لم يعبأ ناظر مدرسة القضاء بالترتيب فعينني مع الثلاثة الأول - وإن كنت السادس - مدرسا في المدرسة بعد شهرين من تخرجي، وابتدع في المدرسة نظاما لم يكن معروفا في مصر؛ وهو نظام المعيدين، فأتبع كل معيد بأستاذ كبير يحضر معه الموضوع ويدخل معه في الدروس، ووزع المعيدين على الأساتذة بحسب كفايتهم وميولهم، فهذا معيد مع أستاذ الفقه وهذا معيد مع أستاذ الأدب، واختارني معيدا معه في دروس الأخلاق، وهذا كان سببا في شدة اتصالي به واستفادتي منه، فكنت أذهب إلى بيته في كثير من الأيام عند تحضير درس، وكان يحضره من كتب الأخلاق الإنجليزية، فكان يقرأ بالإنجليزية ويمليني بالعربية، وأحيانا ينفرد هو بالترجمة ويسمعني ما ترجم، وكنا نتناقش في الدروس قبل إلقائها، وأحيانا يجرنا الحديث من موضوع الدرس إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى موضوع آخر اجتماعي أو ديني أو سياسي، فيعرض آراءه ويستمع إلى مجادلتي، وقد أثر في أثرا كبيرا من ناحية تحكيم العقل في الدين، فقد كنت إلى هذا العهد أحكم العواطف لا العقل، ولا أسمح لنفسي بالجدل العقلي في مثل هذه الموضوعات، فالدين فوق العقل، فإن جاء فيه ما لا يدركه العقل آمنا به، لأن علم الله فوق علمنا، وهو أعلم بما يصلحنا وما يضرنا، وهو يأبى إلا تحكيم العقل والبحث عما لا نفهم حتى نفهم، وكان له غرام بالبحث، وصبر على الجدل، وطول نفس في المناقشة حتى ليفضل من يناقشه أن يسكت أخيرا وإن لم يقتنع، من طول ما أدركه من التعب والعناء، كان من أثر هذا الجدل الديني أني أعملت عقلي في تفاصيل الدين وجزئياته، أما جوهر الدين من إيمان بالله وجلاله وعظيم قدرته فظل ساكنا في أعماق قلبي لم ينل منه أي جدل ولم يتأثر بأي قراءة، وكل ما في الأمر أني صرت أكثر تسامحا مع المخالفين، وأوسع صدرا للمعارضين.
واستفدت منه سعة في الأفق، فقد كان - بحكم تربيته في الأزهر وفي دار العلوم وفي إنجلترا، وبحكم بيئته التي يعيش فيها، ومجالسه التي يجلس إليها ومخالطته أمثال سعد زغلول وفتحي زغلول وقاسم أمين - مطلعا على كثير من الشئون - معتنقا لكثير من الآراء القيمة بعد البحث والدرس واستعراض الآراء المختلفة. كما قبست قبسا من خلقه، فقد كان صريحا صراحة قد تجرح، صادقا في قوله ولو آلم، مشتدا في العدل ولو على نفسه، ملتزما النظام ولو ضايق نفسه وضايق من حوله - أذكر مرة أن طلب للشيخ محمد المهدي أعلى درجة مالية في المدرسة، وأوصى الخديوي بمنحها له، وكان عاطف بك يرى أن غيره أحق منه، فاجتمع مجلس الإدارة برئاسة شيخ الجامع الأزهر، وعضوية عبد الخالق باشا ثروت وغيره وكلهم يرى أن المسألة صغيرة لا تستحق مغاضبة الخديوي من أجلها، فوافقوا على إعطائه وصمم عاطف على رأيه، فلما لم تنجح حجته طلب أن تدون في المحضر معارضته، ومنح الشيخ المهدي الدرجة بالأغلبية فذهب الشيخ مهدي ليشكره، فقال عاطف لا تشكرني يا أستاذ فقد كنت معارضا، قال الشيخ مهدي: إذن فلأشكر الله.. وهو لا يقبل الرجاء يمس به العدل ولو خاصم في ذلك أكبر كبير.
ولما كان وكيلا للمعارف تقدم طالب إلى مدرسة هو ابن حمد باشا الباسل وسنه تزيد عن السن القانونية فأبى، وألح سعد باشا في قبوله فأبى إلا أن يعدل القانون ويقبل جميع من كانوا في مثل سنه.
لازمت عاطف بك في دروس الأخلاق هذه سنين، وكنت كلما تقدمت في تحضير الدروس معه حملني عبء تدريس هذا العلم تدريجيا، هذا إلى دروس أخرى كنت أستقل بتدريسها من فقه أحيانا، وتاريخ إسلامي أحيانا وغير ذلك، وكان عنائي بالدرس أيام كنت مدرسا لا يقل عن عناء الدرس أيام كنت طالبا، فقد كنت أقضي الساعات الطويلة في تحضير الدرس الواحد من مصادره المختلفة، وأكتب المذكرات للطلبة في كل مادة أدرسها.
واتصلت بصديقي وأستاذي أحمد بك أمين. فقد درس لنا بعض المواد القانونية أيام كنت طالبا، فلما تخرجت انقلبت الأستاذية إلى صداقة، ففي إجازة من الإجازات الصيفية اتفقنا على أن نقرأ كتابا في أصول الفقه ليقارن بينه وبين أصول القوانين في التشريع المدني. فكنا نجتمع كل يوم صباحا ونقرأ نحو ساعتين في كتاب «الموافقات» للشاطبي، وبعد أيام من قراءتنا في هذا الكتاب اقترح علي اقتراحا غريبا، وهو أن نقضي إلى قراءتنا في أصول الفقه ساعة في دراسة الآثار الإسلامية، فأحضرنا خطط علي باشا مبارك نقرأ فيها كل يوم الآثار الموجودة في شارع من شوارع القاهرة، من مساجد وتكايا وأسبله وبيوت أثرية ونحو ذلك، فإذا جاء العصر التقينا في أول هذا الشارع، ومررنا على كل مسجد، ندخله ونطبق ما كتبه على باشا مبارك في خططه. ونعرف تاريخه ومن بناه، ونقرأ اللوحات الرخامية التي تمدنا بهذه المعلومات. واستمررنا على ذلك نحو ثلاثة أشهر أتممنا فيها كل شوارع القاهرة، وألممنا فيها بكل آثارها، فكان درسا غريبا مفيدا.
وإلى جانب ذلك اشتقت جدا إلى أن أعرف لغة أجنبية. فهؤلاء أساتذتي العصريون يدلون بمعرفتهم لغة أجنبية - هذا يدل بلغته الفرنسية، وهذا يدل بلغته الإنجليزية، وكل يعتمد عليها في تحضير دروسه، ويذكر لنا أنها تساير الزمان، حتى إن الكتاب المؤلف في علم منذ عشر سنوات لا يصلح أن يكون مرجعا اليوم إلا بعد التعديل، كالكتب الأزهرية التي يدعى أنها تصلح لكل زمان ومكان، ولأن هؤلاء الأساتذة كانوا يقولون دائما إن من اقتصر على اللغة العربية يرى الدنيا بعين واحدة، فإذا عرف لغة أخرى رأى الدنيا بعينين. وكان من البواعث على هذا أن أحمد بك أمين قال لي يوما، إن علي باشا مبارك أهمل في خططه إهمالا كبيرا، إذ لم يذكر شيئا عن بيت شاهبندر التجار في «حوش قدم»، مع أنه بيت أثري عظيم، يمثل الحياة الجماعية في القرن الذي بنى فيه، وقد اكتشفته في كتاب إنجليزي في الآثار، ألفه بديسكو بالألمانية، وترجم إلى الإنجليزية. لهذا فكرت أن أتعلم لغة أجنبية، وحرت بين الإنجليزية والفرنسية ثم فضلت الفرنسية اعتمادا على أني تعلمت مبادئها في صغري وأتممت دروسها إلى السنة الرابعة يوم كنت في مدرسة والدة عباس باشا، فاستذكار القديم والبناء عليه أهون من الابتداء في تعلم لغة جديدة، وبحثت عن مدرس واتفقت معه على أن يدرس لي أربعة دروس في الأسبوع، واشتريت الكتب، وبدأت أذاكر الدرس الأول، ولكن - للأسف - وقع اختياري على مدرس خائب، فهو لا يحتفظ بموعد، ولا يهتم بدرس، وصبرت عليه صبرا طويلا حتى مللت وانصرفت عن الدرس إلى حين.
وفي هذه المدة اتصلت بحزب الأمة الذي تكون بجانب الحزب الوطني، وحزب «الإصلاح على المبادئ الدستورية»، وعلى الأصح اتصلت بجريدته المسماة «بالجريدة» التي كان يرأس تحريرها الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكانت حجرته في الجريدة منتدى لجمهرة من الشبان المثقفين، ومن حين لآخر كانت تلقى في فناء الدار محاضرات سياسية يدور حولها الجدل. ولست أنسى يوما كان يحاضر فيه الأستاذ أحمد لطفي السيد، وكان يحضر الحفل عدد كبير من رجال السياسة منهم الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي، فما نشعر إلا وقد أطار جماعة من طالبة الحقوق حماما أعدوه معهم لهذا الوقت تنكيلا بإبراهيم الهلباوي إذ كان محاميا عن الإنجليز في حادثة دنشواي التي كان سببها الحمام، وساد الهرج والمرج، وخيف على الشيخ علي يوسف وإبراهيم الهلباوي من الاعتداء. فحضر البوليس ومكنهم من الخروج آمنين. وقد استفدت من هذا الاتصال شيئا من الثقافة السياسة والاجتماعية بفضل أحاديث أستاذنا لطفي، ومحاضرات المحاضرين والاتصال بنخبة من خيرة المثقفين.
استمررت مدرسا في مدرسة القضاء سنتين. وكانت هناك مشكلة هي أني لم أنجح في الكشف الطبي لقصر النظر، فعينت (ظهورات) حسب اصطلاح المستخدمين، ومعنى هذه الكلمة أن الموظف الذي يعين على هذا الشكل ليس له حق في المعاش عند بلوغه السن. وليست له ضمانات في بقائه في الوظيفة، إذ يكفي إشارة من الرئيس بالاستغناء عنه فيستغنى، أما الموظف الثابت أو على حد تعبيرهم (المثبت) فله الحق في المعاش، ولا يخرج من الخدمة إلا بمجلس تأديب يقرر فصله، وهي ميزات لا يستهان بها، وأنا من طبعي تفضيل التدريس على القضاء ولكن أود لو كنت مدرسا (مثبتا) ففكر عاطف بك حرصا على مصلحتي أن أعين قاضيا لمدة قصيرة - والقاضي يعين بمرسوم، ولا يحتاج من يعين بمرسوم إلى كشف طبي - فإذا عينت قاضيا كنت مثبتا، فإذا انتقلت إلى مدرسة القضاء نقلت (مثبتا) وكذلك كان، ولكن أتت مشكلة أخرى وهي أن مدير المحاكم الشرعية أبي إلا أن يعينني قاضيا في الواحات الخارجة، وهي بلد بعيد يشق انتقالي إليها على أبي وأمي اللذين أصبحا لا يجدان عزاء من فقد أخوي إلا بقائي بينهما، فحاولت ما استطعت وحاول عاطف بك ما استطاع أن يغير الواحات بأي بلد آخر فلم يستطع، فتوكلت على الله وقبلت الوظيفة واستعددت للسفر إلى الواحات.
وقد قضيت فيها ثلاثة أشهر، ولا أدري ما الذي بعثني على أن أدون مذكرات يومية لهذه الرحلة فلأنقل هنا بعضها:
الأربعاء 23 إبريل سنة 1913
अज्ञात पृष्ठ