हयात शर्क़
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
शैलियों
هذا هو المصرف الأكبر الذي ذهبت إليه ثروة الشرق المخزونة. على أن الأوروبيين الذين أرسلوا إلينا بضائعهم لم يقتصروا على ذلك، بل إنهم أرسلوا إلينا رءوس أموالهم لغايتين؛ الأولى: رهن الأراضي العقارية وامتلاكها بالتدريج وسلب أموالنا أرباحا مركبة وفوائد باهظة، وهذا عمل المصارف العقارية في مصر وسواها. والثانية: استثمار موارد ثروتنا المعدنية التي لا تزال بكرا، سواء بصنع السكك الحديدية أو مد خطوط الترام أو تسيير سيارات حافلة (كشركة ثورنيكروفث) أو استخراج البترول أو تأسيس المدن التي صارت آهلة بالسكان منا وقد شادها عمالنا والثروة للأجانب (هليوبوليس) وآلاف من المشروعات الأخرى، ووظيفة المصري فيها وظيفة العامل الأجير والعبد الحقير الذي يعمل بقوت يومه ويطرد في أي وقت وعند شيخوخته يلقى به ليموت في الطريق أو في أحضان عيلة هي من الفقر بحيث لا تملك ثمن أكفانه، والأوروبي هو الرئيس والمدير العام، والمتسلط على كل صغيرة وكبيرة، حتى إن النور في عاصمة القطر المصري في يد شركة أجنبية، والماء الماء الذي نشربه من النيل السعيد أو الشقي بنا في يد شركة أجنبية، والنقل العام والخاص في أيدي شركات أجنبية، وأعظم الفنادق والمطاعم ومشارب القهوة والحانات كل ذلك في أيدي الأجانب. فالمصري في بلاده بل الشرقي في أنحاء شرقه عامل حقير ووسيط ينقل المال ويتعب فيه بعمله وجده وكده ليعطيه هينا لينا عفوا صفوا للسيد الأجنبي، وليس الأجنبي هنا هو الإنجليزي المحتل للبلاد بجيشه وقوته، بل الأجنبي هنا هو كل من هب ودب ودرج من بلاد الغرب كالرومي والبلقاني (أماكن بيع الفول المدمس ومطاعم الفقراء في أيدي جماعة من البلغار، وقد أحسنوا إدارتها أيما إحسان) والمالطي والطلياني والإسباني والألماني وغيرهم. والإنجليز قد تهاونوا مع هؤلاء الأجانب وسهلوا لهم العيش مع تمتعهم بالامتيازات الأجنبية، ليكونوا لهم سندا عند قيام الحركات الوطنية، فإن الأوروبي غير الإنجليزي يعلم يقينا أنه لولا الإنجليز ما كان له أن يتحكم في مصر هذا التحكم الجائر، ربما كان له حق الضيافة والارتزاق في حدود المعقول، ولكن التملك والصولة لم تكونا له إن لم يشد أزره البريطاني الذي يحلب البقرة ويسمح لغيره بحلبها أيضا ...
وبعد أن كان اليهودي والأرمني هما وحدهما المشهورين بتعاطي الربا والرهون في المنقول، أصبحت جميع الطوائف تستغلنا من هذا السبيل أيضا وتنسف أموال الأسر الكريمة بالاستيلاء على أفئدة السفهاء من أبنائها وأحفادها.
المخدرات ثالثة الأثافي
وكانت ثالثة الأثافي أن أخرجت لنا أوروبا منذ عشرين عاما صنوف المخدرات والسموم البيضاء، فجاء الكوكايين والهيرويين قاضيين على البقية الباقية من أموالنا وعقولنا وأخلاقنا. وعليك أن تقرأ تقرير رسل باشا حكمدار القاهرة لتعلم مقدار تفشي هذا الوباء بين ظهرانينا، وهو وباء لم تصل إلى عشر معشار أذاه صنوف المخدرات التي تعود عليها الشرقي قديما كالقنب الهندي والأفيون والمعجون المصنوع من حشيشة الدينار وأشباهها. وعليك أن تدخل إلى إحدى جلسات المحاكم الجنائية في أنحاء القطر المصري لا سيما محاكم العواصم لترى أن تسعين من مائة من القضايا هي قضايا المخدرات وإحرازها وتعاطيها والاتجار بها، حتى تظن أن الجرائم الأخرى المنصوص عليها في قانون العقوبات قد اختفت وتلاشت، ونسخت من الوجود جرائم السرقة والاحتيال والتعدي على المال والعرض وأصبح العقل المصري مشغولا بالتخدير ... وحتى إن بعض القنصليات الأجنبية، بواسطة بعض موظفيها المتمايزين، كانت لهم أيد في تهريب تلك المخدرات، دع عنك بعض قباطنة البواخر وضباطها وبحارتها وبعض ضباط الجيوش الأجنبية وجنودهم، كل هؤلاء قد اشتركوا في القضاء علينا وعلى أموالنا وأخلاقنا وقد أعلنوا علينا حربا عوانا سوف تنتهي إن لم نتيقظ في اللحظة الأخيرة بهلاكنا وإبادتنا عن آخرنا، كما فني أهل أستراليا وأهل أمريكا الأصلاء.
ومعظم البلاء في كل ما تقدم واقع على الشرقي والعربي والمصري، فهم الذين يذهبون ضحية أولى، ومثلهم كمثل الجنود العاديين في الميدان.
أما الطبقة الوسطى والطبقة المتعلمة فربما كان لديهما شيء من المقاومة بفضل قشور العلم وبفضل البقية الباقية من المال والنشب، ولاعتماد أفرادهما في الغالب على مرتبات الحكومة التي يتقاضاها الموظفون وكادت تستغرق نصف ميزانية الدولة أو ثلثيها.
وقد ادعى بعضهم أن مصر خالية من العمال لأن ليس بها مصانع وأن معظم سكانها زراع يعيشون في الحقول، وقد كان هذا صحيحا إلى أواخر القرن التاسع عشر، أما من بداية القرن العشرين فقد أخذ جيش من الفلاحين يتدفق على العواصم والبنادر للسعي على القوت أو لانجذابهم نحو المدنية البراقة الخلابة بفعل الميل إلى كل جديد، وكانوا يترامون على المدن كما يترامى الفراش على النار.
وقصة هؤلاء التعساء محزنة للغاية، فإن قراهم في الصعيد أو في الوجه البحري قد وصلت إلى أسفل درك من الفقر والقذارة، وقل العمال فيها لأن معظم سادتها وأرباب الأملاك فيها هجروها، والناس على دين سادتهم فقلدوهم أو تعلم بعضهم تعليما أوليا فأصبحت الحياة في القرية لا تروقه، فجاءوا إلى المدن زرافات ووحدانا. ومن هؤلاء تجد في شوارع القاهرة ألوفا مؤلفة، وبعضهم يعملون في العمارات والمباني أجراء يربحون عيشهم مياومة، وبعضهم يرتزقون ببيع الخردوات القليلة الثمن، وبعضهم يبيعون أوراق النصيب، والبعض يرتزقون ببيع الفول السوداني والحمص والحلوى والصحف ... وإنك لتدهش إذ ترى أمامك جيشا من العمالقة الأصحاء الأبدان والأبصار الأقوياء البنية يحومون حول المارة والراكبين يعرضون بضائعهم الحقيرة ويبيعونها بأبخس الأثمان مما تتخيل أنه لا يكفي لقوتهم في وجبة واحدة وتنحي على الأمة باللائمة لأنها لا تستثمر قوة هؤلاء الأشخاص في الأعمال النافعة المنتجة وتحدثك نفسك أن حكومة رشيدة تستطيع أن تحشد منهم جيشا يفتح أفريقيا، لأنهم لا يقلون في طول القامة وتقسيم البدن وقوة الجلد عن حرس الإمبراطور فردريك الأكبر. وهذا هو الذي حدث فعلا في أثناء الحرب العظمى، فإن إنجلترا جندت منهم فرق العمال الذين كان لهم نصيب في نصرة الحلفاء كما قال بذلك لورد اللنبي في خطبة ألقاها بمصر الجديدة، ولكن مصر في زمن السلم ليست بحاجة إلى جيش والمعاهدات الدولية تعوقها عن تكوينه.
وإنك إذا سرت متغلغلا في الأحياء الوطنية التي يسكنها هؤلاء الناس في خط الزهار أو عشش الترجمان أو ضواحي بولاق وناحية العطوف وطولون؛ رأيت مظهرا آخر من مظاهر الحياة، فإن هؤلاء الأشخاص يعيشون في غرف ضيقة مظلمة، وقد يحشد عشرون منهم في غرفة واحدة ويعرضون أنفسهم لفساد الأخلاق، ومنهم يحشد جيش الجريمة: فمنهم تجار المخدرات بالقطاعي، ومنهم الذين يؤجرون على القتل والضرب وشي الوجوه بحامض الكبريتيك، ومنهم حماة الدعارة، ومنهم من يأوي اللصوص ويؤلف العصابات لقطع الطريق وسرقة المنازل ليلا ونهارا. وهم ليسوا في القاهرة وحدها بل في جميع أنحاء القطر المصري، سبب لخلل الأمن وذهاب الطمأنينة من النفوس وعامل من أقوى العوامل في الشر والأذى. وقد اتخذ بعضهم أماكن لتعاطي المخدرات بالحقن تحت الجلد يسمونها «عيادات»، وهي مغاور تحت الأرض ينتشر فيها الموت والقتل وبذل النفس والعرض في سبيل ملاذ التخدير بالسموم البيضاء، وقد ذهب الكثيرون ضحية هذه المغاور التي لم تصل إليها جحور الأفيون التي وصفها مؤلف قصة روكامبول.
بيد أن هؤلاء الناس لو نظرت إلى حقيقة أمرهم وهم يستحقون في نظرك الإعدام شنقا أو على الأقل عقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة؛ لرأيتهم في نهاية الأمر يستحقون الحنان والشفقة، لأنهم ضحايا الجهل والفقر، وقد ألقي حبلهم على غاربهم، فتراهم يهيمون على وجوههم كبهيمة الأنعام، وكأنهم بعثوا قصدا ليعيثوا في الأرض فسادا وليهلكوا أنفسهم بأيديهم ويهلكوا سواهم، وهم قصر لا ولي لهم ومضيعون ليس لهم من يرشدهم.
अज्ञात पृष्ठ