ثم انه بقوة فطرته، وذكاء خاطره، راى أن جسمًا لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين نفسه وذلك أنه قال: أما الجسم السماوي فهو متناه من الجهة التي تليني والناحية التي وقع عليها حسي، فهذا لا شك فيه لأنني أدركه ببصر، وأما الجهة التي تقابل هذه الجهة، وهي التي يداخلني فيها الشك، فاني أيضًا أعلم من المحال أن تمتد إلى غير نهاية، لأني إن تخيلت أن خطين اثنين، يبتدئان من هذه الجهة المتناهية، ويمران في سمك الجسم إلى غير نهاية حسب امتداد الجسم، ثم تخيلت أن أحد هذين الخطين، قطع منه جزء كبير من ناحية طرفه المتناهي، ثم أخذ ما بقي منه شيء واطبق الخط المقطوع منه على الخط الذي لم يقطع منه شيء، وذهب الذهن كذلك معهما إلى الجهة التي يقال إنها غير متناهية، فأما أن نجد خطين أبدًا يمتدان إلى غير نهاية ولا ينقص أحدهما عن الأخر، فيكون الذي قطع منه جزء مساويًا للذي لم يقطع منه شيء وهو محال، كما أن الكل مثل الجزء المحال؛ واما أن لا يمتد الناقص معه ابدًا، بل ينقطع دون مذهبه ويقف عن الامتدادمعه، فيكون متناهيًا، فإذا رد عليه القدر الذي قطع منه أولًا، وقد كان متناهيًا، صار كله أيضًا متناهيًا، وحينئذ لا يقصر عن الخط الأخر الذي يقطع منه شيء، ولا يفضل عليه فيكون إذن مثله وهو متناه، فذلك أيضًا متناه، فالجسم الذي تفرض فيه هذه الخطوط متناه، وكل جسم يمكن أن تفرض فيه هذه الخطوط، فكل جسم متناه.
فإذا فرضنا أن جسمًا غير متناه، فقد فرضنا باطلًا ومحالًا.
فلما صح عنده بفطرته الفائقة التي لمثل هذه الجهة، أن جسم السماء متناه، أراد أن يعرف على أي شكل هو، وكيفية انقطاعه بالسطوح التي تحده.
فنظر أولًا إلى الشمس والقمر وسائر الكواكب، فرأها كلها تطلع من جهة المشرق، وتغرب من جهة المغرب، فما كان يمر على سمت رأسه، رأه يقطع دائرة عظمى، وما مال عن سمت رأسه إلى الشمال أو إلى الجنوب، رأه يقطع دائرة أصغر من تلك.
وما كان أبعد عن سمت الرأس إلى أحد الجانبين، كانت دائرته أصغر من دائرة ما هو أقرب.
حتى كانت أصغر الدوائر التي تتحرك عليها الكواكب، دائرتين اثنتين: إحداهما حول القطب الجنوبي، وهي مدار سهيل، والاخرى حول القطب الشمالي، وهي المدار الفرقدين.
ولما كان مسكنه على خط الاستواء الذي وصفناه أولًا، كانت هذه الدوائر كلها على سطح آفة.
ومتشابهة في الجنوب والشمال وكان القطبان معًا ظاهرين له، وكان يترقب إذا طلع كوكب من الكواكب على دائرة كبيرة، وطلع كوكب آخر على دائرة صغيرة، وكان طلوعهما معًا، فكان يرى غروبهما معًا.
واطرد له في ذلك جميع الكواكب وفي جميع الأوقات، فتبين له بذلك أن الفلك على شكل الكرة، وقوى ذلك في اعتقاده، ما رآه من رجوع الشمس والقمر وسائر الكواكب إلى المشرق، بعد مغيبها بالمغرب، وما رآه أيضًا من أنها تظهر لبصره على قدر واحد من العظم في حال طلوعها وتوسطها وغروبها، وأنها لو كانت حركتها على غير شكل الكرة لكانت لا محالة في بعض الأوقات، أقرب إلى بصره منها في وقت آخر، ولو كانت كذلك، لكانت مقاديرها واعظامها تختلف عند بصره فيراها في حال القرب أعظم مما يراها في حال البعد، لاختلاف أبعادها عن مركزه حينئذ بخلافها على الأول.
فلما لم يكن شيء من ذلك؛ تحقق عنده كروية الشكل.
وما زال يتصفح حركة القمر، فيراها آخذه من المغرب إلى المشرق وحركات الكواكب السيارة كذلك، حتى تبين له قدر كبير من علم الهيئة، وظهر له أن حركتها لا تكون إلا بأفلاك كثيرة، كلها مضمنة في فلك واحد، هو أعلاها.
وهو الذي يحرك الكل من المشرق إلى المغرب في اليوم والليلة.
وشرح كيفية انتقاله.
ومعرفة ذلك يطول؛ وهو مثبت في الكتب، ولا يحتاج منه في غرضنا إلا للقدر الذي أردناه.
1 / 13