وعند ذلك نظر إلى حي بن يقظان بعين التعظيم والتوقير، وتحقق عنده أنه من أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فالتزم خدمته والاقتداء به بإشارته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية التي قد تعلمها في ملته.
وجعل حي بن يقظان يستفصحه عن أمره وشأنه، فجعل أسال يصف له شأن جزيرته وما فيها من العالم، وكيف كانت سيرهم قبل وصول الملة اليهم.
وكيف هي الآن بعد وصولها إليهم، وصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط.
ففهم حي بن يقظان ذلك كله ولم ير فيه شيء على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم.
فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محق في وصفه، صادق في قوله، ورسول من عند ربه؛ فأمن به وصدقه وشهد برسالته.
ثم جاء يسأله عما جاء به من الفرائض، ووضعه من العبادات؛ فوصف له الصلاة والزكاة، والصيام والحج، وما أشبهها من الأعمال الظاهرة؛ فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه امتثالًا للآمر الذي صح عنده صدق قوله.
إلا انه بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما: أحدهما - لما ضرب هذا الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم الإلهي، وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في أمر عظيم من التجسيم، واعتقاد أشياء في ذات الحق هو منزه عنها وبريء منها؟ وكذلك في أمر الثواب والعقاب! والآمر الآخر - لم اقتصر على هذه الفرائض ووظائف العبادات وأباح الاقتناء للأموال والتوسع في المأكل، حتى بفرغ الناس بالاشتغال بالباطل، والأعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو لا يتناول أحد شيئًا إلا ما يقيم به من الرمق؛ واما الأموال فلم تكن لها عنده معنى.
وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها، والبيوع والربا والحدود والعقوبات، فكان يستغرب هذا كله ويراه تطويلًا، ويقول: إن الناس لو فهموا الآمر على حقيقته لاعرضوا عن هذه البواطل، وأقبلو على الحق، واستغنوا عن هذا كله، ولم يكن لاحد اختصاص بمال يسأل عن زكاته، أو تقطع الأيدي على سرقته، أو تذهب النفوس على أخذه مجاهرة.
وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه، أن الناس كلهم ذوو فطر فائقة، وأذهان ثاقبة، ونفوس عازمة، ولم يكن يدري ما هم عليه من البلادة والنقص، وسوء الرأي وضعف العزم، وأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلًا.
فلما اشتد إشفاقه على الناس، وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، حدثت له النية في الوصول إليهم، وإيضاح الحق لديهم، وتبييه لهم ففاوض في ذلك صاحبه أسال وسأله: هل تمكنه حيلة في الوصول اليهم؟ فأعلمه بما هم فيه من نقص الفطرة والأعراض عن آمر الله فلم يتأت له فهم ذلك، وبقي في نفسه تعلق بما كان قد أمله.
وطمع أسال أيضًا أن يهدي الله على يديه طائفة من معارفه المريدين الذين كانوا أقرب من التخلص من سواهم، فساعده على رأيه، ورأيا أن يلتزما ساحل البحر ولا يفارقاه ليلًا ولا نهارًا، لعل الله إن السني لهما عبور البحر فالتزما ذلك وابتهلا الله تعالى أن يهيء لهما من أمرهما رشدأً.
فكان من أمر الله ﷿ أن سفينة ضلت مسلكها، ودفعها الرياح وتلاطم الأمواج إلى ساحلها.
فلما قربت من البر رأى أهلها الرجلين على الشاطئ.
فدنوا منها فكلمهم أسال وسألهم أن يحملوهما معهم، فأجابوهما إلى ذلك، وأدخلوهما السفينة، فأرسل الله إليهم ريحًا رخاء حملت السفينة في أقرب مدة إلى الجزيرة التي أملاها فنزلا بها، ودخلا مدينتها، واجتمع أصحاب أسال به، فعرفهم شأن حي بن يقظان، فاشتملوا عليه شديدًا وأكبروا آمره، واجتمعوا إليه واعظموه وبجلوه، وأعلمه أسال أن تلك الطائفة هم أن تلك الطائفة هم أقرب إلى الفهم والذكاء من جميع الناس، وانه إن عجز عن تعليمهم فهو عن تعليم الجمهور أعجز.
وكان رأس تلك الجزيرة سلامان وهو صاحب أسال الذي كان يراه ملازمة الجماعة، ويقول بتحريم العزلة، فشرع حي بن يقظان في تعليمهم وبث أسرار الحكمة إليهم.
1 / 28