وكان يرى إن الهواء إذا ملئ به زق جلد، وربط ثم غوص تحت الماء طلب الصعود وتحامل على من يمسكه تحت الماء، ولا يزال يفعل ذلك حتى يوافي موضع الهواء، وذلك بخروجه من تحت الماء فحينئذً يسكن ويزول عنه ذلك التحامل والميل إلى جهة العلو الذي كان يوجد منه قبل ذلك.
ونظر هل يجد جسمًا يعرى عن إحدى هاتين الحركتين أو الميل إلى إحداهما في الوقت ما؟ فلم يجد ذلك في الأجسام التي لديه، وانما طلب ذلك، لانه طمع أن يجده، فيرى طبيعة الجسم من حيث هو جسم، دون أن تقترن به وصف من الأوصاف، التي هي منشأ التكثر.
فلما أعياه ذلك ونظر إلى الأجسام التي هي أقل الأجسام حملًا للأوصاف فلم يرها تعرى عن أحد هذين الوصفين بوجه، وهما اللذان يعبر عنهما بالثقل والخفة فنظر إلى الثقل والخفة، هل هما للجسم من حيث هو جسم؟ أو هما لمعنى زائد على الجسمية؟ فظهر له أنهما لمعنى زائد على الجسمية لانهما لو كانا للجسم من حيث هو جسم، لما وجد إلا وهما له.
ونحن نجد الثقيل لا توجد فيه الخفة، والخفيف لا يوجد فيه الثقل، وهما لا محالة جسمان ولكل واحد منهما معنى منفرد به عن الأخر زائد على جسميته.
وذلك المعنى، الذي به غاير كل واحد منهما الآخر، ولولا ذلك لكانا شيئًا واحدًا من جميع الوجوه.
فتبين له أن حقيقة كل واحد من الثقيل والخفيف، مركبة من معنيين: أحدهما ما يقع فيه الاشتراك منهما جميعًا، وهو معنى الجسمية؛ والآخر ما تنفرد به حقيقة كل واحد منهما على الاخر، وهما أما الثقل في احدهما واما الخفة في الاخر، المقترنان بمعنى الجسمية، أي المعنى الذي يحرك أحدهما الأخر علوًا والأخر سفلًا.
وكذلك نظر إلى سائر الأجسام من الجمادات والأحياء، فرأى أن حقيقة وجود كل واحد منهما مركبة من معنى الجسمية، ومن شيء أخر زائد على الجسمية: أما واحد، واما أكثر من واحد؛ فلاحت له صور الأجسام على اختلافها وهو أول ما لاح له من العالم الروحاني، اذ هي صور لا تدرك بالحس، وانما تدرك بضرب ما من النظر العقلي.
ولاح له في جملة ما لاح من ذلك، أن الروح الحيواني الذي مسكنه القلب - وهو الذي تقدم شرحه أولًا - لابد له أيضًا من معنى زائد على جسميته يصلح بذلك المعنى لأن يعمل هذه الأعمال الغريبة، التي تختص به من ضروب الاحساسات، وفنون الادراكات وأصناف الحركات، وذلك المعنى هو صورته وفضله الذي انفصل به عن سائر الأجسام، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس الحيوانية.
وكذلك ايضًا للشيء الذي يقوم للنبات مقام الحار الغريزي للحيوان، شيء يخصه هو صورته، وهو الذي يعبر عنه النظار بالنفس النباتية.
وكذلك لجميع الأجسام الجمادات: وهي ما عدا الحيوان والنبات مما في عالم الكون والفساد شيء يخصها به، يفعل كل واحد منها فعله الذي يختص به مثل صنوف الحركات وضروب الكيفيات المحسوسة عنها، وذلك الشيء هو صورة كل واحد منها، وهو الذي يعبر النظار عنه بالطبيعة.
فلما وقف بهذا النظر على ان حقيقة الروح الحيواني، الذي كان تشوقه اليه ابدًا، مركبة من معنى الجسمية، ومن معنى أخر زائد على الجسمية، وان معنى الجسمية مشترك، ولسائر الأجسام، والمعنى الأخر المقترن به هو وحده، هان عنده معنى الجسمية فاطرحه، وتعلق فكره بالمعنى الثاني، وهو الذي يعبر عنه النفس؛ فتشوق إلى التحقق به فالتزم الفكرة فيه، وجعل مبدأ النظر في ذلك تصفح الأجسام كلها، لا من جهة ما هي أجسام، بل من وجهة ما هي ذوات صور تلزم عنها خواص، ينفصل بها بعضها ببعض.
فتتبع ذلك وحصره في نفسه، فرأى جملة من الأجسام، تشترك في صورة ما يصدر عنها فعل ما، أو أفعال ما، ورأى فريقًا من تلك الجملة، مع أنه يشارك الجملة بتلك الصورة، يزيد عليها بصورة أخرى، يصدر عنها ما، ورأى طائفة من ذلك الفريق، مع أنها تشارك الفريق في الصورة الأولى والثانية، تزيد عليه بصوره ثالثة، تصدر عنها أفعال ما خاصة بها.
مثال ذلك: إن الأجسام الأرضية، مثل التراب والحجارة والمعادن والنبات والحيوان، وسائر الأجسام الثقيلة، وهي جملة واحدة تشترك في صورة واحدة تصدر عنها الحركة إلى الأسفل، ما لم يعقها عائق عن النزول: ومتى تحركت إلى جهة العلو بالقسر ثم تركت، تحركت بصورتها إلى الأسفل.
1 / 10