हयात शर्क़
حياة الشرق: دوله وشعوبه وماضيه وحاضره
शैलियों
الامتيازات الأجنبية: الغرب يهاجم الشرق ببضائعه
مكارم انقلبت مغارم
لو تنبأ خليفة أو سلطان بأن مظاهر الإكرام وحسن الضيافة التي منحها كبار الأجانب الذين حلوا بلاد الشرق في سبيل التجارة أو الاستكشاف ستنقلب بعد بضعة قرون أنواعا شتى من البلاء على تلك الأمم الشرقية ما كان منحها، ولعله ما كان يفتح أبواب مملكته للقادمين الذين تمكنوا على مر السنين من قلب المجاملة الودية سيفا مصلتا على أعناق تلك الأمم التي استضعفت في الأرض بعد العظمة والقوة.
ولكن أي خير في ممالك الشرق عامة والإسلام خاصة لم ينقلب شرا؟ وأي مسالمة لم تصر على كر الأعوام بيننا وبينهم محاربة؟ إن تلك الشوكة التي ما فتئت تخزنا في جنوبنا كيفما تقلبنا هي بلا ريب من أشد النكبات وقعا. وقد فرت فرصة الحرب الكبرى ولم ننل من إلغائها أربا، وتمكنت أمم شرقية مثل الصين والفرس والترك من محوها من سجل حياتها القومية، ولا نزال نحن ننظر بعين المريض إلى صفحتها في سجل حياتنا كما ينظر المقضي عليه في كتاب يشمل الحكم عليه بالعذاب المؤبد، وقد تحركت تلك المسألة بضع مرات في العهد الأخير بمناسبات خطيرة وتحفزت الجهات المختصة نحو العمل ولكن على أية خطة؟
كانت السياسة المصرية منذ ثلاثين عاما ذات صبغتين: صبغة قومية وصبغة حكومية من حيث الامتيازات، وقد ألف في ذلك الحين الأستاذ بلسييه دوروزاس مدير مدرسة الحقوق الفرنسية بالقاهرة كتابا قيما في الموضوع فالتفت الآراء المصرية حول بعض نظرياته، فنشأت لدى الوطنيين في عهد من العهود الوسطى فكرة تحبيذ الامتيازات والاحتفاظ بها، بوصف كونها سياجا دوليا ذا لون قانوني يقضي بشبه المساواة بين إنجلترا وغيرها من الدول الأجنبية، وقالوا لو أن تلك الامتيازات زالت فقد نمسي مع إنجلترا وجها لوجه دون حسيب أو رقيب، وإذن تفقد المسألة المصرية صبغتها الدولية ولعلها تسعى لنشر حمايتها دون منازع من الدول الأخرى، وكان المرحوم مصطفى كامل من أنصار هذه الفكرة لاعتماده على فرنسا في إبان نزعته الأولى، وما زالت هذه عقيدته إلى أن حلت سنة 1904 وتوثقت علاقة إنجلترا بفرنسا وظهر في الوجود «الاتفاق الودي» الذي سبق الحرب العظمى بعشر سنين ومهد لها السبيل، وحينئذ دب اليأس إلى قلبه.
وندب حظ مصر في رسائل بليغة، أرسل بها إلى صديقته ومعينته الأولى مدام جوليت آدم، وتزعزعت ثقتنا في نظرية التفضيل ولكننا كتمنا أمرنا.
أما الوجهة الحكومية منذ ثلاثين عاما فكان يمثلها لورد كرومر، وكان هذا السياسي المحنك يظهر آراءه ولا يخفيها ويكتبها ولا يكتمها ويبغض الكتمان في الأمور العامة، كما كان نصيرا لحرية الصحافة ويعتبرها صمامة أمان للتنفيس عن الكروب التي تعانيها الشعوب المحكومة، وكان يطلع على العالم في كل عام بتقرير مدبج بأسلوب خاص يعد من أعلى الأساليب في المدونات السياسية، فماذا كانت خطة هذا النابغة في الامتيازات؟ كان يميل إلى إلغائها ويوالي الحملات عليها في صفحات تقريره السنوي، وينسب إليها تعطيل أعمال الإصلاح، ولكن حيرته - على شدة حذقه وبراعة حيلته - كانت ظاهرة في الوصول إلى حل يوفق بين رضاء الدول وحسن التخلص ومجاملة أرباب الأموال وتنفيذ السياسة الإنجليزية في وادي النيل، إلى أن دلته التجارب وهدته أناته الطويلة على فكرة وسط تخفف ويلات الامتيازات ولا تمحوها تمام المحو، وهي فكرة لا شك مكيافيلية فكرة إشراك الأجانب معنا في مجلس تشريعي تكون قوانينه نافذة على جميع سكان مصر. وهذا المشروع نفسه الذي جمع كرومر شجاعته للبروز به بين ظهرانينا هو النواة لمشروع سير برونيت الذي قامت له مصر وقعدت، صاغه كرومر بصورة مخففة ملطفة ولكن برونيت أراده كاملا شاملا قاضيا على كياننا القومي، فضلا عن الفرق بين العهدين عهد كرومر وعهد برونيت، فقد كان كرومر يستمد قوته من نفوذه الذاتي ومن شخصيته القوية ومن تاريخ أعماله في مصر، وكانت تلك الخطوة الجريئة منه بمثابة إعلان للعالم بأن إنجلترا تنوي البقاء عملا بالمبدأ القائل «سأبقى حيث أنا».
وكان قبول الأجانب نظرية الاشتراك في التشريع بمثابة رضاء ضمني بشرعية الاحتلال فلم يلق كرومر تشجيعا في مصر ولا في الخارج، في مصر قامت عليه قيامة الوطنيين الذين تشبثوا بأهداب الامتيازات للنظرية التي شرحتها، والدول الأجنبية لأنها أدركت مغزى الخطة الكرومرية التي تحولت فيما بعد إلى نظرية حماية الأجانب. ولم تكن أمة شرقية قد اجترأت بعد على إلغاء الامتيازات، بل كانت الدولة العثمانية غارقة من أخمصها إلى قمة رأسها في بلوى الامتيازات، بل كانت اليابان زعيمة الشرق الأقصى خارجة من حرب الروس الدامية التي انتصرت فيها أمة وثنية على أمة مسيحية، فمدت لها دول أوروبا التي تعرف كيف تحترم الحديد والنار يد المودة وصافحتها على أشلاء الجيوش القيصرية المحطمة، فلما نطق أقزام طوكيو الأذكياء الأقوياء بكلمة المساواة بين الشرق الأقصى والغرب وطلبوا إلغاء الامتيازات وقالوا إننا نحسن الطعن والضرب ونتقن تدبير خطة الحرب فإذن نستطيع إحسان الحكم بين الجميع ونلغي الامتيازات الأجنبية! فطأطأ الغرب رأسه وأجاب: نعم! فلما جاءت الحرب العظمى وأعلنت إنجلترا الحماية ألغت امتيازات الأمم المعادية لها، ولما تبلشفت روسيا أسقطت امتيازاتها ولكنها لم تمس امتيازات الأمم الموالية على ما في هذا العمل من التناقض الظاهر فإن الحماية معناها تحمل مسئولية الحكم، فلم يكن هناك معنى للتفرقة في المعاملة بين الدول.
وعقدت المؤتمرات وسويت المسائل بين الدول ومصر صامتة ساكنة ولم تحرك ساكنا بصفة جدية نحو إلغاء تلك الامتيازات والخلاص من أغلالها.
ولكن اليوم عادت المسألة بشكل جديد، فمصر تريد تعديل قانون المحاكم المختلطة لمحاكمة تجار المخدرات والرقيق الأبيض (وغيرهم من نوعهم) جنائيا أمام تلك المحاكم، وهذا يتطلب تعديلا في نظام الامتيازات، وتريد التسوية بين المصري والأجنبي في أداء الضرائب المحلية التي تنتوي إيجادها لتعمير الخزانة المصرية، فخطت البلاد خطوتين؛ الخطوة الأولى إصدار قانون الجنسية الذي جلب علينا احتجاج دولتين من الدول العظمى، فقد رأت كل من فرنسا وإيطاليا وهما دولتان مفترض لديهما الولاء لمصر وحسن المجاملة، أن في المادة الخامسة عشرة من ذلك القانون مساسا بحقوق رعاياها، وهذه المادة من أهم مواد القانون وهي تعطي وزير الداخلية حق إخراج السكان الذين أصلهم من جزر الأرخبيل التابع لإيطاليا وسكان البلاد الواقعة تحت الانتداب الفرنسي. وقد أثمر الاحتجاج ثمرته النافعة للدولتين العظيمتين المشار إليهما، ووافقت الجهات المختصة على أن النص ينصب على الرعايا غير المرغوب فيهم
अज्ञात पृष्ठ