في اليوم التالي في المدرسة، أتى جيري إلي حاملا كيسا ورقيا بني اللون.
وقال بنعومة مستخدما لهجة بوجو: «أستميحك عذرا يا سيدتي، أظن أن لدي واحدا من متعلقاتك الشخصية.»
كان رباط جوربي بالطبع، لم أعد أكرهه. وبينما كنا نسير على هضبة شارع جون بعد المدرسة حولنا تلك الليلة إلى مشهد كوميدي عظيم، مشهدا أخرق مجنونا من فيلم صامت. «كنت أجذبك بقوة لنهبط الدرج، وأنت كنت تشدين بنفس القوة في الاتجاه المعاكس ...» «لم أكن أعرف ماذا تريد أن تفعل بي، ظننتك سوف تلقيني في الشارع كامرأة قبض عليها في بيت دعارة ...» «كان يجب أن تري النظرة التي اعتلت وجهك عندما دفعتك إلى القبو.» «وأنت كان يجب أن ترى النظرة التي اعتلت وجهك عندما سمعت صوت أمك.»
قال جيري محاولا تقليد لهجة إنجليزية كنا نستخدمها في بعض الأحيان: «جئت في وقت غير مناسب بالمرة يا أماه، فهناك فتاة عارية في فراشي، كنت على وشك أن أقوم باستكشاف ...» «لم تكن على وشك أن تفعل شيئا.» «في الواقع ...»
تركنا الأمر عند هذه النقطة، الغريب أن علاقتنا صارت بعد هذه المهزلة أفضل من ذي قبل. صار كل منا يتعامل مع جسد الآخر بمزيج من الحذر والألفة ولم تعد لأي منا متطلبات. لم يعد هناك مزيد من العناق الطويل دون أمل، أو دس الألسن في الأفواه. كما أنه كان لدينا أمور أخرى نفكر فيها؛ فقد حصلنا على استمارات اختبارات المنح الدراسية لنملأها وأخذنا كتيبات عدة جامعات، وصرنا نترقب شهر يونيو حين نخوض تلك الاختبارات بمزيج من السرور والهلع. لم نمر بأي شيء في حياتنا في أهمية هذه الامتحانات التي ترسلها لنا وزارة التعليم في مظاريف مغلقة ويفض مدير المدرسة الثانوية الأظرف أمام أعيننا. أما استعدادنا لهذه الاختبارات، فإن القول إننا قد استذكرنا لا يصف نصف التدريب الذي خضناه، لقد كنا نتدرب كالرياضيين قبل المنافسات. لم نكن نرمي لمجرد الحصول على درجات مرتفعة، ليس مجرد الفوز بالمنحة الدراسية ودخول الجامعة، بل كنا نهدف إلى الحصول على أعلى درجات ممكنة، إنه المجد، الوصول إلى المجد، بلوغ قمة حصد أعلى الدرجات، إنه الإحساس بالأمان أخيرا.
كنت أعزل نفسي عن العالم بعد العشاء في الغرفة الأمامية، وكان الربيع على وشك أن يهل وكانت الأمسيات أطول ، فكنت أوقد النور بعد حين. لكنني لم ألحظ شيئا، لم ألحظ - دون أن أعي هذا - سوى الأشياء الموجودة في تلك الغرفة التي كانت زنزانتي أو محرابي؛ النقش الباهت على السجادة، والذي تحول إلى لون القش عند أماكن خياطتها، وجهاز الراديو القديم التالف ولا يمكن إصلاحه، لكنه يقف كشاهد قبر وعلى قرصه إشارات لمحطات روما وأمستردام ومكسيكو سيتي، والأريكة العتيقة المزركشة، والصورتين المعلقتين: إحداهما لقلعة شيلون المظلمة التي تقف على ضفة البحيرة المتلألئة، والأخرى لفتاة صغيرة مستلقية على كرسيين غير متوافقين في ضوء وردي وحولها الوالدان يبكيان في خلفية الصورة، والطبيب بجانبها تبدو عليه السكينة وليس التفاؤل. اكتسبت هذه الأشياء - التي كنت أحدق فيها من حين لآخر وأنا أحفظ الأفعال والتواريخ والحروب والشعب في تصنيفات الحيوانات - أهمية، وقوة وتحذيرية، كما لو أن تلك الأشكال والأنماط العادية للأشياء ليست في الواقع إلا غلافا خارجيا للحقائق والعلاقات التي أتقنتها، والتي بمجرد أن أتقنتها أصبحت جميلة وبريئة ومطيعة. وكنت أخرج من هذه الغرفة شاحبة متعبة غير قادرة على التفكير في أي شيء كراهبة قضت ساعات في الصلاة، أو ربما كحبيب بعد ليلة حب جامحة، ثم كنت أتمشى في الشارع الرئيسي حتى مطعم هاينز حيث اتفقت أنا وجيري على أن نلتقي في الساعة العاشرة. وأسفل شراعات النوافذ المصنوعة من الزجاج البني الضارب إلى الصفرة، كنا نحتسي القهوة وندخن، نتحدث قليلا، ثم ننهض ببطء وكل منا يتفهم نظرات الآخر المنهكة الجافة.
لقد توارت حاجتي للحب بداخلي، فأصبحت مثل ألم خفيف بالأسنان. •••
في ذاك الربيع، كان من المزمع إقامة اجتماع نهضة دينية في دار البلدية. وقف السيد بيوكانن مدرس التاريخ أعلى درج المدرسة، وأخذ يناولنا أزرارا كتب عليها: «تعال إلى يسوع.» كان من زعماء الكنيسة المشيخية وليس المعمدانية التي كانت في صدارة جميع ترتيبات اجتماع النهضة الدينية، غير أن جميع كنائس المدينة، فيما عدا الكنيسة الكاثوليكية وربما الكنيسية الأنجليكانية - التي كانت من الصغر بحيث لم تحدث تأثيرا - كانت تدعم هذا الاجتماع. وبدأت اجتماعات النهضة الدينية تنال الاحترام من جديد في جميع أرجاء البلد. «إنك لا تأبهين بالحصول على واحدة من هذه يا ديل، أليس كذلك؟» قالها السيد بيوكانن بغير صيغة استجواب، وإنما بصوته الحزين المتزن. كان طويلا متحفظا نحيلا يفرق شعره في المنتصف كما كان يفعل قائدو الدراجات في بداية هذا القرن - وقد كان عجوزا بما يكفي لأن يكون واحدا منهم - وكان قد استأصل نصف معدته من جراء قرح أصابته. وقد ابتسم لي تلك الابتسامة الساخرة الباهتة الواهنة التي يحتفظ بها عادة لشخصية تاريخية ما (قد تكون شخصية بارنيل مثالا جيدا) أثارت إعجاب الناس بمظهرها في وقت من الأوقات ولكنها فقدته في النهاية بعد أن بالغت في هذا. لذا فقد شعرت أنني مضطرة - بدافع العند - لأن أقول: «بلى أرغب في واحدة، شكرا جزيلا.»
قال جيري: «هل ستذهبين لهذا الاجتماع؟» «بالطبع.» «لم؟» «لأجل الفضول العلمي.» «هناك أمور لا طائل من الفضول بشأنها.»
كان الاجتماع يعقد في الطابق العلوي من دار البلدية الذي كانت تعرض فيه الأوبريتات المدرسية. كان ذلك هو الأسبوع الأول من شهر مايو وتحول الجو إلى الدفء فجأة، وكان هذا يحدث دائما عقب الفيضان السنوي. وقبل أن تشير عقارب الساعة إلى الثامنة، اكتظت دار البلدية بالناس، كان الحضور من أولئك الذين تجدهم في احتفالات عيد الثاني عشر من يوليو، أو في مهرجان كنزمن؛ عدد كبير منهم من أهل المدينة لكن عددا أكبر من الريف. وكانت السيارات الملطخة بالطين مركونة على طول الشارع الرئيسي والشوارع الجانبية. وبعض الرجال ارتدوا حللا سوداء أنيقة وبعض النساء يعتمرن القبعات، ورجال آخرون يرتدون أردية سروالية نظيفة ونساء يرتدين فساتين واسعة مطبوعة بألوان متعددة وينتعلن أحذية رياضية، وكانت أذرعهن عارية مكتنزة وردية اللون ويحملن أطفالا مدثرين بأغطية. أما الرجال والنساء العجائز - الذين كانوا بحاجة لمن يساعدهم للوصول إلى مقاعدهم - فقد كانوا يخرجون لأول مرة منذ زمن بعيد؛ لذلك كانوا يرتدون ملابس عتيقة الطراز. تساءلت إذا ما كنت أستطيع من خلال النظر إليهم أن أعرف من أي جزء من البلاد أتوا. اعتدت أنا وجيري - ونحن نشاهد من نافذة حجرة العلوم ركوب الناس في ثلاث من حافلات المدارس، تلك الحافلات القديمة المتداعية المبهرجة التي تبدو كما لو كان يجب أن تسير مهتزة في إحدى الطرق الجبلية في أمريكا الجنوبية وتخرج من نوافذها دجاجات حية تضرب بأجنحتها - أن نلعب هذه اللعبة فنحاول تخمين من أين أتى كل منهم وفقا لمظهره، ونتحدث كما لو أننا علماء اجتماع يتكلمون بنبرة متكلفة راقية. «أولئك أتوا من بلو ريفر، فهم متأنقون ويبدو عليهم الاحترام. وهناك الكثير من الهولنديين الكادحين، وكلهم زاروا عيادة طبيب الأسنان.» «معظمهم من مستوى متمدن.» «من سانت أوجستين وكلهم أناس عاديون، مجرد مزارعون، لهم أسنان كبيرة صفراء، ويبدو عليهم أنهم يأكلون الكثير من عصيدة الشوفان.» «من وادي جيريكو، إنهم بلهاء وربما كانوا مجرمين. لا يتجاوز معدل ذكائهم المائة نقطة، وعيونهم حولاء وأقدامهم مشوهة ...» «أحناك مشقوقة ...» «أكتاف محدبة ...» «إن زنا المحارم هو ما يسبب هذا، الآباء ينامون مع بناتهم، والأجداد ينامون مع حفيداتهم، والإخوة ينامون مع أخواتهم، والأمهات ينمن مع الآباء ...» «الأمهات ينمن مع الآباء؟» «أوه، إنه مريع ما يفعلون هناك.»
अज्ञात पृष्ठ