وهذا عاطف بك بركات يدخل علينا يوما فيجد الشيخ حسن منصور يدرس لنا الأخلاق في كتاب أدب الدنيا والدين، فلا يعجبه ذلك، ويتولى تدريس هذه المادة بنفسه من الكتب الإنجليزية، فيدرس لنا أحيانا كتاب ماكنزي في علم الأخلاق، وأحيانا كتاب مذهب المنفعة لجون ستيورات مل.
وهكذا وهكذا من مزيج لم يكن له نظير في أي مدرسة أخرى.
ونظام المدرسة شاق عنيف، فليس هناك ملاحق، وليس هناك إعادة سنة فمن رسب في أول امتحان آخر السنة رفد، وفي كل ثلاثة أشهر امتحان، ومن رسب في هذا الامتحان الثلاثي حرم من مكافآته، وهي جنيه ونصف كل شهر، وما تجمع من هذه المكافآت التي حرم منها بعض الطلبة تمنح مكافآت للمتفوقين: قسم منها لمن حاز أكبر درجة في كل علم أساسي، وقسم يمنح مكافآت على كتب تقرأ أثناء الإجازة، مثل مقصورة ابن دريد وشرحها ومختصر صبح الأعشى وكتاب «إميل» القرن التاسع عشر ونحو ذلك. وقد ينال الطالب النابغ ما يقرب من ثلاثين جنيها من هذه المكافآت، وقد أخذت من هذه المكافآت كل سنة ما يقرب من 25 جنيها كنت أتبحبح فيها في حياتي. فمرة أخذتها على كتاب إميل القرن التاسع عشر، ومرة أخذتها على حفظ مقصورة ابن دريد وشرحها. ومرة على كتاب مختصر صبح الأعشى. هذا عدا مكافآت كانت تعطى لمن يأخذ أحسن درجة في أي علم من العلوم الرئيسة. وكل يوم ثلاثاء عصرا تصف الكراسي في فناء المدرسة ويدعى أستاذ من الخارج أو من المدرسة أو طالب من المتقدمين لإلقاء محاضرة في موضوع أعده، وأحيانا يشترك في سماع هذه المحاضرات سعد زغلول أو قاسم أمين أو غيرهم من الكبراء، فيلقي علينا مثلا «رفيق بك» محاضرة في «قضاء الفرد وقضاء الجماعة»، ويلقي علينا الشيخ الخضري محاضرة في «أبي مسلم الخراساني» مرة وفي الغزالي مرة وفي «زياد ابن أبيه» مرة. ويلقي علينا العمروسي بك محاضرة في «هربرت سبنسر» مرة وفي «بستالوتزي» مرة وهكذا.
ويتحين عاطف بك بركات فرصة الفسحة أو فرصة وجود بعض الطلبة في المكتبة فيقف ويلتف حوله ما شاء من الطلبة، فيخلق موضوعا يحاورهم فيه ويحاورونه؛ ويتشعب الموضوع، ويطول الجدل حتى يدق الجرس، فيكون من ذلك درس على طريقة سقراط، وكان رحمه الله طويل النفس في الجدل قوي الحجة، لا يكل في ذلك ولا يمل، وهي شيمة عرفت في أسرة سعد باشا زغلول كلها، مثل سعد زغلول، وفتحي زغلول، وعبد الرحمن زغلول، وعاطف بركات، يلذهم الجدل حتى في الموضوع الذي لا يحتمل الجدل، ويشققونه ويفرعونه ويعمقونه، فيكون من ذلك متعة عقلية تلذ المؤيد والمعارض.
قضيت زماني في هذه المدرسة جدا لا هزل فيه وتعبا لا راحة معه، وكانت المدرسة قاسية عنيفة لا ترفيه فيها؛ فدرس في النهار وتحضير في الليل، حتى أوقات الألعاب الرياضية كنا نؤديها في عنف كأنها أشغال شاقة. فلو طبقت هذه النظم على مدرسة عسكرية لاستجارت منها، ولو طبقت على مدرسة اليوم لقابلها الطلبة كل ساعة بإضراب جديد. وقد صبرت على هذا الدرس فلم أسترح نهارا ولا ليلا، ولا جمعة ولا عيدا، حتى ولا في الإجازة الصيفية، إذ كنت أعكف على الكتب التي قررت للمسابقات فأختار منها وأدرس ما أختار لأمتحن فيه أول العام، وزاد من تعبي ما أصبت به من الغيرة، وكنا اثنين في الفصل كفرسي رهان نتسابق في غير كلل، وكان
5
خيرا مني في العلوم الأزهرية وأنا خير منه في العلوم العصرية، فسبقني في السنتين الأوليين وسبقته في السنتين الأخريين، وكان إذا سبقني حزنت حزنا عميقا، وإذا خلوت إلى نفسي فر الدمع من عيني، فما لقيته من هذا الزميل في السباق كان أشد على نفسي مما لقيته من المدرسة وما فيها من عناء.
لا أذكر أني رفهت عن نفسي إلا أياما كنت أخرج إلى كوبري قصر النيل حتى إذا توسطته وقفت زمنا أستنشق هواءه وأستمتع بمنظره، ثم أسير إلى آخره فأميل ذات اليمين وأمشي بين الأشجار والنخيل والنهر حتى أصل إلى مسجد هناك أصلي فيه المغرب أو العشاء ثم أعود من حيث أتيت.
وأحيانا في ليلة الجمعة كنت أغشى منزل صديقي الشيخ مصطفى عبد الرازق، وكان منزلا يحتفظ بالتقاليد القديمة لبيوت الأسر الكبيرة، يكثر زوارها وتمد موائدها غداء وعشاء، ويطيب فيها السمر، ويطول فيها السهر، فكان أصدقاء الشيخ من الشبان ينفردون بحجرة في البيت يتلاقى فيها شبان الأزهر بشبان الحقوق ببعض الشبان الذين يتعلمون في أوروبا، فتثار المسائل على اختلاف ألوانها دينية وفلسفية وسياسية واجتماعية حيثما اتفق، نتبادل فيه الآراء والأفكار؛ وترى إذ ذاك آراء المحافظين تناطح آراء الأحرار المتمدنين، ومؤيدي السفور ينازعون مؤيدي الحجاب، والوطنيين يثورون على الرجعيين، وهكذا من سمر لذيذ يمتد إلى منتصف الليل فتكون من ذلك متعة عقلية وروحية لطيفة.
ومرتين أو ثلاثا جمعت كل قواي، وحفزت كل همتي وقاومت كل خجلي، فذهبت إلى استماع الغناء في صالة تسمى «ألف ليلة» بالأزبكية من مغنية اسمها «الست توحيدة»، واتخذت كل الوسائل للاختفاء، لأن من رئي وعلمت به المدرسة كان عرضة للتأنيب والعقاب - هذا كان كل ترفيهي، أما ما بقي من وقتي فللدراسة وللمدرسة.
अज्ञात पृष्ठ