ولا بأس هنا أن أذكر رحلة أخرى رحلتها إلى بيت المقدس كانت عجيبة حقا مربكة حقا ذلك أني تلقيت يوما خطابا من جمعية الشبان المسيحية في القدس، تطلب مني محاضرتين في أي موضوع أختاره، وحددت لي موعدا بعد شهر تقريبا، فقبلت الدعوة واخترت موضوعا هو: «ما الذي يعوق المسلمين اليوم عن المشاركة في بناء المدنية الحديثة؟» وعكفت على كتابة المحاضرتين حتى تممتهما وتهيأت للسفر، وإذا بتلغرافات، ترد إلي من جمعيات الشباب المسلمين في القدس ويافا وحيفا وغيرها تحذرني من الحضور من غير أن تذكر سببا، فلم أعبأ بذلك، وسافرت، فلما وصلت إلى القدس لم أجد من يستقبلني إلا مندوبا من جمعية الشبان المسيحية وأستاذا في القدس كان طالبا في كلية الآداب
1
فدعاني مندوب الجمعية إلى النزول في بنائها فاعتذرت، ودعاني الأستاذ تلميذي أن أنزل في بيته إذ كان يسكن بمفرده فقبلت، وقد أسر إلي صاحبي بأن الأستاذ المفتي وإسعاف بك النشاشيبي والأستاذ الثعالبي يعتذرون إذ لم يقابلوني ويطلبون إلي أن أقابلهم، فقابلت الأستاذ إسعاف فشرح لي الموقف وقال: إن مركز جمعية الشبان المسيحية متهم الآن بأنه مركز تبشير للمسيحية ومركز تبشير للاستعمار الإنجليزي، وقد ثبتت عليه بعض الأحداث فقاطعه المسلمون من أجل ذلك، وقد أرادت الجمعية أن تكسر هذه القطيعة وتبطل الإضراب بدعوتك لإلقاء هذه المحاضرات. فقلت: كان عليكم أن تخبروني بهذه التفاصيل من قبل حين أعلنت الجرائد عن سفري ولنتدبر الآن في الحل. فطلب أحدهم إلغاء المحاضرات فأبيت، وطلب آخر أن ألقي المحاضرات نفسها في جمعية إسلامية، فقلت إن هذه المحاضرات قد أصبحت ملكا للداعي إليها. وأخيرا اتفقنا أن ألقى محاضرة في موضوع آخر في جمعية إسلامية قبل إلقاء هاتين المحاضرتين، وأعددت العدة لإلقاء محاضرة في نادي مدرسة روضة المعارف. وكان عنوانها تفسير آية
إن الله يأمر بالعدل والإحسان .
وقد بدأت المحاضرة ببيان وجهة نظري في المحاضرة التي أتيت من أجلها، مستندا إلى أن المسئول عن ذلك هم لا أنا، إذ كان الواجب عليهم أن يخبروني بمقاطعتهم قبل حضوري. ثم إن موضوع المحاضرة التي سألقيها يدور حول الإشادة بالإسلام والمسلمين، وأن السبب في أنهم لم يبنوا في المدنية الحديثة مع البانين لا يرجع إليهم ولكن يرجع إلى أن الاستعمار الأوربي يأبى رقيهم، ويعمل على إضعافهم لاستغلالهم. ولو أنصف الأوربيون لمهدوا للمسلمين سبيل القوة حتى يقفوا على أجلهم وبينوا في صرح الحضارة معهم. ومثل هذا الكلام إذا ألقي في جمعية مسيحية كان له الأثر الأكبر؛ ثم هبوا أنه قد دعي قسيس مسيحي للتبشير بدينه في مسجد إسلامي ألا ترون أنه يعد ذلك فرصة عديمة النظير. وأخيرا سألقي محاضرتي فمن لم يقتنع بما قلت وشاء مقاطعة المحاضرة فليفعل، ومن شاء أن يسمعها ثم يقاطع فليفعل؛ ثم بدأت في محاضرتي عن العدل والإحسان. ومع هذا البيان خرجت جرائد بيت المقدس تندد بي وتطالب بعدم إلقاء المحاضرة ومقاطعتي إن ألقيتها - وحين ذهبت لإلقائها كان بعض الشبان في مفترق الطرق يحرضون من توسموا فيه الذهاب إلى الجمعية على عدم الذهاب، ولما ذهبت وجدت - مع الأسف - القاعة الكبيرة الفسيحة مملوءة بالمستمعين.
وانتهت المحاضرتان بعد أن لقيت فيهما من العناء الشيء الكثير، ولم أستمتع بطبيعة ولا منظر، فكان درسا قاسيا لا رحلة هادئة.
الفصل السابع والعشرون
وفي السنة التي تليها رتبت كلية الآداب رحلة إلى العراق في إجازة نصف السنة اشترك فيها بعض أساتذة الحقوق وكلية الآداب وبعض الطلبة وعهد إلي أيضا الإشراف عليها، وكانت الرحلة أشق وأعنف، اجتزنا فيها الطريق الذي اجتزناه في الرحلة السابقة، إلى دمشق تقريبا، ثم ركبنا السيارات من دمشق إلى بغداد في نحو سبع وعشرين ساعة، قطعنا فيها بادية الشام، وهي بادية منبسطة فسيحة الأرجاء جدباء ليس فيها إلا قليل من الأعشاب، سرنا فيها ليل نهار لا نستريح في الطريق إلا قليلا لنأخذ أكوابا من الشاي أو أقداحا من القهوة، وسير السيارات في الليل المظلم والبرد القارس والريح العاصف مهيب مخيف، إلى أن لاح لنا نهر الفرات فبلعنا ريقنا بعد أن جف من منظر الصحراء، وعبرنا جسرا على نحو ما كان في عهد الرشيد والمأمون سفن ضم بعضها إلى بعض، فكانت جسرا، ووصلنا الأنبار وتسمى الآن الفلوجة، وكم نبغ من الأنبار هذه نوابغ في العلم والأدب يلقب كل منهم بالأنباري، وظللنا نسير فيما بين النهرين دجلة والفرات أكثر من ساعة في أرض طيبة خصبة، ولكنها مهملة مهجورة تنتظر اليد العاملة والرءوس المفكرة والأموال المدبرة حتى وصلنا بغداد - قارنت بين بغداد الرشيد والمأمون وبغداد العهد الحاضر، وخصب العراق ومزارعه في الماضي والحاضر، فحزنت، ولم أستطع أن أكتم حزني فكنت قليل الذوق في أول حفلة أقيمت لنا عقب وصولنا؛ إذ طلب مني الكلام فتكلمت فيما كان بين بغداد في القديم والحديث، وفيما مررنا عليه من أرض جيدة التربة، ولكنها جرداء كالصحراء، ودعوت إلى أن ينهض أهل العراق فيستغلوا كنوز الذهب في ديارهم، والمياه المتدفقة في أراضيهم، ولم أكن في هذا الحديث لبقا، إذ ليس هذا الكلام مما يصح أن يكون تحية القدوم، ولكن كان هذا أثرا للصدمة التي صدمناها عند رؤية ما بين الأنبار وبغداد، وقد أمكنني في خطبة أخرى في حفل آخر أن أتدارك هذا الخطأ، فأشيد بما فعل العراقيون من جهد جبار في إصلاح الأحوال، وكلا القولين حق، ولكن ما كل حق يقال.
تجولنا في بغداد وزرنا الإمام أبا حنيفة في مسجده بالأعظمية والإمام الكاظم والإمام الجواد في الكاظمية، والمتحف العراقي، إلخ، وأنسنا بلقاء الشاعرين الكبيرين جميل الزهاوي ومعروف الرصافي واستمعنا إلى شعرهما فيما أقيم لنا من حفلات. وقد أكرمنا العراقيون إكراما فاق الحد فقلما خلت ليلة من دعوة وكنا في رمضان، حتى لقد دعينا ليلة واحدة إلى ثلاث دعوات اضطررنا إلى إجابتها.
وقد دعانا المرحوم الملك فيصل إلى الإفطار على مائدته ووجه إلي السؤال الآتي: هل من مصلحة بلد كالعراق أن يكثر من التعليم العالي؛ ولو أدى ذلك إلى كثرة العاطلين من المتعلمين، أو أن يقتصر فيه على قدر ما تحتاجه من موظفين؟ وهذا السؤال يستتبع مسألة أخرى نتيجة للجواب، وهي: هل ننشئ هنا مدارس عالية يكثر فيها الطلاب أو نكتفي بإرسال بعثات إلى أوروبا بقدر ما نحتاجه من غير داع إلى إنشاء مدارس عالية هنا؟ وقد وفقني الله فأجبت بأن مصلحة الأمة في كثرة المتعلمين تعلما عاليا وإنشاء المدارس العالية لهم في البلاد نفسها، ثم إرسال بعثة من النابغين، وأن التعليم العالي كله خير وبركة مهما كانت النتائج. وقد علمت بعد أن هذين الرأيين كانا يتصارعا في العراق وأتى هذا السؤال من الملك فيصل نتيجة لهذا الصراع.
अज्ञात पृष्ठ