رحلة سعيدة.» •••
تفاوتت أعداد الأطفال الذين يأتون الفصل؛ فتارة كان يأتي خمسة عشر طفلا، وتارة أجد أن عددهم انخفض ليصل إلى ستة. وكانوا يأتون في أوقات الصباح فقط؛ أي من التاسعة صباحا حتى وقت الظهيرة، بما في ذلك أوقات الراحة. وكان الأطفال يمنعون من الحضور إن ارتفعت درجة حرارتهم، أو إن كانوا يجرون بعض التحاليل الطبية. كان يغلب عليهم الهدوء أثناء تواجدهم في الفصل، وكان من السهل التعامل معهم والسيطرة عليهم، بيد أنهم لم يظهروا أي اهتمام ملحوظ بما أقدمه لهم. لقد أيقنوا على الفور أنها مجرد مدرسة شكلية، وأنهم غير ملتزمين فيها بتعلم أي شيء، تماما كما لم يكن مطلوبا منهم تعلم كيفية أداء العمليات الحسابية أو القيام بالمهام التي تعتمد على الحفظ والاستظهار. لكن تلك الحرية لم تصعب السيطرة عليهم، كما أنها لم تترك داخلهم أي إحساس بالملل بصورة مزعجة؛ إنما جعلت منهم أشخاصا حالمين منصاعين للأوامر. كانوا يرددون الأغاني بصوت هادئ، ويمارسون لعبة «إكس أو»، وكان هناك شبه شعور بالانكسار والإحباط داخل هذا الفصل الارتجالي الخالي من أشكال الدراسة الفعلية.
عزمت على تنفيذ نصائح الطبيب، أو على الأقل تنفيذ بعضها، وخاصة فيما يتعلق بأن الشعور بالملل هو العدو الأكبر.
كنت قد لمحت شكلا مجسما للكرة الأرضية في حجرة الحارس الضيقة، وطلبت إحضارها إلى الفصل. وبدأت تدريس بعض المعلومات الجغرافية البسيطة؛ أسماء المحيطات والقارات وأشكال المناخ. وسألت نفسي: لم لا أعرض معلومات عن الرياح والتيارات الهوائية، والدول والمدن، ومدار السرطان ومدار الجدي؟ ولم لا أذكر أنهار أمريكا الجنوبية؟ وعرضت لهم بالفعل تلك المعلومات.
كان يوجد بعض الأطفال الذين تعلموا تلك الأشياء من قبل، لكنهم بالكاد كانوا يتذكرونها؛ فلقد تلاشى من أذهانهم ذلك العالم الذي يكمن خلف البحيرة والغابة. خيل إلي أنهم شعروا بالبهجة، كما لو أنهم كانوا يقيمون علاقات صداقة مرة أخرى مع الأشياء التي كانوا يعرفونها من قبل. لم أغرقهم بتلك المعلومات مرة واحدة بالطبع، وكان علي أن أتمهل وأبسط الأشياء للأطفال الذين لم يتعلموا تلك الأشياء من قبل بسبب إصابتهم بالمرض في عمر مبكر.
لقد نجحت في هذه المهمة واستطعت توصيل المعلومات في شكل لعبة يمارسونها؛ فقد قسمتهم إلى فرق، وكنت أجعلهم يقولون أسماء الأشياء وأنا أحرك المؤشر هنا وهناك سريعا على الشكل المجسم للكرة الأرضية. كنت أحرص على ألا يمتد شعورهم بالإثارة لفترة طويلة. لكن في أحد الأيام مر الطبيب بجوار الفصل، وكان خارجا لتوه من عملية جراحية كان يجريها في الصباح، وقد لمحني وأنا ألعب معهم هذه اللعبة. لم أستطع أن أتوقف مرة واحدة وأوقف هذا الحماس، لكنني حاولت أن أهدئ من حدة المنافسة بين الأطفال. دخل وجلس بيننا، وكانت تبدو عليه أمارات التعب والاستسلام؛ فلم يبد أي اعتراض، وبعد عدة دقائق انضم إلينا، فراح يردد إجابات مضحكة، ولم تكن الإجابات خاطئة، بل خيالية. ثم راح شيئا فشيئا يخفض من صوته؛ فأخذ يتمتم في البداية، ثم تحدث بصوت هامس، ثم لم يعد هناك شيء يمكن أن يسمع منه على الإطلاق. ومن خلال هذه الطريقة، وهذا الأسلوب العبثي المثير للضحك، تمكن من إحكام السيطرة على الفصل؛ وراح الأطفال جميعهم يقلدونه ويتحدثون بصوت خافت، وكانت أعينهم مثبتة على شفتيه.
وفجأة أطلق زمجرة خفيفة جعلتهم جميعا ينفجرون في الضحك. «لماذا تحملقون في هكذا بحق الجحيم. أهذا ما علمتكم إياه معلمتكم؟ أن تحدقوا هكذا في الأشخاص الذين لا يسببون لأحد أي ضيق أو إزعاج؟»
ضحك معظم الأطفال، بينما لم يستطع البعض الآخر منع أنفسهم من النظر إليه وهو يقول ذلك. لقد كانوا متعطشين لمثل هذ الأشياء المثيرة للضحك. «هيا، توقفوا عن هذا، وتصرفوا على هذا النحو السيئ في مكان آخر.»
راح يعتذر لي فيما بعد عن اقتحامه الفصل بهذا الشكل، بينما شرحت أنا له الأسباب في جعل هذا الدرس يبدو وكأنه يعرض في فصل حقيقي.
قلت في حماس: «بالرغم من أنني أتفق معك في شأن ضرورة تجنب الأشياء المسببة للضغط العصبي ... أنا أتفق تماما مع ما أمليته علي من تعليمات، إلا أنني اعتقدت أنه ...» «أية تعليمات؟ أوه، إنها مجرد أفكار جالت بذهني، ولم أكن أقصد قط أن تنفذ كما هي حرفيا دون تغيير.» «كنت أعني أنهم ما داموا لا يعانون من مرض شديد ...» «أنا واثق من أنك على حق، ولا أعتقد أن في ذلك ضررا.» «نعم وإلا بدا عليهم الفتور واللامبالاة.»
अज्ञात पृष्ठ