسمالي نفسه، ويحافظ به على وجوده. وكما أفلحت الرأسمالية في تحويل التناقض بينها وبين الطبقة العاملة في الداخل لصالحها، كذلك أفلحت في تحويل التناقض بين المعسكرين الدوليين في اتجاه تعبئة قواها الخاصة وإسكات صوت المعارضة في داخلها وتحقيق الازدهار في اقتصادها. وهكذا يكون من الضروري لها أن تحتفظ. بصورة «العدو» حية أمام الشعب حتى تحافظ على استغلالها له؛ أي إنها تحول التناقض إلى سلاح يخدمها ويساعد على بقائها بدلا من أن يسهم في هدمها.
4
مقومات الحضارة الجديدة
يحتل النقد السلبي الجانب الأكبر من تفكير ماركيوز ويشغل العدد الأكبر من صفحات كتبه. وليس هذا بالأمر المستغرب؛ إذ إنه لا يقتصر على نقد نظام بعينه، بل إنه ينقد كل النماذج الموجودة، سواء منها الرأسمالية أو الاشتراكية كما هي قائمة بالفعل. وهو يرى أن «أحادية البعد» هي مرض العصر، أو هي المظهر الرئيسي لضحالة الإنسان وغفلته، وللانحراف والتشويه الذي طرأ على حياته، فالإنسان «ذو بعد واحد» في المجتمع الرأسمالي المتقدم، وفي التطبيقات الاشتراكية الكبرى في العالم المعاصر. إن البعد الواحد باختصار، هو سمة الحضارة الحديثة في أشد صورها تقدما واكتمالا.
على أن ماركيوز لا يقف عند حد تشخيص أمراض الحضارة الحديثة، وإنما يعرض تصوره الإيجابي لحضارة أخرى تحقق للإنسان أبعاده المتعددة، وتكتمل فيها مقومات الحياة الحقة. وبطبيعة الحال فلا بد لبلوغ هدف كهذا من مراجعة شاملة للطريق الذي ظل الإنسان يسلكه حتى اليوم، وللأهداف التي ظل يبذل الجهد ويتحمل العناء من أجل تحقيقها؛ ذلك لأن الإنسان الحديث كان يسلم بأمور معينة يظنها بدهية مع أنها قابلة للمناقشة، بل إنها ربما كانت أصل البلاء الذي يعيش فيه. ومعنى ذلك أن الحضارة الحديثة بأسرها تظن أن المبادئ التي تقوم عليها مطلقة، مع أنها في واقع الأمر مبادئ نسبية يمكن الخروج عليها، وربما كان خلاص الإنسان الحديث يكمن في قدرته على تجاوزها. «إن الأسس التي ترتكز عليها الحضارة الحديثة هي زيادة الإنتاجية والتقدم التكنولوجي.» وهذه أسس تفرض مقدما دون مناقشة. وهي تتخطى الانقسامات الأيديولوجية، إذ إنها هي الغاية القصوى في كل من النظامين الرأسمالي والاشتراكي كما يعيشان بيننا اليوم، ويعتقد ماركيوز أن التشخيص الحقيقي لمرض العصر الحديث هو أن الإنسان يعيش فيه متلهفا على الإنتاجية الزائدة، لاهثا وراء الكشوف والاختراعات التكنولوجية المتجددة أبدا، وبذلك يضع الوسائل موضع الغايات؛ ذلك لأن على الإنسان أن يدرك أن الإنتاج والتكنولوجيا مجرد وسائل. وعليه أن يتساءل: لأي غرض ينبغي أن أزيد من إنتاجي؟ وما هي الغاية التي سأستخدم من أجلها التجديدات التكنولوجية؟ ومع ذلك فإن هذه الأسئلة، على بساطتها، لا تطرح في العصر الحديث، بل ينقاد الإنسان لرغبته العمياء في التفوق في سباق الإنتاج والاختراع وكأنه مسوق بقوة قدرية غامضة قد تؤدي به في النهاية إلى حتفه.
على أن من الضروري أن ننبه، بادئ ذي بدء، إلى أن ماركيوز لا يستهدف دعوة الإنسان الحديث إلى التنازل عن تقدمه الاقتصادي والتكنولوجي؛ فهو لا ينتمي إلى ذلك النمط من المفكرين الذين ينادون بالعودة إلى عصور ما قبل الصناعة وما قبل التكنولوجيا، ويتصورون أن سعادة الإنسان الحقيقية إنما تكون في العودة إلى الارتباط المباشر بالطبيعة البريئة، بل إن المجتمع الإنساني الذي يحلم ببلوغه يفترض وجود مستوى عال إلى أبعد حد من القدرة الإنتاجية ومن التقدم التكنولوجي. ولكن المهم في الأمر أنه يدعو إلى وضع هذه الاعتبارات الاقتصادية والفنية حيث ينبغي أن تكون؛ أعني بوصفها وسائل تخدم غايات تعلو عليها - غايات لم تصل إليها، ولا يمكن أن تصل إليها، الإنسانية الحالية المكتفية بعالم الوسائل. فهدفه هو أن يتجاوز الإنتاج والتكنولوجيا مع احتفاظه بهما؛ أعني البحث عن حضارة جديدة تستوعب الحضارة القديمة في داخلها، دون أن تلغيها، بحيث تكون العلاقة بين القديم والجديد علاقة جدلية بالمعنى الهيجلي؛ فالجديد يلغي القديم لأنه يتجاوزه ولكنه في الوقت ذاته يحتفظ به لأنه يشتمل عليه بوصفه جانبا من جوانبه. أو لنقل، من زاوية أخرى، إن العلاقة بين المجتمع القائم على الإنتاجية والمجتمع الذي ينشده ماركيوز - والذي سنوضح تفاصيله بعد قليل - أشبه بالعلاقة بين هندسة إقليدس والهندسة اللاإقليدية؛ فالأخيرة لا تلغي الأولى، ولكنها تدرك نسبيتها، وتجعلها مجرد حالة خاصة منطبقة على مجال معين، وتضيف إليها إمكانات جديدة لم تكن تخطر على بال أنصار النسق القديم. (أ) من ماركس إلى فرويد
كانت وسيلة ماركيوز لرسم معالم المجتمع الجديد هي أن يعيد تفسير أفكار فرويد على نحو يتيح تعويض ما يفتقر إليه الفكر الماركسي، أو التوفيق بين تعاليم فرويد، وبين آراء ماركس الشاب مع مزجهما معا بعناصر من نيتشه، بحيث يصبح المركب الناتج ملائما لروح العصر الحاضر.
ذلك لأن ماركس - في ظروف عصره الخاصة - قد ربط بين تقدم الإنسانية وبين العمل، بحيث أصبح من الأمور المسلم بها فيما بعد أن حضارة الإنسان المعاصر في صميمها حضارة عمل، وأن الإنسان - في أحسن الظروف - لا يستطيع أن يحيا حياة أفضل إلا بقدر ما يبذل في عمله من جهد. ولقد كانت نتيجة ذلك أن تركز الاهتمام على القيم العقلية التي تتيح ترشيد العمل في سبيل الوصول إلى إنتاج أوفر ، وعلى القيم الأخلاقية التي تسمح بتحقيق توزيع عادل لثروة المجتمع. وخلال ذلك كله نسيت قيمة «السعادة» التي ترتبط أساسا بحياة الإنسان البيولوجية، وأغفلت مشاعر الإنسان الحسية وحاجاته الحيوية، وتركز الاهتمام على الحاجات العقلية والاقتصادية فحسب. وعلى الرغم من أن ماركس قد أشار إلى عناصر أساسية يستحيل بدونها أن تحقق الإنسانية تقدما حقيقيا، فإن عنصر «الغريزة» وتحقيق الرغبات الحيوية كان مفتقدا تماما في كتاباته، إذا استثنينا بعض الإشارات غير الواضحة في كتابات الشباب. «إن الإنسان عند ماركس يظل دائما الإنسان العامل، المنتج، وعلى قدر جهده يمكنه أن يحرز تقدما. أما الإنسان الحي بغرائزه وإرادته ونزوعه إلى الحب، فلا مكان له في فكر ماركس.» على أن ماركيوز يؤمن بأن القوى الإنتاجية قد وصلت في مجتمعنا المعاصر، بفضل التقدم التكنولوجي الهائل، وتطبيق مبدأ التسيير الذاتي (الأتمتة) على نطاق واسع، إلى مستوى يسمح للإنسان بأن يعود مرة أخرى إلى الاستمتاع بحيويته، ويتيح له أن ينهل من منابع غريزته المتدفقة، ليستعيد تلك «السعادة» أو «اللذة» التي حرمه إياها مجتمع الإنتاج والعمل. لقد أصبح الإنسان قادرا على أن يشيد عالما مزدهرا يتخلص فيه من العمل القاهر، ويكتفي بعمل أشبه باللهو أو اللعب، لكي يتفرغ للاستمتاع بغرائزه الطبيعية، لا على مستوى بدائي، بل على أرفع مستوى تتيحه له الحياة الحديثة. ولنقل، بلغة ماركيوز، إن في استطاعة الإنسان اليوم أن يستعيض عن حضارة العمل الشاق والصناعة بحضارة «الإيروس»
Eros
مفهوما بهذا المعنى الواسع؛ أي بمعنى العودة إلى المنابع الحيوية للإنسان، والاستمتاع بالغريزة إلى جانب العقل، واستعادة الحب الذي تجاهله المجتمع الصناعي أو ابتذله شر ابتذال. «إن الإنسان بحاجة إلى ثورة جديدة تتجاوز نطاق الثورة الاجتماعية، ثورة تعيد إليه قيمة السعادة الحيوية وترد إليه وعيه بالغريزة وإحساسه بالجمال. مثل هذه الثورة لا نستطيع أن نسترشد فيها بتعاليم ماركس (وإن كانت هذه التعاليم تقدم في الواقع الأساس الذي لا يمكن تحقيقها بدونه)، بل ينبغي علينا أن نلجأ، من أجل استيضاح معالمها، إلى فرويد .»
ومن واجبنا أن ننبه القارئ إلى أن ماركيوز لا يبحث آراء فرويد وفي ذهنه أن يتعمق في أساليب التحليل أو العلاج النفسي، بل إن كتاباته عن فرويد، وخاصة كتابه الهام «الإيروس والحضارة
Eros et Civilisation » تتخذ على الدوام وجهة نظر الفيلسوف، وفيلسوف الحضارة على وجه التخصيص. ومن هنا فإنه لم يهتم كثيرا بمؤلفات فرويد التي تعرض نظرياته العلاجية، بل كان اهتمامه مركزا على كتابات فرويد ذات الطابع الحضاري والفلسفي.
في هذه الكتابات عرض فرويد فكرة «الإيروس» بوصفه الطاقة التي تكمن في أصل كل حضارة. وذلك لأن نمو الفرد؛ أي انتقاله من الأنانية إلى الغيرية، وكذلك نمو الإنسانية، يفترض مقدما عامل الحب، سواء في صورته الجنسية المباشرة، أو صورته المتسامية المحورة. فنمو الفرد يتحقق حين يعمل الطفل حسابا للواقع وينظم سلوكه على أساسه، بعد أن كان يبحث عن إشباعه المباشر ثم إدراك ما يضعه العالم أمام هذا الإشباع المباشر من عقبات. ونمو المجتمع يتم بإعلاء مماثل للطاقة التي لا تستطيع التعبير عن نفسها مباشرة، بل تتخذ لنفسها تعبيرات غير مباشرة، تتمثل في المبادئ الأخلاقية والدينية، وفي التعبير الفني والأدبي.
ومعنى ذلك أن الحضارة تفرض على الإنسان ألوانا من القهر، وأنواعا من التحريمات؛ أي أن التحضر هو في أساسه تغيير لطبيعة الإنسان الأصلية، وطرح لمبدأ اللذة المباشرة في سبيل الخضوع للأمر الواقع. وكلما ازدادت الحضارة نموا، انتصر «مبدأ الواقع» على «مبدأ اللذة» وازداد التحكم في الغرائز الطبيعية عن طريق النظم والقوانين، ومع ذلك فإن مبدأ اللذة لا يختفي تماما، وإنما يظل يفصح عن نفسه في صور غير مباشرة يحاول فيها التخلص من سيطرة مبدأ الواقع؛ كالحلم والخلق الفني والخيال، وهي صور ينبثق فيها المكبوت ويفصح عن نفسه. والمهم في الأمر أن الكبت هو الثمن الذي يدفعه الإنسان لقاء تقدمه الحضاري. وهكذا يظل الإنسان يعمل وينتج، بدلا من أن يستجيب لدوافعه الطبيعية، ولا سيما الجنس، ما دامت الموارد لا تكفي لإعاشة أفراد المجتمع بلا عمل؛ فالإيروس إذا ترك وحده يمنع الإنسان من العمل، ويحرم المجتمع من وسائل العيش، ومن هنا كان لا بد من طرحه جانبا، والتركيز على الإنتاج والعمل. أي أن الإيروس عاجز عن إقامة الحضارة؛ ولذلك كان من الواجب إنكاره إذا أراد المجتمع أن يقيم لنفسه حضارة مرتكزة على الجهد والعمل.
إن المجتمع، في رأي فرويد، يحتاج إلى الكبت لكي يبني حضارته، وهذا رأي لا يملك ماركيوز إلا أن يوافق عليه، وما أظن أن أحدا يستطيع أن يجادل في الفكرة القائلة إن مجرد تكوين مجتمع يعني تنازل الأفراد عن قدر من حاجاتهم ورغباتهم المباشرة في سبيل مبدأ أعم منهم. ولو أمعنا الفكر قليلا لتبين لنا أن نظرية العقد الاجتماعي، بل نظريات الفلاسفة القدماء - وعلى رأسهم أفلاطون - في تكوين المجتمع، تنطوي على رأي مواز لرأى فرويد هذا، ولكن على المستوى الاجتماعي بدلا من المستوى النفسي. ولكن فرويد لا يكتفي بذلك، بل يؤمن بأن عكس القضية السابقة صحيح أيضا؛ أي بأنه لا حضارة بدون كبت أو قمع، وبأن من المستحيل قيام حضارة بلا كبت. وهذا ما يعترض عليه ماركيوز.
ذلك لأن قضية فرويد تظل صحيحة صحة نسبية؛ أي أنها تسري على المجتمعات التي كان ضيق الإنتاج فيها يحتم تعبئة كل الموارد من أجل العمل، ويحتم بالتالي تجاهل الإيروس. ولكن مجتمعنا الحالي تظهر فيه، لأول مرة، بوادر تدل على إمكان الاستغناء عن القمع، وإقامة حضارة لا ترتكز على الكبت، تكون هي الحضارة «المطلقة» الوحيدة التي يمكن تصورها؛ ذلك لأن المجتمع الصناعي الحالي أصبح قادرا على تحقيق قدر هائل من الوفرة، وأصبح من الممكن، عن طريق التقدم التكنولوجي الهائل، وانتشار الآلية الذاتية (الأوتومية)، أن يتوافر الأساس المادي الذي يتيح انتقال المجتمع إلى شكل جديد للحضارة لا يعود فيه العمل الشاق ضروريا، بل يتفرغ فيه الإنسان لتحقيق طبيعته الحيوية، فالآلات أصبحت قادرة على أن تسير بذاتها، مع حد أدنى من التدخل الإنساني، وأن تنتج في الوقت ذاته بوفرة لم يكن يحلم بها الإنسان في أي عهد مضى. وعن طريق هذا التحول التكنولوجي الحاسم، يستطيع الإنسان أن يتحرر من الاغتراب الذي يعانيه في العمل المادي الشاق، وأن يكرس إنتاجه الوفير لصالح قواه الإنسانية، ويحقق ذاته لأول مرة في تاريخه الطويل.
ولكن الذي حدث بالفعل، في تاريخنا المعاصر، هو أن الإنتاج الوفير لم يستغل للقضاء على القمع، بل لزيادته، ولا لإشباع حاجات الإنسان الحقيقية، بل لإشباع نهم المنتجين إلى الربح وإلى المزيد من الإنتاج. ويترتب على ذلك فائض من العمل المغترب غير الضروري، كما يترتب عليه كبت زائد
sur-représsion
للغرائز. والواقع أن هذا القهر يزداد كلما ازدادت بشائر التحرر ظهورا، ولكنه في الوقت ذاته يكشف بوضوح عن التناقض الصارخ الذي يمزق حضارتنا الحديثة؛ ففي هذه الحضارة توجد، كما قلنا، جميع الإمكانات التي تتيح قيام مجتمع لا يلجأ إلى الكبت والقهر، ولكن الواقع الفعلي الذي نلمسه فيها هو ازدياد القمع وإحكامه وتحوله إلى الصبغة العقلانية التي تزيد من فعاليته. هذا التناقض بين الإمكانات والواقع هو مظهر ديالكتيكي للصراع بين السيطرة والتحرر، وهو يدل بوضوح على أن الظروف أصبحت مهيأة لإدخال تغيير جذري على حضارة الإنسان.
ولعل العامل الحاسم الذي يساعد على إحداث هذا التغيير، هو أن القمع قد أصبح في عصرنا الحاضر، قمعا إراديا من صنع الإنسان. فعلى حين أن الضرورة الطبيعية، التي تتمثل في ندرة الموارد وعدم كفايتها لتلبية الحاجات، كانت فيما مضى تحتم القمع وتجعله أمرا لا مفر منه لتنظيم المجتمع؛ فإن الوفرة التي حققها المجتمع الحديث جعلته غير مدفوع إلى ممارسة القمع بحكم الضرورة الطبيعية، بل إن أصل القمع الحالي إنساني بحت، وبعبارة أخرى فإن العوامل الاجتماعية والسياسية - لا العوامل الطبيعية - هي التي تؤدي إلى القمع السائد الآن، وهي تدفع المجتمع إلى تطبيق أساليب معينة في توزيع ثروته، تحتم سيطرة البعض على البعض الآخر.
وإذا كنا نعلم، من تجاربنا الراهنة، أن القمع الذي يمارسه الإنسان شر من القمع الذي تحتمه الضرورة الطبيعية، فينبغي أن ندرك، مع ذلك، أن هذا التغيير يعطينا على الأقل أملا في المستقبل. ذلك لأن ما يمارسه الإنسان بإرادته، يستطيع الإنسان أيضا أن يتخلص منه بإرادته. فنحن اليوم في مرحلة تاريخية لم تعد توجد فيها أية عقبات طبيعية في وجه القضاء على الكبت، وكل ما نعانيه عقبات من صنع الإنسان، ومن ثم يستطيع الإنسان أن يتجاوزها، وأن ينتقل إلى المرحلة العليا للتطور الاجتماعي، أعني المجتمع القائم على تحقيق الرغبات الحقيقية للإنسان، وإشباع حاجته إلى الحب والسلام، وإحلال «الإيروس» محل حضارة العمل الشاق والصناعة والإنتاجية العمياء. (ب) حضارة الإيروس
على الرغم من أن ماركيوز يبدو كما لو كان يتجاوز ماركس، الذي ظل تفكيره محصورا في نطاق مبدأ العمل والعدالة، ليستمد مقومات حضارة المستقبل من فرويد، الذي استطاع أن يجعل لمبدأ اللذة والسعادة مكانة رئيسية في تفكيره، فإنه في واقع الأمر يتخطاهما معا؛ لأنه يضيف إليهما عناصر تنتمي إلى صميم عصرنا الذي يتميز بتطورات لم يستطع كل من المفكرين الكبيرين أن يتنبأ بها تنبؤا دقيقا.
لقد أصبح في استطاعة الإنسان، لأول مرة، أن يحيا حياة خلت من الكبت، ويقف عن غرائز الحياة موقف الإيجاب المطلق. وعلى حين أن الإيروس والحضارة كانا منفصلين، بل متضادين عند فرويد، فإن ظروف المجتمع الحالي تتيح، في رأي ماركيوز، الجمع بينهما من أجل إقامة حياة إنسانية مكتملة العناصر، يتحقق فيها التوافق التام بين مختلف جوانب الطبيعة البشرية.
في حضارة «الإيروس» هذه تصبح للخيال الغلبة على العقل؛ ذلك لأن العقل كان الأداة الرئيسية في يد حضارة الكبت والقهر، وهو الذي أتاح للمجتمع الصناعي أن يحقق أعظم انتصاراته في ميدان الإنتاج، وأن يتسلط على كل جوانب الإنسان ويوجهها في خدمة أغراض الربح والتوسع الاقتصادي. لذلك كان من الضروري استعادة التوازن بين «الإيروس» و«اللوجوس» لحساب الأول، ولكن دون إنكار تام للثاني. وعلى هذا النحو وحده يصبح الإنسان «كلي الجوانب
Omnilatéral » بعد أن كان من قبل «أحادي الجانب
unilatéral ».
وعلى الرغم من أن تفكير ماركيوز يتسم بقدر ملحوظ من الوحدة، فإن تأكيده هذا إمكان قيام حضارة متكاملة الأبعاد تحل محل الحضارة الحالية ذات البعد الواحد - هذا التأكيد لم يكن من السمات المميزة لتفكيره على الدوام. فهو قد اختتم كتاب (الإنسان ذو البعد الواحد) بلهجة متشائمة تعبر عن يأسه من إمكان تغيير المجتمع الحالي إلى مجتمع أفضل. ولكنه في كتاب «نهاية اليوتوبيا
La Fin de l’Utopie » ينتقل إلى موقف أكثر إيجابية، فيؤكد إمكان الانتقال إلى المجتمع الجديد باستخدام التكنولوجيا المتقدمة في القضاء على اقتصاد الملكية الخاصة والإنتاج لأجل الإنتاج، وينتقل في كتاب (نحو التحرر)
Vers la Liberation (1969م) إلى حديث أكثر تفصيلا عن القوى التي تستطيع القيام بهذا التحول إلى المجتمع الجديد، والتي تساعد الإنسان على أن يرتد إلى ماهيته الحقة، بوصفه كائنا إيروطيقيا (نسبة إلى الإيروس) يتخذ من القيم الجمالية هدفا رئيسيا لحياته ولعلاقاته مع الآخرين.
وأهم ما يتصف به تفكيره في هذه المرحلة هو تأكيده أن الحديث عن الحضارة الجديدة لم يعد من قبيل التفكير اليوتوبي، الذي يتعلق بمشروعات اجتماعية يستحيل تحقيقها موضوعيا. بل إن ظروف عالم اليوم، التي تجعل الانتقال أمرا ممكنا من الوجهة العملية، تضع حدا لليوتوبيا، وتجعل التفكير في عالم الغد خارجا عن نطاق الأحلام، بل تجعله أكثر واقعية من أي تفكير يقتصر على حدود المجتمع القائم بالفعل.
فما هي إذن خصائص حضارة الإيروس هذه؟
أول ما يطرأ على الذهن، حين تصادفه كلمة «إيروس» هو الجنس. فمثل هذه الحضارة لا بد أن تكون لها نظرة مختلفة كل الاختلاف إلى الجنس، نابعة من تخلصها من الكبت بصورة نهائية؛ فهي تعطي الجنس أبعاده الكاملة في إطار من انعدام الكبت. وربما توهم المرء مما قلناه أن الحضارة الحالية تتجاهل الجنس نتيجة لإصرارها على القمع والكبت، ولكن حقيقة الأمر عكس ذلك. ففي هذا المجتمع الذي يستهدف الربح من كل شيء، ويبتذل كل شيء - حتى أقوى عواطف الإنسان وألصقها به - يتخذ الجنس صبغة السلعة التي تنتج بالجملة، وتباع وتشترى في السوق. وتقوم وسائل الدعاية بدور كبير في تضخيم صور نمطية للجنس والتهليل لها وفرضها على أذواق الناس فرضا. وتتسع أبعاد الجنس إلى حد مخيف، ويتدخل في كل جوانب حياة الإنسان ولكنه يظل مع ذلك مقيدا محصورا في إطار يحدده المجتمع منذ البداية، حتى لا يصبح حرا طليقا .
هذا الجو أبعد ما يكون عن التسامي، الذي يفترض فرويد أنه ملازم للكبت. فالجنس ينحط ويبتذل، وينتشر على أوسع نطاق، ولكن في إطار من الكبت الشديد ودون أن يصحبه إشباع حقيقي أو متعة حقيقية. إنه أبعد ما يكون عن طبيعته الأصلية التلقائية، فكل شيء فيه مخطط مدروس، يستهدف إغراق الإنسان بالصور والتعبيرات والإيماءات الجنسية التي تحفل بها الصحف وأفلام السينما، ولكن دون إشباع مطالبه منه. ولو شئنا الدقة لقلنا إن ما يقدم إلى الإنسان ليس هو الجنس ذاته، بل هو بديل عنه، هو خيالات وأوهام تحل محله وتزيد من طابع الكبت المسيطر على نظرة المجتمع إلى الجنس. هذا النفاق ذو الوجه المزدوج الذي لا يمكن أن يعد حرمانا ولا إشباعا، لا بد أن ينتهي في حضارة الإيروس، لكي يحل محله انطلاق وتحرر لقوى الإنسان الطبيعية، وعلى رأسها الجنس.
على أن الجنس ليس هو العنصر الوحيد في حضارة الإيروس، بل إن هناك مجموعة كاملة من القيم، ومن الحاجات الجديدة، تظهر في المجتمع الجديد، وترتبط على نحو مباشر أو غير مباشر بفكرة الإيروس، وإن لم تكن منتمية إلى مجال الجنس؛ ذلك لأن الحاجات الإنسانية ليست شيئا ساكنا جامدا، بل هي تتطور ديناميا مع تطور حياة الإنسان. ولقد كانت ظروف الحياة الراهنة التي يعيشها الإنسان تحتم ظهور حاجات وقيم تدعم النظام القائم، كالصراع من أجل العيش، والبحث عن الربح، والكبت الزائف للغرائز، والاتجاه إلى الهدم والدمار. أما المجتمع الذي يصبح فيه العمل (بفضل التقدم التكنولوجي الهائل) نوعا من اللهو،
1
فتسوده حاجات من نوع مختلف تماما، كالحاجة إلى السلام والهدوء والجمال والسعادة.
ويلخص ماركيوز نمط الحياة الذي تسوده هذه القيم الجديدة في عبارة «الحياة المسالمة أو الراضية
L’existence pacifiée »، وهي حياة تتسم بالبساطة ومراعاة مطالب الإنسان الحقيقية في كل شيء. وأهم هذه المطالب جميعا، الحاجة إلى السلام، التي تعني أساسا القضاء على روح الهدم والتخريب السائدة في المجتمع الراهن، وهي الروح التي تتمثل في الاستعداد الدائم للعدوان وشن الحروب، وفي الاستخفاف بالحياة البشرية، وإيثار خدمة الموت على خدمة الحياة، والتفنن في التنكيل بالخصوم وإذلالهم.
ويؤكد ماركيوز أهمية الاستمتاع بالوقت الحر؛ أي بما نسميه الآن وقت الفراغ، في المجتمع الجديد. فعلى حين أن المجتمع الحالي يسيء استغلال هذا الوقت لخدمة أغراضه الاستهلاكية الخاصة، ولنشر القيم التي تدعم النظام القائم، فإن مجتمع المستقبل يجعل لهذا الوقت أهمية قصوى، نظرا إلى ضآلة الوقت الذي سيقضيه الإنسان في عمله، وإلى أن هذا العمل ذاته يتخذ طابعا أشبه باللعب. ففي الوقت الحر تتاح للإنسان فرصة حقيقية لكي يستعيد ذاته، ويحقق التوافق مع نفسه ومع الآخرين، بل إن النشاط الذي يمارسه الإنسان في هذا الوقت سيصبح هو الغاية، على حين أن نشاطه في العمل سيصبح مجرد وسيلة. وأهم عناصر شغل هذا الوقت الحر هي الاستمتاع بالقيم الجمالية، التي هي - في نظر ماركيوز - الشرط الأساسي لاكتمال شخصية الإنسان.
ويبدي ماركيوز اهتماما كبيرا بالحاجة إلى الهدوء، وإلى انفراد المرء بنفسه
étre seul
والاقتصار على الاختلاط بمن يختارهم هو ذاته، وحاجة كل إنسان إلى الاستمتاع بخصوصية الحياة؛ أي بمجال خاص به
sphére privée
ولذلك كان يتصور المجتمع الجديد، لا على أنه مجتمع جماهيري
société de masse
بل مجتمع مؤلف من مجموعات صغيرة من الأشخاص الأحرار، يعيشون في مدن خلت من قبح التصنيع الرأسمالي، يستعان فيها بالتكنولوجيا، وبالقدرات الجمالية لدى الإنسان، من أجل تغيير وجه العالم بحيث يغدو ملائما لحياة قائمة على السعادة الحقة، السعادة التي لا تشترى ولا تمنح لقاء ربح.
هذه القيم الجديدة تدور كلها حول محور واحد، هو المحور الجمالي. فالحب والسلام والهدوء والتوافق، كل هذه وسائل لتحقيق أعظم قدر من المتعة الجمالية للإنسان. وتصور الإيروس ذاته؛ أي القوة الحيوية لدى الإنسان، يرتبط أوثق الارتباط بالنظرة الجمالية إلى الحياة. وفي هذا الجانب الحاسم من تفكير ماركيوز كان تأثره واضحا كل الوضوح بماركس الشاب (إلى جانب العنصر الفرويدي بطبيعة الحال)؛ فالسعي إلى مجتمع تصبح فيه الحاجات المادية للإنسان ميسرة، وتقل فيه مشقة العمل إلى أدنى حد، هو خطوة لا بد أن يتبعها غاية عليا، هي اهتداء الإنسان إلى ذاته من خلال القيم الجمالية؛ أي أن النشاط الجمالي سيصبح في هذه الحالة هو التعبير الحقيقي، الحر، عن ماهية الإنسان.
لقد دأبت البشرية، منذ عهد «أرسطو»، على أن تعرف الإنسان بأنه حيوان عاقل أو ناطق، وبلغ هذا الاتجاه قمته، من جهة، في عصر التصنيع الرأسمالي، بما يفترضه من ترشيد عقلاني تام لكافة جوانب نشاط المجتمع، ومن جهة أخرى في تأكيد الماركسية الناضجة لدور العقل كأساس لبناء المجتمع الجديد. ولكن ماركيوز يؤمن إيمانا عميقا بأن الإنسان إلى جانب كونه عاقلا، هو أيضا كائن خيالي، بل إن حساسية الإنسان تتجه إلى تأكيد دور الخيال في حياته، والتمرد على القمع والطغيان الذي يمارسه العقل. وفي الإنسان الجديد يقترن التحرر دائما بإعلاء دور الخيال الذي يقوم بالتوسط بين الملكات العقلية والحاجات الحسية.
2
إن الإنسان باختصار، كائن جمالي، بشرط أن تفهم هذه الصفة بمعنى يقترب من اشتقاقها الأصلي في اللغة اليونانية؛ أي بمعنى اتجاه الإنسان إلى الوعي الحسي بنفسه وبالعالم في توافق.
وهكذا يظهر ماركيوز هنا على أنه مفكر آخر من دعاة «العودة إلى الطبيعة»، ومن أنصار رد اعتبار الحب والخيال والعاطفة إزاء طغيان العقل. والفارق الوحيد بين دعوته إلى اتخاذ القيم الجمالية هدفا أسمى للحياة الخالية من الكبت، وبين دعوة أنصار العودة إلى الطبيعة التقليديين، هو أن هؤلاء الأخيرين يحلمون بالطبيعة البسيطة الساذجة، والبدائية في بعض الأحيان، على حين أن نزعة ماركيوز الطبيعية ملائمة لعصر التكنولوجيا الرفيعة. والواقع أن نزعات العودة إلى الطبيعة كانت، في كل العصور، رد فعل ساخطا على المجتمع القائم، وكانت تتشكل وفقا لطبيعة هذا المجتمع. ومن هنا فإن هذه النزعة قد اتخذت عند ماركيوز شكلا جماليا حسيا، يقوم على أساس الوفرة التي يحققها مجتمع شيوعي (بالمعنى العام)، يسوده شعار «من كل حسب قدراته، ولكل حسب حاجته». ووسيلة استعادة الوحدة الأصلية المفقودة بين الطبيعة والإنسان، هي سيادة مبدأ اللذة، وسيطرة القيم الجمالية.
ومن الواضح أن ماركيوز يجعل للفن، في نظرته العامة إلى الجديد، دورا أساسيا، بل إن الثورة التي يدعو إليها قد لا تكون في صميمها إلا ثورة جمالية. مثل هذه المكانة الخاصة التي يحتلها الفن في تفكيره، تجعله جديرا بوقفة نعرض فيها، بإيجاز، لتصوره العام للفن. (ج) الفن والثورة
الفن في صميمه احتجاج على الواقع القائم، تلك هي ماهية الفن عند ماركيوز. ومعنى ذلك أن معارضة الاضطهاد هي المقياس الذي نميز به الفن الصحيح من الفن الزائف. وإذا كان تاريخ البشرية حتى الآن، هو تاريخ الاضطهاد، فإن الفن قد أخذ على عاتقه أن يقاوم هذا التاريخ؛ ذلك لأن الفن يوحي بحقيقة خاضعة لقوانين مخالفة للقوانين القائمة؛ مثال ذلك أن قوانين الصور أو الشكل تخلق حقيقة مختلفة، هي في الواقع نفي للحقيقة التي نعرفها، حتى عندما يكون هدف الفن هو تصوير هذه الحقيقة ذاتها.
3
ولو طبقنا ذلك الحكم على الفنون الخاصة لظهرت لنا طبيعتها النافية أو الرافضة بوضوح. ففي الفن المسرحي يتحطم التوحيد بين المشاهد وبين العالم، وتقوم مسافة تسمح باستعادة الحقيقة الأصلية للعالم، ويهتز مركز الأشياء اليومية من حيث هي أشياء مسلم بها، ويتهيأ الجو لتصور العالم من خلال روح السلب التي يتعين بعد ذلك تجاوزها. وفي الشعر يتحدث الشاعر، في كثير من الأحيان، عن تلك الأشياء الغائبة التي تجوس مع ذلك العالم وتسري فيه. وهكذا فإن الشاعر، إذ يجعل الغائب حاضرا، يمارس نوعا من نفي النفي، شأنه شأن الفكر في مساره، ويهيئ الطريق بدوره «للرفض الأعظم». هذه الاتجاهات تتجلى بوجه خاص عند رامبو، وفي الدادية والسيريالية، وهي اتجاهات أصبح الأدب فيها يرفض ذلك التركيب اللغوي الذي ظل طوال التاريخ يربط بين اللغة الفنية واللغة العادية. وبذلك يعمل الشعر على تقويض العالم وخلق تجربة جديدة، غير مألوفة، تؤدي إلى إقامة علاقة جديدة بين الإنسان والطبيعة.
على أن الفن المرتبط بالأيديولوجيات المتصارعة حاليا هو أقرب إلى الزيف منه إلى الفن الصحيح؛ ففي النظام السوفيتي يقوم الفن بتصوير الواقع محاكيا للطبيعة
naturaliste
متجاهلا تماما وظيفته الأصلية بوصفه رفضا للواقع وتباعدا عنه. وفي المجتمعات الرأسمالية يفقد الفن وظيفته الثورية إذ يندمج في المجتمع، ويتمسك بمبدأ الواقع، ويدعم النظام القائم بدلا من أن يحارب من أجل تجاوزه ولقد كانت الروح التجارية التي يعامل بها الفن في المجتمع الصناعي الرأسمالي هي الوسيلة الكبرى التي يتبعها هذا المجتمع لابتذال الفن والقضاء على ثوريته؛ فالفن والأدب ينتشران على أوسع نطاق، ويدخلان كل بيت، ويبدو ظاهريا أنهما حققا رسالتهما على الوجه الأكمل، مع أن هذا الانتشار الواسع ذاته هو الذي يؤدي إلى تسطيحهما وربطهما بمجرى الحياة اليومية الرتيبة، وإدماجهما - بالتالي - في النظام القائم.
فهل يعني ذلك أن ماركيوز يدعو إلى عودة الفن إلى قصور النبلاء وصالونات الأرستقراطيين، وإلى تضييق نطاقه وقصره على صفوة مختارة؟ وإذا كان بيع الأعمال الأدبية الكبرى، والتسجيلات الكلاسيكية الرائعة، في الصيدليات وأسواق البقالة (كما يحدث فعلا في الولايات المتحدة) قد أدى إلى تسطيحها وضياع قدرتها على الرفض والاحتجاج، فهل يعني ذلك أن نتنازل عن المزايا الهائلة التي أتاحها التقدم التكنولوجي، ونحمل على الاتجاه الديمقراطي في الاستمتاع بثمار الفن والأدب؟ يرد «نيكولاس» على هذا التساؤل بقوله: «كثيرا ما أسيء فهم أفكار ماركيوز في هذه المسألة. فمن السخف الادعاء بأن ماركيوز يهاجم انتشار الطابع الديمقراطي في الفن والأدب. بل إنه، على خلاف ذلك، يهاجم ما له بعد واحد، يهاجم ظاهرة التمثل والاندماج الثقافي بقدر ما يتم هذا التطبيع الثقافي في إطار من استمرار الاستغلال والربح. فلنسلم بمبدأ بيع مؤلفات بودلير (في الصيدليات). ولكن ماذا عسى أن يجد فيها القارئ؟ لا شيء مما كانت هذه الأعمال تنطوي عليه في عصرها، أعني قوتها المعارضة. وعلى ذلك فإذا كان التمثل والاندماج الثقافي الحالي يخلق «مساواة ثقافية» فإنه في الآن نفسه يحمي السيطرة والتسلط، وإذا كان هذا الانتشار يلغي الامتيازات الأرستقراطية القديمة، بوصفها امتيازات ظالمة مستبدة، فإنه يدعم المجتمع ذا البعد الواحد الذي يخلقه الترشيد التكنولوجي، ذلك الترشيد الذي يستحيل التباعد عنه أو الدخول في نزاع معه.»
4
ومع ذلك فإن آراء ماركيوز عن الفن بوصفه قوة ثورية رافضة للنظام القائم، تنطوي على قدر مفرط من التعميم، وتتعرض لكل ما يتعرض له التعميم السريع من انتقادات. ذلك لأن ما يسمى بخروج الفن عن القوانين القائمة، هو نوع من المغالطة التي تستغل الخلط، في استخدام لفظ «القوانين»، بين القوانين السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية من جانب، وقوانين الإدراك أو رؤية العالم من جانب آخر، فالأولى قوانين متغيرة يمكن التمرد عليها عندما تكون ظالمة، أما الثانية فهي مشتركة بين البشر، لها قدر كبير من الثبات الذي تتسم به قوانين علم النفس عامة، وتظل صحيحة في ظل أي نظام، وأي وضع اجتماعي. فإذا كان الفن يخرج عن القوانين بمعناها الثاني؛ لأنه يمنحنا رؤية غير عادية، وإدراكا غير مألوف، للعالم، فإن هذا لا يجعل منه على الإطلاق قوة تثور ضد القوانين بمعناها السياسي أو الاجتماعي.
ولو صح رأى ماركيوز هذا، لكان الفن التجريدي أشد الفنون ثورية؛ لأنه أكثرها خروجا عن الواقع القائم وتمردا عليه. ويبدو أن ماركيوز يميل ضمنا إلى الأخذ بهذا الرأي، بدليل أنه يعيب على الفن السوفيتي نزعته الطبيعية
Naturalisme
التي يرى فيها خروجا عن الفن الحقيقي بما فيه من رفض للواقع وابتعاد عنه. ولكن رأيه هذا هو، على أحسن الفروض، رأي قابل للمناقشة؛ فقد أثبت تاريخ الفن أن النزعة الطبيعية اتجاه أساسي ظل يتردد منذ أقدم العصور حتى عصرنا الحاضر، ولم تكن فترات ظهوره فترات تدهور للفن على الإطلاق، كما أنها لم تكن فترات تتسم بالطابع المحافظ من الوجهة السياسية. هذا فضلا عن أن أي اتجاه فني يستطيع أن يزعم أنه يلتزم الواقع بمعنى، ويرفض الواقع بمعنى آخر. فحتى لو كان يرفض الواقع «السائد»، فمن الممكن القول إنه واقعي بمعنى أنه يبحث عن الاتجاهات المتطلعة إلى المستقبل، والموجودة في الواقع الراهن بصورة كامنة، ويعمل على تصويرها. وهكذا فإن كل قبول للواقع ينطوي ضمنا على رفض لواقع آخر، والعكس بالعكس. ومن هنا فإن من غير الممكن الكلام عن فن رافض أو فن قابل بالمعنى المطلق.
ومن جهة أخرى فإن كثيرا من اتجاهات الفن التجريدي - وهو فن لا يمكن وصفه إلا بأنه رافض للواقع - يمكن أن توصف، من زاوية معينة، بأنها اتجاهات تدعو إلى الرضوخ أو الامتثال من الناحية السياسية أو الاجتماعية؛ ذلك لأن مبدأ التجريد نفسه يمكن تفسيره بأنه هروب من الواقع وتباعد عنه. وحين يغرق الفنان في التجريد فمعنى ذلك أنه يترك الواقع العيني الملموس على ما هو عليه، ولا يقول «لا» أو «نعم» لمن يعبثون به وينشرون فيه الفساد، وإنما يخلق لنفسه عالما خاصا يمارس فيه فاعليته. وحتى لو كان هذا الهروب ناشئا عن السخط، فإنه ينطوي من الوجهة الموضوعية على مساعدة ضمنية للأوضاع الجائرة القائمة، تتمثل في السكوت عليها.
5
ومثل هذا يصدق على الربط بين استخدام لغة غير اللغة العادية في الشعر، وبين الثورة على الوضع القائم. فليس ثمة علاقة على الإطلاق، في رأينا، بين «اللغة العادية» وبين الأوضاع الراهنة، ومن المستحيل أن يوصف الأديب الذي يقبل التعبير بهذه اللغة العادية بأنه يؤيد النظام القائم لهذا السبب. والواقع أن رفض اللغة العادية هو أمر لا يتيسر إلا لفئة محدودة جدا من الأدباء أو الشعراء ومن القراء الذين يمكنهم فهم لغتهم الجديدة؛ فهو في أساسه ظاهرة أرستقراطية، بينما الثورة بطبيعتها ظاهرة جماهيرية تحتاج إلى وسيلة للتفاهم مع الجموع الغفيرة من البشر. ومن هنا ففي وسعنا أن نقول إن الشاعر عندما يبتدع لنفسه لغة جديدة (قد تكون لها قيمتها الكبرى من الوجهة الجمالية الخالصة) يتخذ موقفا انعزاليا يتنافى، موضوعيا، مع الروح الثورية. وفي استطاعته، لو شاء أن يكون ثوريا بالمعنى الاجتماعي، أن يتخذ موقف الرفض في إطار اللغة اليومية ذاتها، وفي هذه الحالة سيكون رفضه ديالكتيكيا يكتشف عناصر السلب الكامنة في هذا العالم من داخله، على حين أن الرفض القائم على التباعد، وعلى خلق لغة مستقلة، هو رفض غير ديالتيكي.
إن آراء ماركيوز الجمالية ليست مجرد نظرية في الفن تضاف إلى غيرها من النظريات، بل هي تحتل في إطار فلسفته موقعا أهم من ذلك بكثير. إنها في حقيقة الأمر تعبير عن الغاية القصوى التي يتصورها للعالم في عصر ما بعد التكنولوجيا والآلية الذاتية. فالحياة الجمالية الإيروطيقية هي المثل الأعلى للحياة كما يتصوره في مجتمع المستقبل. وإنسان الغد، الذي ستخلصه الإنتاجية اليسيرة والآلية العالية من مشقة العمل المجهد، سيكون في الأساس إنسانا يستمتع بالحب والجمال، ومن أجل هذا الهدف ينبغي أن يثور إنسان اليوم على عالمه الذي لا يقدم إليه الحب ولا الجمال إلا في إطار مبتذل، يخدم أغراض الربح ويحقق للنظام هدف المحافظة على نفسه. ومن هنا فإن فلسفة ماركيوز بأسرها يمكن أن توصف بأنها نزعة جمالية مبالغ فيها
est hétisme
وكل نزعة من هذا النوع لا تستطيع أن تصل، في آخر المدى، إلا إلى تحقيق رمزي للحرية. أما التغيير الفعلي لأوضاع الإنسان فلا يمكن أن يتم على أيدي الرومانتيكيين من أصحاب النزعات الجمالية، وإنما هو، ببساطة، مهمة الثوريين العمليين. فأقصى ما يستطيع الفن أن يفعله هو أن يكون وسيلة للتعبير عن السخط على وضع قائم، والحلم بوضع مرتقب، ولكنه عاجز عن توجيهنا في مجال الواقع الفعلي، وفي ميدان الممارسة السياسية.
والواقع أن الصورة التي يقدمها ماركيوز لعالم المستقبل المرتكز على قيم الحب والجمال متناقضة في أكثر من جانب؛ ذلك لأن اتخاذ قيم الحب والجمال غايات قصوى لكل نشاط إنساني في هذا العالم سيجعل بعض الناس على الأقل، ممن ليست لديهم ميول جمالية، أو ممن لا يكترثون كثيرا بالحب، يعيشون في المجتمع الجديد بلا هدف. وإذا كان من الصعب تصور أشخاص لا يهتمون بالحب (من أن أمثال هؤلاء الأشخاص موجودون بالفعل)، فإن من المشاهد فعلا أن هناك فئة غير قليلة من الناس لا يعني الفن بالنسبة إليها شيئا مذكورا، والأرجح أنه سيكون هناك أشخاص كهؤلاء حتى في المجتمع الذي يوفر لأفراده أعظم قدر من الثقافة الجمالية. ومعنى ذلك أن الهدف الذي يضعه ماركيوز للحياة في المجتمع الجديد لا يمكن أن يكون هدفا شاملا.
ومن جهة أخرى فإن المجتمع الجديد مبني، باعتراف ماركيوز نفسه، على أساس استمرار الاتجاهات الحالية في التقدم التكنولوجي والآلية الذاتية (الأتمتة)، وازدياد هذه الاتجاهات تقدما. على أن في استطاعتنا منذ الآن أن نرى النتائج التي أفضت إليها هذه الاتجاهات في مجال الفن المعاصر، الذي أصبح مغرقا في التجريد، وفي الابتعاد عن إرضاء الحاجات الوجدانية للإنسان؛ لذلك فإن من المتوقع أن تستمر هذه التيارات الفنية في مجتمع المستقبل، وفي هذه الحالة يصعب جدا أن نتصور كيف يمكن أن يكون مثل هذا الفن التجريدي البحت هدفا أسمى لنشاط الإنسان. فهل الموسيقى الإلكترونية مثلا (وهي وليدة العصر الإلكتروني) فن يمكنه أن يسهم في استعادة إنسانية الإنسان؟ وهل هي التي ستلبي حاجاته الجمالية؟ لا جدال في أنه سيظل هناك تناقض حاد بين الأساس المادي لحياة المجتمع، وهو أساس يفترض فيه زيادة التصنيع والتكنولوجيا تقدما، وبين مطلب إرضاء الحاجات الوجدانية والانفعالية الحقيقية للإنسان، وهو المطلب الذي يراد من الفن تحقيقه في مثل هذا المجتمع.
ماركيوز بين واقع الثورة وأحلام الفلسفة
هناك حقيقة أساسية في فكر ماركيوز، أشرنا إليها من قبل إشارات عابرة، ولكن ينبغي أن نضعها نصب أعيننا على الدوام إذا شئنا أن نصدر عليه حكما منصفا، ونضعه في موضعه الصحيح بين مفكري القرن العشرين؛ تلك هي أن ماركيوز كان، في جزء كبير من حياته العملية، أستاذا للفلسفة، وأنه بلور الجزء الأكبر والأهم من أفكاره في الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن. ولا يمكن القول إن تحولا أساسيا قد طرأ على تفكير ماركيوز وانتقل به من أقوال تلقى في قاعات المحاضرات إلى تعاليم يهتدي بها الشباب الثوريون في أنحاء واسعة من العالم. فالأمر الذي يلفت النظر بحق في التطور الفكري لهذا الفيلسوف، هو أنه لم يضطر إلا إلى إدخال تعديلات طفيفة على أفكاره الأساسية التي عرضها قبل فترة الحرب العالمية الثانية، واقتصر على تطبيقها على الظروف المتجددة التي أعقبت هذه الحرب، دون تغيير جذري لها. ومع هذا فإن التفكير، الذي وضعت أسسه قبل فترة تطبيقه الفعلي بما لا يقل عن ربع قرن من الزمان، قد أثبت حيويته ومرونته الفائقة، واستطاع أن يلهم ملايين الشباب كما لو كان صاحبه واحدا من جيلهم، يحس بأحاسيسهم وينطق لغتهم.
على أن هذه الحقيقة الأساسية كان لها تأثير لا يمكن إنكاره في تحديد الطابع العام لتفكير ماركيوز؛ ففي رأينا أن هذا التفكير بالرغم من نجاحه العملي الهائل خلال فترة ثورة الشباب في الستينيات من هذا القرن، وبالرغم من انتشاره الواسع في مختلف بلدان القارة الأوروبية والأمريكية، ظل على الدوام تفكير أستاذ فلسفة ألماني الأصل. وفي استطاعة المرء أن يتنبأ بأن الشباب الثوريين لن يمكنهم أن يتمسكوا طويلا بتعاليم ماركيوز، لسبب بسيط هو أن هذه التعاليم أقرب بكثير إلى أحلام الفلاسفة منها إلى واقعية الثوار. إنها في صميمها تعاليم نظرية، لها بريق خلاب، ولكنها تخفق إخفاقا صارخا عندما يراد تحويلها إلى مجال الممارسة والتطبيق.
وسيكون الجزء التالي من هذا البحث إثباتا مفصلا لهذا الحكم العام. (أ) قيم المجتمع الجديد في ميزان النقد
إذا كنا قد اختبرنا من قبل آراء ماركيوز في الفن اختبارا مستقلا؛ فهذا يرجع إلى المكانة الخاصة التي تحتلها القيم الجمالية في تصوره العام للمجتمع الجديد، على أن هذه القيم الجمالية لا تقتصر على الفن وحده، بل هي ترتبط عنده بنمط كامل للحياة يتصور ماركيوز أنه هو النمط الذي ينبغي أن يسود مجتمع المستقبل. فهل كان تفكير ماركيوز متسقا مع ذاته عندما حدد معالم هذا النمط الجديد من أنماط الحياة؟
لقد تحدثنا من قبل عن أهم القيم التي يدعو إليها ماركيوز في مقابل القيم التجارية والاستهلاكية والعدوانية التي تسود المجتمع الراهن، هذه القيم الجديدة تسود عندما تظهر حاجات جديدة في مجتمع المستقبل الذي تحمل فيه الآلة عن الإنسان عبء العمل الشاق وتصرفه عن الاهتمام المفرط بالإنتاج والربح. وأهم هذه الحاجات، الحاجة إلى الهدوء والسلام، وإلى «الحياة المسالمة أو الراضية
L’existence pacifiée ».
ولكن، هل صحيح أن روح المسالمة، التي تكون فيها النفس مطمئنة راضية مرضية، هي الحالة المثلى لإنسان المستقبل؟ إن قليلا من التفكير يقنعنا بأن هذا المثل الأعلى لا يستحق السعي إليه إلا حين يكون الإنسان قد جعل من الأرض جنة حقيقية. ولكن حتى مجتمع المستقبل لن يكون هو ذاته الجنة الموعودة. فهو سيظل مجتمعا يحتاج إلى الكفاح ، والعمل الإيجابي، والابتكار، وتلك كلها أهداف لا يمكن تحقيقها في مجتمع مثله الأعلى هو «الحياة المسالمة».
1
بل إن وجود قدر، ولو قليل، من النزعة العدوانية يساعد الإنسان على الارتقاء بذاته وتجاوزها، وذلك إذا استطاع الإنسان أن يتسامى بعدوانيته الغريزية ويوجهها في اتجاهات إيجابية بناءة.
والواقع أن كل صور الحياة المكافحة، سواء أكان ذلك كفاحا ضد الطبيعة أم كان كفاحا في سبيل بلوغ مستويات أعلى للحياة، لا تتمشى مع مبدأ ماركيوز في تهدئة النزوع العدواني وسيادة الحياة الراضية؛ ولذلك فإن دعوته لا تشكل أي إغراء للإنسان المتطلع إلى الكفاح في سبيل حياة أفضل، وخاصة في تلك المناطق من العالم، التي لا يزال فيها أمام الإنسان شوط طويل حتى يتحرر من عجزه أمام قوى الطبيعة، ومن استغلال الآخرين. فهل يريد ماركيوز من إنسان المستقبل أن يقف هادئا مطمئنا مسالما، ويركز حياته في الاستمتاع بالحب والفن؟ هل يعد هذا نمطا راقيا من الحياة بحق؟ ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى خنق كل طموح لدى الإنسان؟ أليست المهام الكبرى في الحياة في حاجة إلى سعي وجهد، وإلى نوع من عدم الرضا وعدم الاكتفاء بما هو موجود؟ إن تصور ماركيوز لن يكون له معنى إلا حين تبلغ الحياة نهايتها، وينتهي كل طموح لدى الإنسان. ولو أتى على الإنسان يوم تصور أن حياته بلغت غايتها وأنه لم يعد يحتاج إلا إلى الاستمتاع بما أنجزه من قبل، لكان معنى ذلك أن انهيار هذه الحياة أصبح وشيكا.
ومثل هذا يقال عن دعوة ماركيوز إلى تفتيت الكتل الجماهيرية الكبيرة
Masses
إلى مجموعات صغيرة من الأفراد الأحرار؛ ذلك لأن المسئوليات الضخمة التي تنتظر الإنسان في المستقبل تحتاج إلى جهود جماعية، وإلى تكاتف متزايد بين البشر. بل إن هذا التكاتف ذاته يعد علاجا شافيا للأفراد من الأنانية والتفكير الضيق المنحصر في حدود الذات، أو الجماعة القريبة، وحدها. لذلك فإن الرأي الأقرب إلى الصواب، والذي ينادي به عدد أكبر من المفكرين، هو أن الإنسانية تتجه إلى التجمع، وإلى تكوين مجتمع عالمي واحد، لا إلى الانقسام والتفتت إلى جماعات صغيرة. ولنذكر، في هذا الصدد، أن تفكير ماركيوز في هذا الموضوع أقرب إلى النزعة التعددية والتجزيئية التي تسود فلسفات المجتمع الرأسمالي، على حين أن الفلسفات الاشتراكية أميل إلى تأكيد فكرة العالمية في مختلف المجالات.
والواقع أن صورة الحياة الجديدة التي يدعو إليها ماركيوز قد تكون، في حقيقتها، أسوأ بكثير مما تبدو عليه لأول وهلة. فهو أولا يتصور أن انقياد الإنسان لرغباته يؤدي إلى تحقيق سعادته في كل الأحوال. وهذا تصور ساذج؛ لأنه على الأقل لا يتضمن تحليلا متعمقا للرغبة، وكشفا للتناقض الكامن فيها، على النحو الذي قام به عدد كبير من الفلاسفة منذ أفلاطون حتى عصرنا الحاضر. وأبسط ما يمكن أن يقال هو إن الرغبة تنطوي، في جانب من جوانبها، على اتجاه إلى استبعاد الآخر بحيث يغدو مجرد وسيلة لتحقيق رغبات الذات. ومثل هذا الاتجاه لا يساعد مطلقا على قيام مجتمع متحرر إذا استسلم له أفراد هذا المجتمع. ومن هنا لا مفر من فرض نوع من الكبت - في حدود معينة - على الرغبات، حتى في أشد المجتمعات انطلاقا.
وفضلا عن ذلك فإن مبدأ سيادة الحب في المجتمع الجديد هو مبدأ خداع إلى حد بعيد؛ ذلك لأن المجتمع الذي لا يعود فيه أي عائق يقف في وجه نزعات الإيروس ورغباته لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع سعيد. وحتى لو فرضنا أن التعليم والقيم الاجتماعية أصبحت كلها تشجع على الاستمتاع التام بالقوى الحيوية للإنسان متمثلة أساسا في الجنس، فلا يمكن أن يترتب على ذلك تحقيق سعادة مؤكدة لأفراد مثل هذا المجتمع. ذلك لأن طغيان الجنس يمكن أن يؤدي إلى التعاسة والقبح مثلما يؤدي إلى الرضا والجمال. ولا بد لضمان تحقيق نتيجة إيجابية في انطلاقة الحب هذه، من أن يفرض نوع من الضوابط أو من التنظيم في علاقات الحب بين الأفراد؛ أي مما يسميه ماركيوز بالكبت، وهو ما يريد ماركيوز استئصاله من المجتمع الجديد (متجاوزا في ذلك فرويد بكثير).
ومن ناحية أخرى، فهل يمكن أن يكون الحب والجنس حقا غاية عليا في المجتمع الإنساني المتحرر؟ أخشى أن أقول إن هذا الاهتمام المفرط بالجنس يحمل في طياته آثار القيود التي يعانيها الإنسان في المجتمع الحالي، وأن الاعتقاد بأن جنة الإنسان في المستقبل هي جنة يستمتع فيها الإنسان بمشاعره الجنسية استمتاعا حرا، لا يطرأ إلا على ذهن ينتمي صاحبه إلى حضارة تحرم الجنس وتضع دونه شتى العقبات. ولو تخيلنا مجتمعا أزيلت فيه القيود والتحريمات على الجنس، لكان الإنسان في هذا المجتمع - على الأرجح - غير مكترث بالجنس إلى الحد الذي يتصوره فيلسوفنا الذي يستمد آفاق تفكيره من مجتمع متمسك بالتحريمات. ولكي نكون واقعيين ينبغي أن نتذكر أن مجالات الاستمتاع بالجنس محدودة، مهما بدت لنا في منظورنا الحالي واسعة. ولقد تساءل أحد الكتاب - وكان على حق تماما في تساؤله: ما الذي يستطيع إنسان المستقبل أن يفعله في مجال الجنس، مما لا يستطيع الإنسان الحالي أن يفعله؟ أهناك حقا، في هذا المجال، عالم جديد كل الجدة، لم نجربه في عالمنا بعد؟ أم أن إزالة القيود لن يترتب عليها أي تغيير «كيفي» في طريقه استمتاع الناس بالجنس؟ أغلب الظن أن التحرر من الكبت سيترتب عليه، في المدى الطويل، تضاؤل أهمية الجنس في حياة الإنسان، لا زيادتها. أما أولئك الشبان الذين نراهم اليوم، في مستعمرات الهيبيز وغيرها، مغرقين في مظاهر الحب بمختلف أنواعها، فإنهم، مهما كانوا متحررين، يخضعون في تصرفاتهم لمبدأ رد الفعل، ويتعمدون مخالفة قواعد المجتمع الموجود. ولو كانوا يعيشون في مجتمع يسير على نفس مبادئهم، لكان دور الجنس في حياتهم المتحررة أضيق نطاقا بكثير. ويكفي في هذا الصدد، أن يتذكر المرء أن الاستمتاع بشتى مظاهر الحب لا يمكن أن يكون عملا يتفرغ له الإنسان، أو يشغل الجانب الأكبر من وقته، وذلك بحكم الضرورة البيولوجية والنفسية ذاتها بغض النظر عن أية تحريمات أو تعقيدات اجتماعية.
وأخيرا، فقد رسم لنا ماركيوز معالم هذه الحياة الجديدة دون أن يحدد لنا بوضوح، الوسائل العملية الكفيلة بتحقيقها. وهناك على الأقل، عقبة واحدة رئيسية تجعل قدرة الإنسان على تحقيق هذه الحياة أمرا مشكوكا فيه هي أن الأساس المادي للمجتمع الجديد سيكون هو ذاته التقدم التكنولوجي وسيادة الآلية الذاتية في العالم؛ أي أن نفس الأسلوب السائد في المجتمعات الصناعية المتقدمة حاليا، هو الذي سيسود المجتمع الجديد (مع اختلاف في الغايات بطبيعة الحال) ولكن كيف نستطيع أن نتخلص، بهذا الأسلوب نفسه، من التنظيم القهري الذي يفرضه المجتمع الراهن؟ ألا يحتمل أن يؤدي استمرار التكنولوجيا الحالية إلى استمرار نفس وسائل القهر الراهن؟ إن الآلية الشاملة التي ستحقق للمجتمع الجديد الوفرة وتعفي الإنسان من العمل المغترب، تقتضي بطبيعتها نوعا من التنظيم الدقيق الذي يجلب معه، حتما، ألوانا من القهر والضبط والتحكم في سلوك الأفراد، والتضحية بالفرد في سبيل المجموع. ومن المستحيل أن تستمر آلات هذا العصر المرتقب في الدوران بدون نوع من الترشيد؛ أي من سيادة العقل، في التنظيم الاجتماعي. أي أننا سنضطر حتما إلى الاعتراف بأهمية العقل إلى جانب الغريزة، وربما قبلها، وسنعيد للوجوس مكانته التي أراد ماركيوز أن ينحيه منها جانبا لكى يحل محله الإيروس. (ب) ماركيوز والشباب
تصلح النقطة الأخيرة التي أشرنا إليها في ختام القسم السابق، وأعني بها عجز ماركيوز على أن يحدد بوضوح الوسائل العلمية التي تعين على تحقيق المجتمع الجديد، لكي تكون نقطة انطلاق لتحليل نقدي لموقفه من الشباب؛ ذلك لأنه، كما رأينا، لا يقدم نظرية ثورية يمكن أن تتخذ أساسا لممارسة عملية، بل يقدم إلينا تحررا رمزيا، على مستوى الفكر وحده، في المجال الحسي والجمالي فحسب. وربما بدا للمرء أن اختياره لهذا المجال بالذات دليل على يأسه من تغيير المجتمع القائم في علاقاته العينية؛ لأن العالم الجمالي، على أية حال، مجرد حلم، ولأن هناك هوة لا تعبر بين المجال الإستطيقي والمجال السياسي.
ولكن ماركيوز يعتقد أنه قد اهتدى إلى قوى معينة، في قلب المجتمع الحاضر، تستطيع أن تكون أداة عملية لإحداث عملية التغيير التي يدعو إليها. وعلى الرغم من أنه لم يقدم أي برنامج عملي مفصل للطريقة التي تستطيع بها هذه القوى أن تقلب المجتمع الراهن (وهو في ذلك يختلف عن الثوريين الأصليين، ويظل - كما قلنا - مجرد أستاذ ألماني للفلسفة)، فإنه قد أورد إشارات غير واضحة، ساعدت الأحداث على ترسيخها في الأذهان، عن الدور الذي تستطيع قوى الشباب، ممثلة في الطلبة بوجه خاص، أن تقوم به من أجل تغيير المجتمع. ولقد كان هذا الاهتمام بالطلبة، الذين ظهروا على المسرح بوصفهم قوة ثورية جديدة، هو الذي جلب لماركيوز القدر الأكبر من شهرته في السنوات الأخيرة من عمره. وكان الطلبة أنفسهم من أهم عوامل إذاعة هذه الشهرة؛ إذ إنهم أبدوا ترحيبا كبيرا بذلك المفكر الذي استطاع أن يجعل لهم دورا بارزا في تحريك أحداث العالم، في الوقت الذي كان فيه غيره من المفكرين يستبعدونهم أو يجعلون لهم دورا هامشيا فحسب. ومن جهة أخرى فإن ماركيوز ذاته وجد في ثورات الشباب تأييدا قويا لأفكاره التي نادى بها من قبل، والتي أعلن فيها أن القوى الثورية التقليدية، وهي البروليتاريا، قد فقدت ثوريتها باندماجها في المجتمع الصناعي المتقدم إلى حد أصبحت فيه تحرص على بقاء هذا المجتمع وتحافظ على طابعه الاستغلالي.
ولقد أشار ماركيوز في ختام كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» - بوجه خاص - إلى أن خلاص المجتمع لن يتم على يد أية جماعة من الجماعات المندمجة فيه، بل سيتم على أيدي «الهامشيين» والمرفوضين والمضطهدين والخارجين عن نطاق عملية الإنتاج. وعلى الرغم من أن هذه الإشارة كانت، في نظر كثير من الكتاب، تعبيرا عن اليأس والشعور بالعجز عن إحداث تغيير حقيقي في المجتمع القائم، فإن الشباب أنفسهم قد رحبوا بها ووجدوا فيها دليلا على أنهم أصبحوا الورثة الحقيقيين لروح الثورة في العالم. ولقد كان من الطبيعي أن تجد هذه الفكرة رواجا بين شباب العالم، ولا سيما في البلاد الصناعية المتقدمة بأمريكا وأوروبا؛ إذ إن الشباب في هذه البلاد مهيأ نفسيا للفكرة القائلة إنه مرفوض ومنبوذ، وأن الكبار لا ينصتون إليه ولا يتركون له دورا في تحديد مجرى الأحداث. وتكاد المشكلة الرئيسية للمراهقين في هذه البلاد أن تكون عدم إصغاء الكبار إليهم، وعدم تجاوبهم معهم؛ لأن هؤلاء الكبار منصرفون بكل قواهم إلى أعمالهم الإنتاجية، التي لا تترك لهم وقتا للتفاهم مع أبنائهم. ومن هنا فإنه حين يأتي مفكر مثل ماركيوز لكي يؤكد أن هؤلاء المرفوضين هم مخلصو البشرية الجدد فلن يكون من المستغرب أن يتعلق به الشباب ويروا فيه المفكر الناطق بلسانهم.
ومن ناحية أخرى فقد كان من الطبيعي أن يرحب الشباب بفيلسوف ينادي بانتهاء عهد الكبت والقهر، وبسيادة الإيروس على اللوجوس، أو الغريزة الحيوية على العقل، ويدعو إلى إحياء قدرات الإنسان الخيالية في مقابل قدراته المنطقية، ويجعل من الاستمتاع بالحب والجمال هدفا أسمى لحياة الإنسان في المجتمع الجديد. كل هذه تشكل في واقع الأمر أحلاما تراود الشباب في كل عصر، ويزداد إلحاحها عليهم في عصرنا الذي تسوده الروح التجارية، وفي المجتمعات التي تسير في كل أمورها وراء دافع الربح. ومن المؤكد أن دعوة ماركيوز إلى تقييد النزوع الاستهلاكي، وتأكيده لأضرار هذا النزوع على الشخصية الإنسانية، تتجاوب مع مثالية الشباب ونزوعه إلى الزهد في المطالب المادية، وهو ذلك الزهد الذي لا يتعارض على الإطلاق مع انطلاق الشباب وراء قيم الحب والجمال.
ولكننا نلاحظ، من جهة أخرى، أن ماركيوز حين يؤكد الحاجة إلى الأمان والحياة الراضية المسالمة، وإلى استمتاع الفرد «بمجال خصوصي» ينفرد به يبتعد دون أن يشعر عن جو الشباب، ويعبر بالتالي عن نفسه تعبيرا أصدق؛ ذلك لأن هذه القيم أشبه ما تكون بقيم العجائز الذين لا يريدون من الدنيا إلا «الستر». ومن المحال أن يستجيب الشباب، في توثبهم وانطلاقهم وسعيهم إلى المغامرة وارتياد آفاق جديدة مجهولة، لهذه الدعوة إلى المسالمة والأمان والهدوء والتهدئة. إن ماركيوز يريد أن يحيل الناس - بعد أن يصبح الإنتاج آليا يسيرا لا يقتضي منهم إلا أقل جهد - إلى «التقاعد»، ويجعلهم أشبه بمن ينشدون الهدوء والسلام و«الخصوصية» في مأوى منعزل بعد بلوغهم مرحلة الشيخوخة. وهذا، في رأيي، هو الذي يعبر عن موقف ماركيوز الحقيقي؛ إذ إنه مما يتمشى تماما مع تفكير شيخ مسن أن يدافع عن قيم العجائز. أما الدفاع الحار عن «الإيروس» - وهو دفاع يتناقض مع هذا الموقف تناقضا واضحا - فيبدو لي أقرب إلى الرغبة في تملق الشباب منه أي شيء آخر. إنه في حقيقة الأمر تدليل، بل تضليل للشباب؛ لأن المجتمعات لا تبنى على أساس من قيم الحب العاشق وحده. وهو يكاد يصل إلى مرتبة النفاق الصريح إذ يجعل من المبدأ الذي يدور حوله اهتمام الشباب أساسا لحياة كاملة من نوع جديد. وليس الدليل على ذلك هو تناقضه مع قيم الهدوء والمسالمة والانعزال فحسب، بل ربما كان الدليل الأقوى عليه هو تطرف ماركيوز - وهو شيخ عجوز ناهز السبعين - في تأكيد أهمية الجنس والحب إلى حد جعله مهمة رئيسية يتفرغ لها الإنسان في المجتمع الجديد.
على أن عيوب ماركيوز هذه كانت فضائل في نظر الشباب. وكذلك كان الحال في تأكيده فكرة الرفض السلبي، دون أية إشارة إلى الطريقة الإيجابية لبناء المجتمع الجديد؛ ذلك لأن مرحلة الشباب بأسرها تتميز من الوجهتين النفسية والعقلية بالاتجاه إلى رفض القديم والتقليدي والشائع، دون قدرة على الاستبصار لما يحل محله. والمفروض أن هذا الاستبصار سيأتي في مرحلة النضج، وإن كان من المحتمل ألا يأتي على الإطلاق. ولقد توقف ماركيوز عند حدود التعبير السلبي؛ فهو «يكره» هذا المجتمع، ولا «يريده»، ولكنه لا يتغلغل في تياراته واتجاهاته بطريقة علمية حتى يستطيع أن يغيرها على أساس سليم. ومن المؤكد أن هذا الطابع العاطفي، الانطباعي السريع، هو الذي جعله مقربا إلى كل من يمر بمرحلة العمر التي يصدر فيها المرء أحكامه على أسس عاطفية، ويكون فيها قبوله لأي شيء أو رفضه له مبنيا على حبه أو كراهيته له، لا على تحليل موضوعي هادئ للأمور.
وليس معنى ذلك أن ماركيوز لم يحاول أن يقدم صورة إيجابية للعالم الجديد، وإنما معناه أن أقوى العناصر في تفكيره هو العنصر السلبي، وأن إعجاب الشباب به يرجع أساسا إلى دعوته إلى «الرفض الأعظم» الذي يتمشى تماما مع سخطهم على الأوضاع ورغبتهم في تغييرها. أما إلى أي شيء يكون هذا التغيير، فهذا ما لم يفصل ماركيوز الكلام فيه، وما لم يبحثه إلا بطريقة سريعة لا تقدم تحليلا علميا لطريقة الانتقال إلى المجتمع الجديد، ولمراحل هذا الانتقال ووسائله، ولا تزودنا بأي برنامج مفصل لما سيحدث بعد ثورة السلب. (ج) من الطلاب إلى العالم الثالث
على الرغم من أهمية الدور الذي نسبه ماركيوز إلى الشباب، وإلى الطلاب بوجه خاص، في تحريك دفة الأحداث في عالمنا المعاصر، فإنه لم يكن يؤمن بأنهم هم وحدهم القوة القادرة على تحقيق التحول إلى المجتمع الجديد. فإذا كان الطلاب يعيشون على هامش المجتمع الصناعي «في داخله» فإن هناك فئة أخرى تعيش على هامش هذا المجتمع «خارجه»، هي الثوار في العالم الثالث. إنهم بدورهم مضطهدون، هامشيون، لم تلوثهم حياة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولم يلتزموا بعد بقيمها التجارية الانتهازية؛ فالطلبة، بكل ما يقومون به من حركات متمردة، ليسوا هم القوى الثورية ذاتها، كما أن الشباب الثائر على التقاليد، من أمثال الهيبز وغيرهم ليسوا خلفاء البروليتاريا وورثتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما هم يكتشفون بسلوكهم عن رفض المجتمع القائم ورفض التمتع بمزايا الوفرة التي يقدمها هذا المجتمع، وكذلك رفض قيمه التجارية وإحلال قيم الحب والجمال محلها. ولذلك فهم بدورهم مظهر مبكر من مظاهر نفي هذا المجتمع، ولكنهم ليسوا هم أنفسهم الثوار. وإنما الثوار هم الجماعات المضطهدة والمطحونة من الأقليات في قلب المجتمع الرأسمالي، وهم قبل هؤلاء وأولئك، جبهات التحرير في بلاد العالم الثالث المتخلفة.
2
ومن السهل أن يدرك المرء سبب اهتمام ماركيوز بالعالم الثالث. ذلك لأن الواقع قد أثبت، مما لا يدع مجالا للشك، أن الهزة الحقيقية التي زعزعت أركان المجتمع الرأسمالي كانت ثورات التحرير التي نشبت في بلاد متخلفة؛ فالتغيير الذي أحدثته ثورة الجزائر في فرنسا، والذي أحدثته ثورة فيتنام في فرنسا أولا ثم في قلب الولايات المتحدة، قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، كان تغييرا هائلا لا تزال آثاره تتكشف يوما بعد يوم، حتى في المجالات التي تبدو بعيدة الصلة عن المجال العسكري المباشر. ولم يكن في استطاعة ماركيوز أن يتجاهل هذه الحقيقة الواضحة لكي يتعلق بالحركات الطلابية التي هي، على أحسن الفروض، حركات ذات أثر محدود. وعلى أية حال فلم يكن هناك أدنى تعارض بين الاهتمام بالشباب والاهتمام بالثورات التحررية في العالم الثالث؛ إذ إن الشباب أنفسهم، في البلاد الصناعية المتقدمة، قد تبنوا قضية التحرر وثاروا على نظم الحكم في بلادهم من أجلها؛ أي أن ماركيوز لم يخرج عن نطاق رغبات الشباب حين جعل أمل الإنسانية في التحرر معلقا بثورات المجتمعات المتخلفة.
وهكذا ربط ماركيوز بين حركات الطلاب وثورات العالم الثالث فقال: «ينبغي أن تنجح معارضة الطلاب في أن تجعل من العالم الثالث ومن ممارسته الثورية قاعدتها الجماهيرية الخاصة.» وعبر عن أمله في البلاد المتخلفة بقوله: «إن البلاد المتخلفة هي النفي الإنساني الحي للنظام القائم.» ومن هنا كان أمله يتجه إلى قيام تعاون وتنسيق بين حركات الطلاب والمعارضة في البلاد الرأسمالية من جهة، وبين جماهير الثوار في العالم الثالث من جهة أخرى.
هذا الاهتمام المفاجئ بالعالم الثالث، في كتابات ماركيوز الأخيرة، يدل في نظرنا على أمرين: أولهما أن ماركيوز لم يكن في هذه الناحية من المفكرين الذين يسبقون الأحداث، بل كان يدع الأحداث تسبقه ثم يسير في تيارها. وهو يدل ثانيا على أن احتمال التملق قائم على الدوام في المواقف التي يتخذها، أو ينتقل إليها؛ إذ إن ثوار العالم الثالث، مثل جيفارا وهوشي منه، أصبحوا المعبودين الحقيقيين للشباب في البلاد الرأسمالية، ومن هنا كان على كل من يريد التقرب إلى الشباب أن يمجدهم.
وربما وجد القارئ في هذا الحكم شيئا من الإسراف في إساءة الظن، ولكن واقع الأمر هو أن ماركيوز قد تذكر «العالم الثالث» فجأة بعد طول نسيان، بل بعد تجاهل تام. فتحليلاته كلها كانت تنصب على المجتمع الصناعي المتقدم، الذي يدرج فيه النظام الرأسمالي الغربي والنظام السوفيتي على السواء. وانتقاداته كانت موجهة إلى الإنسان في هذا المجتمع، الذي تهدده أساليب الإدارة والقمع وتطبيق التكنولوجيا الحديثة في التسلط على عقول الناس وأذواقهم. هذا الإنسان هو الذي تتعرض حياته للتسطيح ونفسيته للتزييف نتيجة للتصنيع الشامل.
وعلى الرغم من أن ماركيوز يؤكد أن هذه الأخطار تهدد الإنسان بما هو إنسان، ولا تهدد طبقة بعينها، فإن المعنى الحقيقي لما يقول هو أن الإنسان في مجتمعات متقدمة معينة معرض لأخطار لا يعرفها الإنسان في المجتمعات المتخلفة. ولقد أراد ماركيوز - عمدا - أن يتجاهل هذه المجتمعات المتخلفة تجاهلا شبه تام، مثلما تجاهل أفلاطون الطبقة الثالثة (طبقة الصناع والمشتغلين بالمهن اليدوية والمادية) ولم يجعل لها أي دور في مشروعه، مع أن كلا من ماركيوز وأفلاطون كان يعلم أن الفئة التي تجاهلها هي التي تشكل أغلبية المجتمع.
لقد ظل ماركيوز يفكر في مشكلات المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، وعندما أدرك أن جميع طرق الإصلاح مسدودة أمام هذه المجتمعات إذا اقتصرت على قواها الخاصة، تذكر العالم الثالث في اللحظة الأخيرة (عندما كان العالم الثالث، ممثلا في فيتنام، قد أثبت بما لا يدع مجالا للشك أنه يستطيع أن يصمد في وجه العالم الصناعي المتقدم، بل أن يزعزع أركانه من داخله) ولكن هذا الاستدراك الذي أتى على عجل، بدافع الرغبة في ملاحقة تيار الأحداث، إنما يزيد من حدة التناقض في تفكير ماركيوز السياسي؛ ذلك لأن الثورة التي يدعو إليها، والتي يريدها أن تكون ثورة «شاملة»، لا تفهم ولا تقدر إلا في المجتمع الرأسمالي على وجه التخصيص ولا مكان فيها لإنسان العالم الثالث.
إن العلل التي يشكو منها ماركيوز، والأهداف التي يريد أن تقوم الثورة من أجلها، لا تعني شيئا بالنسبة إلى إنسان العالم الثالث، على الرغم من ادعاء ماركيوز أن الثورة ينبغي أن تجتاح العالم كله، وأنها ثورة «إنسانية» لا ثورة محلية أو طبقية. فكل حديث ماركيوز عن الروح الاستهلاكية المفرطة في المجتمع الصناعي المتقدم، وعن الحاجات الزائفة التي يخلقها هذا المجتمع في نفوس أفراده لكي يستطيع تصريف منتجاته، لا بد أن يثير العجب والتساؤل في ذهن إنسان العالم الثالث الذي لا يعرف مجتمعه مشكلة تصريف الإنتاج الفائض، ولا مشكلة تزييف رغبات الناس باستخدام أحدث أساليب الإعلان وفنون الحض والتأثير والإغراء. بل إن مشكلة المجتمع المتخلف هي أنه لا يفي بالحد الأدنى من الحاجات الضرورية، ولا مجال لديه للمفاضلة بين حاجات حقيقية وحاجات زائفة.
أما الهدف الذي ينبغي أن تسعى إليه الإنسانية، وهو السعي إلى الأمن وطمأنينة النفس، ونشدان قيم الحب والجمال؛ فهو هدف لا يشكل أي إغراء لمجتمعات الفقر والجوع. إن البحث عن الحب والجمال أمر مفهوم في مجتمع غني ابتعد الإنسان فيه عن جذوره الطبيعية في زحمة الإنتاج العقلاني المنظم الصارم. أما المجتمع الذي ينشد الحد الأدنى من وسائل العيش، والذي تعد الوفرة الإنتاجية بالنسبة إليه حلما بعيدا، فمن العبث أن نغريه بالدعوة إلى «تجاوز» حياة الوفرة، والكف عن الاهتمام بزيادة الإنتاج.
والإنسان الذي لم يزل - بحكم الجهل المستحكم - يفكر تفكيرا أقرب إلى الأسطورة اللاعقلية، والذي لم يستطع أن يتباعد عن حياة الطبيعة ليخلق لنفسه مجتمعا صناعيا كاملا، لن يفهمنا لو دعوناه إلى الحد من سيطرة العقل والعودة إلى منابع الحياة الطبيعية. والإنسان الذي لا يزال في أول طريق السيطرة على مقدراته، والذي يحتاج إلى خوض معارك ضارية (بالمعنى المادي والمعنوي) لكي يتخلص من الاستغلال ومن آثار الاستعمار والقوى الغاضبة، لن يسير وراءنا لو قلنا إن هدفنا النهائي هو الوصول إلى عالم يسوده الهدوء والأمان والحياة والمسالمة.
إن ما يبحث عنه ماركيوز هو مجتمع ما بعد الوفرة وما بعد التقدم التكنولوجي، وهذا هدف لا يغري سوى مجتمعات محدودة، هي المجتمعات التي تنشد استعادة إنسانيتها التي فقدتها في غمرة الانشغال بالإنتاج والاهتمام بالتوسع الاقتصادي. ومن هنا كانت صورة العالم الجديد التي يقدمها إلينا ماركيوز لا تعني شيئا، ولا تشكل إغراء، بالنسبة إلى مجتمع يريد أن ينقذ نفسه من الفقر والجوع، وينتشل نفسه من الجهل والمرض، أما الحب والجمال ففي استطاعتهما الانتظار!
وربما بدا للقارئ أن كل هذا النقد الذي نوجهه إلى ماركيوز لا محل له؛ لأنه اعترف صراحة بأنه إنما يتحدث عن المجتمع الصناعي المتقدم، ولم يزعم أنه يصف أحوال البلاد المتخلفة. ولكن هذا الرد، مع صحته، لا يعفي ماركيوز من النقد؛ ذلك لأنه عندما دعا إلى الثورة كان يردد على الدوام أن تلك ثورة إنسانية شاملة تسري على جميع الشعوب، بينما هي، في مفهومها ذاته لا معنى لها إلا بالنسبة إلى مجتمعات بشرية محدودة. ومع ذلك فحتى لو تصورنا أن هذه الثورة قامت في المجتمعات الصناعية المتقدمة وحدها، فإن الصورة ستصبح عندئذ أشد غرابة؛ إذ إن هذه المجتمعات ستكون عندئذ قد انتقلت إلى تحقيق أقصى غاياتها، وعاشت في جنة الحب والجمال والسلام، على حين أن الجزء الأكبر من البشرية لا يزال يكافح من أجل لقمة العيش. ومما يزيد الموقف سوءا، أن نفس القيم التي يدعو ماركيوز إلى سيادتها في مجتمعه السعيد، تساعد على زيادة حدة التناقض، بل وتحبط نفسها بنفسها؛ ذلك لأن «الحياة الراضية» لن تعود راضية على الإطلاق إذا شعر المرء بأن أقرانه يتضورون جوعا ويعانون شتى ألوان الحرمان وحتى لو اكتفى من يعيش في مثل هذا المجتمع بتنمية مواهبه وقدراته الخاصة، دون اكتراث بغيره (وهو أمر غير مستبعد ما دام المثل الأعلى للمرء هو أن يعيش في هدوء ويستمتع بالحب والجمال)، فإن دلالة القيم التي يعيش وفقا لها ستتحول عندئذ إلى عكس المقصود منها، وستصبح قيما للأنانية واللامبالاة.
ومجمل القول إن ماركيوز تجاهل العالم الثالث ولم يترك له مكانا في مشروعه الذي لا يخاطب به إلا مجتمعا يعاني من مشكلات التقدم الزائد، لا من مشكلات التخلف؛ ولذلك فإن الثورة التي يدعو إليها لا يمكن أن توصف بأنها إنسانية، بل هي ثورة محدودة ببيئة معينة لا يكون لها خارجها أي معنى. فإذا نادى بعد ذلك بأن حركات التحرير في العالم المتخلف هي التي ستنقذ العالم المترف ذاته من عيوبه، كان نداؤه هذا منطويا على قدر غير قليل من المغالطة، بل من النفاق. ذلك لأنه يطالب البلاد المتخلفة بأن تواصل استنزاف دمها ببطء - كما تفعل فيتنام - لا من أجل تحررها الخاص فحسب، بل من أجل إصلاح الفساد داخل المجتمعات المتقدمة ذاتها. إنه يطالبها بأن تكون المسيح الذي يفتدي خطايا الآخرين وهو يقطر دما على صليبه. وبدلا من أن يدعو إلى الكفاح داخل هذه المجتمعات المتقدمة، من أجل تخليصها من عيوبها، نراه يؤكد أن حركات السخط في داخلها ليست فعالة إلا بقدر ما تتحالف مع حركات التحرير في البلاد المتخلفة، وكأنه بذلك يعلن أن إصلاح أحوال المتقدم من داخله أمر ميئوس منه. والحق أن المرء لو وصف موقفه هذا من البلاد المتخلفة بأنه رومانتيكية فكرية تطالب هذه البلاد بأن تكون هي الشهيدة التي تفتدي المترفين الفاسدين، لكان في هذا الوصف قدر غير قليل من حسن الظن، وربما كان الوصف الأدق هو أن هذا الموقف ينطوي على تواطؤ موضوعي (بغض النظر عن النوايا المعلنة) مع النظم القائمة في البلاد المتقدمة صناعيا، ما دام المعنى الضمني فيه هو أنه لا توجد داخل هذه البلاد قوى ثورية تستطيع تغيير الأوضاع فيها. (د) هل كان ماركيوز عدوا للرأسمالية؟
لا جدال في أن هذا النقد الأخير يثير، من الجذور، مسألة موقف ماركيوز من الرأسمالية. ذلك أن ماركيوز قد اكتسب شهرته، في السنوات الأخيرة من حياته، بوصفه ناقدا جادا للرأسمالية، التي عاش في أعظم بلادها وأقواها، وهي الولايات المتحدة، فترة طويلة من عمره استطاع خلالها أن يراقب الأمور فيها عن كثب، ويقدم تحليلا دقيقا وعميقا لكثير من الظواهر السائدة فيها، وهو تحليل يزداد المرء إيمانا بدقته إذا مر بتجربة معايشة هذا المجتمع.
ولعل أول الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو السؤال عن المنهج الذي اتبعه ماركيوز في تحليل المجتمع الرأسمالي. ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال ليست بالأمر اليسير؛ لأن ماركيوز لم يعلن عن رأيه في منهج البحث الاجتماعي، بل لم يقدم آراءه أصلا بوصفه عالم اجتماع، وإنما قدمها بوصفه فيلسوفا متأملا للمجتمع، وكانت نظرته العامة إلى المجتمع، كما عرضناها من قبل، مزيجا من الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. ومع ذلك ففي استطاعتنا أن نهتدي إلى إجابة معقولة عن هذا السؤال بالرجوع إلى موقفه من علم الاجتماع في نشأته الأولى ؛ ذلك لأن النشأة الأولى ارتبطت بالفلسفة الوضعية التي كان أوجست كونت رائدا لها. والوضعية في رأي ماركيوز مذهب فلسفي يقف من النظم القائمة موقف القبول والدفاع والتبرير. ومن هنا كان البحث الاجتماعي التقليدي متجها في معظم الأحيان إلى تأييد الأوضاع القائمة أو السكوت عليها على الأقل، وكان من المستحيل أن يتخذ العلماء الاجتماعيون التقليديون موقف الرفض من المجتمع السائد؛ لذلك كان ماركيوز حريصا كل الحرص على تجنب كل منهج وضعي رغبة منه في إفساح مجال لفكرته في السلب والرفض وفي ترك المجال مفتوحا للتجاوز والتمرد والخيال الثوري الذي يسهم في تغيير الواقع.
ولقد رفض ماركيوز أساليب البحث المتبعة في المجتمع الأمريكي، على التخصيص؛ لأنها تبنى على نظرة «ذرية» أو تفتيتية إلى المجتمع، وتغوص في تحليل التفاصيل، وفي الجداول والإحصائيات والأرقام دون أن تبذل أي جهد لإدراك الصورة العامة، ولمناقشة الأسس الأولى للمجتمع. هذه العملية الزائفة، التي يتعلل بها الباحث كيما يتجنب إصدار أي حكم عام، تقف حائلا بين العقل وبين فهم المجتمع. ومما يزيد هذا الفهم صعوبة، تلك اللغة الاصطلاحية الشديدة التعقيد، التي يصطنعها باحثو المجتمع ويتوارثونها، بعد إضافة المزيد من التعقيدات عليها، جيلا بعد جيل، وهي لغة تشكل حاجزا يربك العقول ويخفي الصورة الحقيقية القبيحة للمجتمع. إن الروح السائدة في مثل هذا البحث الاجتماعي هي روح الرضوخ والامتثال والمسايرة
Conformisme ؛ إذ إن البحث لا يزيد عن أن يكون معرفة بالوقائع على ما هي عليه، وبدور كل فرد ووظائفه، لا بأهداف المجتمع ككل. والواقع أن هذا النوع من المعرفة يخدم أهداف الترشيد الوظيفي لكل العمليات الفردية في الجهاز المعقد الذي يضعه المجتمع الرأسمالي، ولكنه لا يفيد في معرفة المسار الكلى للجهاز الكامل، ويتستر على اللامعقولية الكامنة في حياة المجتمع؛ إذ يخفيها في خضم التفصيلات الجزئية. ومن هنا كان ماركيوز على حق حين سمى الوضعية والإجرائية
Operationalisme
والوظيفية
Fonctionalisme
بأنها «الشكل النظري العقلاني لنظام لا عقلي».
لهذه الأسباب كلها، ولأن ماركيوز كان على الدوام فيلسوفا؛ فقد اصطنع لنفسه منهجا هو أقرب إلى الانطباعات الخاصة منه إلى البحث الموضوعي المنظم. وصحيح أن هذه الانطباعات الخاصة كانت عميقة في كثير من الأحيان، ولكن الخطر الذي يهدد هذا المنهج الانطباعي هو أنه قد يكون مرتكزا على أحكام نمطية مستمدة من نفس المجتمع «ذي البعد الواحد» الذي يريد أن ينقده. وسوف نرى بعد قليل أمثلة لهذه الأحكام النمطية التي أخذ بها ماركيوز دون مناقشة، وكانت لها في فكره نتائج خطيرة. ولعل أخطر هذه النتائج هي توقفه عند حد الرفض بطريقة انفعالية، وعجزه عن تحليل العلاقات الموضوعية في المجتمع الذي ينقده بطريقة علمية مدروسة.
فهل استطاع ماركيوز بمنهجه هذا، أن يقدم نقدا حقيقيا للمجتمع الرأسمالي؟ أو لنتساءل بتعبير أدق: هل كانت الحصيلة النهائية لنقد ماركيوز في صالح المجتمع الرأسمالي أم في غير صالحه؟
من المؤكد أن ماركيوز قد وجه إلى النظام الرأسمالي انتقادات تمس هذا النظام في صميمه، ومن المؤكد أيضا أن أفكاره كانت عاملا من عوامل تنبه الأذهان - ولا سيما بين الأجيال الشابة - إلى عيوب نظام يجيد إخفاء نقائصه ويعرف كيف يكسوها رداء براقا شديد الإغراء. ولا بد للمرء أن يعترف بأن بعضا من أفكار ماركيوز الأساسية مثل «أحادية البعد» في المجتمع الرأسمالي، وفكرة اندماج القوى المضادة للمصالح السائدة داخل النظام نفسه بطريقة تؤدي إلى كبت التغير الاجتماعي وتحول الطبقات العاملة إلى قوى مؤيدة للنظام، واستخدام مستوى المعيشة المرتفع وسيلة لتقييد حرية الإنسان والقضاء على ثوريته، والعيوب التي تتولد عن «الوعي الاستهلاكي السعيد»، وضحالة الثقافة التي تسود هذا المجتمع وسطحيتها ونزوعها إلى المسايرة - هذه الأفكار أصبحت تكون جزءا لا يتجزأ من نظرة المثقفين المستنيرين إلى المجتمع الرأسمالي. وعلى الرغم من أن ماركيوز لم يكن أول من قال بها، فلا جدال في أنه أسهم بدور كبير في نشرها.
ومع ذلك فإن التحليل الدقيق لآراء ماركيوز يكشف عن نقاط التقاء خفية كثيرة بينه وبين النظام الرأسمالي. وليس يعنينا هنا أن تكون هذه النقاط متعمدة أو غير متعمدة. فمن الممكن، مثلا، أن يستنتج المرء أمورا كثيرة من حقيقة اشتغاله لمدة طويلة في أعمال لها علاقة بأبحاث المخابرات التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، وفي مراكز البحوث الخاصة بأوروبا الشرقية في جامعتين أمريكيتين كبيرتين، وهي عادة مراكز بحوث يستفيد «النظام القائم» من حصيلة أبحاثها في رسم سياسته. ولكن من الممكن، في مقابل ذلك، أن يستبعد المرء وجود أي اتجاه متعمد لديه إلى خدمة الرأسمالية؛ لأن الضربات التي وجهها إلى هذا النظام، والتي ارتبطت بمظاهرات الطلاب اليساريين في بلاد مختلفة، أقوى من أن يمكن إدخالها تحت نمط الخداع المتعمد أو التمويه والتضليل من جانب عميل يريد في حقيقة الأمر خدمة النظام القائم.
لذلك لا نود أن نقحم أنفسنا في بحث عن النوايا والمقاصد الداخلية، وإنما يكفينا أن نبحث في الحقائق الموضوعية ذاتها. فما هي إذن الوقائع الفعلية التي يمكن أن يستند إليها المرء في قوله إن ماركيوز كان، في بعض جوانب تفكيره، يخدم النظام الرأسمالي من الوجهة الموضوعية؟ (1)
كان نقد ماركيوز ينصب أساسا على «المجتمع الصناعي المتقدم» - يستوي في ذلك الرأسمالي منه والاشتراكي؛ فهو لا يقيم وزنا كبيرا لموقف المجتمع من وسائل الإنتاج ومشكلة الملكية، بوصفها عوامل رئيسية في استعباد الإنسان الحديث أو تحريره، وإنما المشكلة في نظره هي أن الجهاز المعقد الشامل، الذي يسود المجتمعات الحديثة المتقدمة، أيا كان النظام الاجتماعي السائد فيها، هو الذي يؤدي إلى تسطيح الإنسان الحديث وجعله ذا بعد واحد. هذا النوع من التعميم الشديد يؤدي إلى تمييع المواقف، وعدم تحديد المسئوليات، بل إن ربط الاستبداد «بالجهاز الشامل» الذي يضم الجميع، معناه التستر على الدور الخاص الذي تلعبه أقلية مستبدة تتحكم في هذا الجهاز وتكسبه اتجاهه الاستبدادي المميز حرصا منها على مصالحها الخاصة.
فموقف ماركيوز هذا يؤدي إلى نتيجتين: الأولى أنه لا يميز، داخل النظام الرأسمالي، بين الأقلية ذات المصالح الجشعة والأغلبية التي تستبد بها تلك الأقلية دون أن تكون واعية بأنها منقادة لخدمة مصالح غيرها. والثانية أنه لا يفرق بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي من حيث مسئوليتهما عن الاستبداد بالإنسان الحديث. فهو يأخذ، بطريقة ضمنية، بفكرة «تقارب النظامين» التي نادى بها مفكرون مثل «ريمون آرون» والتي تؤكد أن التكنولوجيا الحديثة تتجه تدريجيا إلى تقريب الشقة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي وإلغاء ما بينهما من فوارق. وهذا أمر واضح كل الوضوح في كل ما يقوله عن تحكم نظم الإدارة الحديثة، وأساليب الترشيد الدقيقة، في الإنسان الحديث، سواء أكان ذلك في المجتمع الرأسمالي أم الاشتراكي. ومع ذلك، فإذا كان حكم ماركيوز هذا صحيحا بالنسبة إلى تطبيقات معينة للنظم الاشتراكية، فقد كان من واجبه أن يفرق بين «المبدأ» و«التطبيق»، وأن يدرك أن النظامين الرأسمالي والاشتراكي، من حيث المبدأ، لا يمكن أن يكونا مسئولين بدرجة متساوية عن اغتراب الإنسان الحديث وفقدانه لأبعاده المتعددة. ولكنه، باتخاذه موقف الناقد للطرفين معا، لجأ إلى أسلوب يتبعه الكثيرون في عالمنا المعاصر من أجل محاربة «مبدأ» الاشتراكية في إطار مزعوم من النزاهة والموضوعية والحياد، وهو موقف يرحب به الرأسماليون كثيرا دون شك. (2)
ولقد كان ماركيوز في حديثه عن المجتمع الرأسمالي على التخصيص، يفترض دائما وجود الرخاء فيه، حتى بالنسبة إلى الطبقات العاملة. إنه حين يدعو إلى محاربة النزوع المفرط إلى الاستهلاك، يفترض أن الوفرة - التي تخدر حواس الإنسان - جزء لا يتجزأ من تركيب هذا المجتمع، وأن أدنى الطبقات في السلم الاجتماعي متمتعة بنصيب من هذه الوفرة، ومن ثم فإنها تفقد ثوريتها وتصبح جزءا من دعائم بقاء النظام القائم. هذا يعني، بصورة ضمنية ولكنها واضحة كل الوضوح أن الفقر والشقاء منعدمان في ذلك المجتمع، حتى بين الطبقات الدنيا. وتلك في الواقع فكرة تسدي إلى المجتمع الرأسمالي خدمة لا تقدر، وإن تكن خدمة مستترة وراء ستار من النقد الشديد اللهجة. وأحسب أن إنسان العالم الثالث، الذي تقف بلاده حائرة بين اختيار هذا النظام الاجتماعي أو ذاك، حين يستمع إلى رأي ماركيوز القائل إن النظام الرأسمالي يقضي على ثورية الطبقات التي هي بطبيعتها قادرة على الثورة، ويسلبها القدرة على معارضة النظام المستبد القائم؛ لأنه يمنحها الوفرة ويغرقها في نعم الحياة الاستهلاكية السعيدة، سيقول لنفسه، دون تردد: وما حاجتي إلى الثورية إن كنت سأعيش منعما؟ وما خوفي من أن أكون «ذا بعد واحد» ما دمت في حياتي الراهنة بلا أبعاد على الإطلاق؟ وفيم يعنيني أن يكون النظام مستبدا إن كان يوفر لي ضروراتي وكمالياتي؟
إن ماركيوز يسدي إلى النظام الرأسمالي، في هذا الصدد، خدمة كبرى؛ إذ يتجاهل ما يعترف به الرأسماليون أنفسهم من حقيقة وجود الفقر في بلادهم (بنسب ليست كبيرة جدا، ولكن لا يمكن تجاهلها). وهو في الوقت ذاته يتجاهل أن الفقر شيء نسبي، ويتناسى أن الإنسان يمكن أن يكون فقيرا، حتى لو كان يتقاضى مرتبا مرتفعا نسبيا؛ فمثلا، حين تكون أبسط الخدمات الصحية باهظة التكاليف، وحين يكون التعليم العالي خياليا في أسعاره، يمكن أن يكون العامل فقيرا على الرغم من أنه يتقاضى مرتبا يبدو - بمقاييس البلاد الأخرى - مرتفعا، ويتيح له أن يشتري قدرا غير قليل من السلع الاستهلاكية. وأخطر ما في الأمر أن ماركيوز يفترض انعدام الفقر بين الطبقات العاملة بطريقة ضمنية دون أن يجد في ذلك ما يستحق حتى مجرد المناقشة، وكأنه بديهية لا سبيل إلى الشك فيها. فهو يعرض الفكرة في سياق نقده للمجتمع الرأسمالي؛ إذ إن هذا المجتمع أخطأ لأنه ربط العمال بعجلة الوفرة الاستهلاكية وانتزع منهم بذلك مخالبهم الثورية. وليس هناك ما هو أخطر - من الوجهة النفسية - من هذا الأسلوب الذي يلقي بالفكرة في ذهن القارئ عرضا، بوصفها مقدمة لا تناقش. وبوصفها عنصرا من عناصر نقد نظام تؤدي هذه الفكرة ذاتها، في واقع الأمر، إلى الدفاع عنه، وذلك على الأقل في نظر الفقراء والمحرومين. (3)
كان جهد ماركيوز الأكبر، في مجال النظرية الاجتماعية، متجها إلى تفنيد الفكرة الرئيسية في النظرية الماركسية، وهي فكرة التناقض بين الطبقتين البورجوازية والعمالية. فالمجتمع الصناعي المتقدم أصبح في نظره، ذا بعد واحد، وأصبحت الطبقات القادرة على المعارضة جزءا من النظام القائم. ففي مثل هذا المجتمع إذن يسود نوع من «التجانس»، مضاد تماما «للتناقض» الذي قال به ماركس، وهذا هو الواقع الجديد الذي طرأ على المجتمع الرأسمالي، والذي يحمي نفسه به من كل ثورة . إن كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» هو، في واقع الأمر، تفنيد مفصل لنظرية التناقض الطبقي بالنسبة إلى ظروف المجتمع الصناعي الحديث. وعلى حين أن هذا التناقض، عند ماركس، لا يزول إلا إذا أقيمت علاقات اجتماعية جديدة على أسس إنسانية، فإن ماركيوز يقول بنوع آخر من اختفاء المتناقضات، يتم في إطار النظام الرأسمالي، ويحتفظ فيه بكل عناصر الكبت والقمع.
ولا يملك المرء، إذا نظر إلى هذه الفكرة في ضوء قدرة النظام الرأسمالي على المحافظة على وجوده (وهي قدرة أثبت تاريخ القرن العشرين كله أنها أعظم بكثير مما كان يتوقع خصومه)، إلا أن يعترف بأن فيها قدرا غير قليل من الصواب. ولكن ما نهدف إليه الآن ليس بيان وجه الصحة أو الخطأ، بقدر ما هو التساؤل عما إذا كانت آراء ماركيوز قد أسدت خدمات إلى النظام الرأسمالي. وفي هذه الحالة لن يتردد المرء في الإجابة عن هذا التساؤل بالإيجاب؛ ذلك لأنه عمل على تفنيد أشد النظريات تهديدا لهذا النظام، وأثبت في الوقت ذاته - ضمنيا - أن الثورة على هذا المجتمع مستحيلة، وأن الموقف فيه ميئوس منه، وأنه نجح أخيرا في اصطناع الأسلوب أو «الميكانيزم» الذي يحمي به نفسه من كل خطر يهدده. أما كلام ماركيوز عن ثورية المضطهدين والهامشيين وجماعات الأقليات والملونين ... إلخ، فهو في واقع الأمر يزيد من تأكيد يأسه من التغيير؛ إذ إنه يعلم جيدا - وكذلك يعلم قراؤه جميعا - أن هذه الجماعات لا تستطيع أن تقوم إلا بحركات انتحارية مؤقتة، وأنها لا تملك شيئا حيال الجهاز الجبار للنظام الحاكم، وليس هناك ما هو أحب إلى النظام الرأسمالي من تأكيد قدرته على مقاومة أية تغييرات يمكن أن تؤدي إلى هدمه، وعلى امتصاص كل القوى القادرة على تغييره. إن هذا - باختصار - حكم عليه بأنه سيظل باقيا إلى الأبد. (4)
وفي مقابل ذلك فإن نقد ماركيوز للنظام السوفيتي كان بدوره - من الوجهة الموضوعية - هجوما على التجربة الكبرى التي تحدت العالم الرأسمالي وما زالت تتحداه إلى اليوم. وينبغي أن نلاحظ في هذا الصدد أن نقد مفكرين من أمثال ماركيوز للنظام السوفيتي يمكن أن يكون له أعظم التأثير في العالم الغربي على وجه التخصيص؛ ذلك لأن النقد الذي يأتي من أنصار الرأسمالية الصرحاء لا يحدث صدى كبيرا، فهم على أية حال خصوم للنظام السوفيتي وللاشتراكية بوجه عام، ومن ثم لا يتوقع منهم سوى هذ الموقف النقدي، الذي يمكن الشك دائما في أنه صادر بدافع مصلحة خاصة. أما نقد ماركيوز فالمفروض أنه يصدر عن «خصم» للرأسمالية، وعن مفكر «ثوري» و«تقدمي» يصف نفسه بأنه ماركسي. وكلما ازداد ماركيوز إمعانا في اتخاذ موقف التطرف والثورية، كانت الخدمة التي يؤديها للنظام القائم أعظم حين ينقد النظام المعادي له؛ ذلك لأن من ينقد في هذه الحالة ليس عاطفا على الرأسمالية، بل هو عدوها اللدود، وهو المفكر الذي استقطب الشباب الأوروبي والأمريكي واكتسب وسطه شعبية هائلة بدعوته إلى الثورة. ومن هنا كان من السهل أن يحدث ارتباط بين عبادة الشباب لثورية ماركيوز وبين نقده للنظام السوفيتي ووضعه إياه على قدم المساواة مع النظام الأمريكي في كبته للإنسان المعاصر. بل إنه ليبدو أن إصرار ماركيوز على أن يعتبر نفسه ماركسيا، على حين كانت آراؤه في نظر الكثيرين مزيجا غير متآلف من أفكار هيجل وفرويد ونيتشه وهيدجر، بالإضافة إلى ماركس الشاب؛ هذا الإصرار يخدم غرضا هاما، هو أن يجعل نقده للماركسية السوفيتية أشد فعالية وأقوى تأثيرا.
ولعل هذه النقطة الأخيرة هي التي تتيح لنا أن نرد على تساؤل لا بد أنه جال بذهن القارئ مرات كثيرة خلال قراءته لهذا البحث، وأعني به: «كيف استطاع النظام الأمريكي أن يحتمل وجود مفكر نقده بهذه القسوة، ودعا إلى الثورة عليه بهذه الصراحة؟ أهو من قبيل «التسامح الخالص» الذي أشار إليه مركيوز في مقاله المعروف، والذي يسوي بين من ينقد المجتمع ومن يسايره ويرضخ له، وبذلك يجعل من الأول جزءا من النظام القائم؟» قد يكون الأمر كذلك بالفعل، بل قد يكون وجود المعارضين شيئا مرغوبا فيه؛ لأن نقدهم الحاد يؤدي إلى رد فعل يخدم النظام آليا؛ إذ يشعر الناس بأن النظام يكفل الحرية للجميع، وبأن لديه الشجاعة على النقد الذاتي، وهو شعور يؤدي في نهاية الأمر إلى دعم هذا النظام. وقد يكون في هذا النقد الحاد ما يمتص غضب الغاضبين وسخط الساخطين، ويحول اتجاه الثورة إلى مسارات «ثقافية» مأمونة، ويشكل صمام أمن يقلل من الضغط ويمنع بذلك الانفجار. ولكن ربما كان الأهم من هذا وذاك أن هجوم أمثال هؤلاء النقاد على النظام المضاد لا بد أن يكون هو الهجوم الأشد إقناعا، والأقوى تأثيرا في النفوس.
وربما كانت هذه العوامل جميعا هي التي تفسر انتشار كتابات مفكرين معارضين للنظامين معا، مثل ماركيوز ورايت ميلز وإريك فروم وكثيرين غيرهم، وهو الانتشار الذي وصل إلى حد أن أصبحت هذه الكتابات تحتل مكان الصدارة بين جميع الكتب الرائجة في الولايات المتحدة مثلا. ومع ذلك فإن هؤلاء الكتاب لا يمكن أن يوصفوا بأنهم يشتركون في تدبير واع لدعم النظام القائم بطريقة ذكية. ولعل الدليل القاطع على ذلك هو أن كتاباتهم تسهم، برغم كل شيء، في زيادة الوعي بعيوب هذا النظام، وتساعد بالتالي على هدمه، وإن لم تكن تساعد على تصور بديل له. ولو كان لنا أن نحكم - في جملة واحدة - على التأثير الذي تركه ماركيوز على وجه التخصيص، لقلنا إنه ساعد على دعم النظام الرأسمالي وعلى هدمه في آن واحد، وليس هذا التأثير المتناقض بمستغرب في عالمنا المعاصر المعقد. «لقد حاول ماركيوز أن يشعل نار ثورة من نوع جديد، ولكنه أخفق لأنه ظل على الدوام فيلسوفا حالما، لا ثوريا واقعيا، ولم تكن المتناقضات التي ينطوي عليها مجتمعه الجديد أقل حدة من متناقضات المجتمع الراهن التي كرس حياته لتبصير العقول بها في الشرق والغرب.»
अज्ञात पृष्ठ