كان الشقيق الأكبر يحضر لها الحلوى أحيانا من المدينة، وكان يحلق ذقنه على مائدة المطبخ أمام مرآة قبالة المصباح. وكانت تعتقد أنه مغرور، وكان ذا شارب ويتلقى خطابات من فتيات لا يجيب عنها أبدا، ولكنه يتركها ملقاة في كل مكان بحيث يمكن لأي شخص قراءتها. وكانت أمي تدين هذا السلوك وقالت عنه: «لا يجول بذهني أية أفكار سيئة حياله، رغم أنني أعتقد أنه لم يكن مختلفا عن معظم الآخرين.» وهو يعيش الآن في ويستمنستر ويعمل على مركب تستخدم كمعدية. أما الشقيق الآخر فكان يعيش في الولايات المتحدة، وفي أعياد الميلاد كانا يرسلان بطاقات تهنئة، وكانت أمي ترسل لهما أيضا بطاقات تهنئة، ولكنهما لم يكتبا خطابات قط، ولا فعلت أمي.
كان الشقيق الأصغر هو من تكرهه، ماذا فعل لها؟ لم تكن إجاباتها مرضية تماما في هذا الصدد. لقد كان شريرا ومغرورا وقاسيا؛ صبي بدين وقاسي القلب، فكان يطعم القطط المفرقعات النارية، وذات مرة قيد ضفدعا وقطعه إربا، وأغرق قطة أمي التي تدعى ميستي في حوض مياه الأبقار، رغم أنه أنكر ذلك لاحقا. كما أنه أمسك بأمي وقيدها في الحظيرة وآذاها، آذاها؟ بل إنه عذبها.
عذبها بماذا؟ لكن أمي لم تتفوه بأكثر من ذلك، تلك الكلمة «عذاب» كانت تقذفها من فمها وكأنها تبصق دما. وهكذا، فقد تركتني أطلق العنان لخيالي فأتصور أمي مقيدة في الحظيرة إلى عمود بينما كان شقيقها - الذي تصورته هنديا بدينا - يطلق صوتا كالعواء في وجهها ويثب فرحا من حولها. لكنها هربت في نهاية الأمر، لم تسلخ رأسها ولم يحرق جسدها. ولم يفسر أي شيء وجهها الذي كان يكفهر عند تلك النقطة من القصة أو الطريقة التي تتفوه بها بكلمة «العذاب». لم أكن قد تعلمت بعد ملاحظة هالة الكآبة التي تحيط بها عند الحديث عن الأمور المتعلقة بالجنس.
ثم توفيت والدتها، كانت قد سافرت لإجراء عملية ولكنها أصيبت بأورام ضخمة الحجم في كلا ثدييها وتوفيت - كما تقول أمي دائما - على الطاولة؛ أي على طاولة العمليات. وعندما كنت أصغر من ذلك كنت أتخيلها راقدة ميتة على طاولة عادية وسط أكواب الشاي وزجاجات صلصة الطماطم والمربى.
قلت وأنا مفعمة بالأمل: «هل شعرت بالحزن؟» وأجابت أمي بالإيجاب بالطبع، ولكنها لم تتوقف كثيرا حول هذا المشهد، فثمة أمور مهمة قادمة. فسرعان ما دخلت المدرسة واجتازت اختبارات القبول ورغبت في الالتحاق بالمدرسة الثانوية في المدينة، ولكن والدها رفض، فقد كان عليها أن تمكث في المنزل وتدير شئونه حتى تتزوج. (وكانت أمي تصيح غاضبة عند تلك النقطة من القصة: «ومن سأتزوج بحق السماء هناك في نهاية العالم حيث الجميع مصابون بالحول بسبب زواج الأقارب؟») وبعد أن قضت عامين في المنزل بائسة تحاول تعلم بعض الأشياء بمفردها من كتب المدرسة الثانوية القديمة التي كانت تخص والدتها (التي كانت مدرسة قبل أن تنشغل بالزواج والدين)، تحدت والدها وسارت مسافة تسعة أميال إلى المدينة وهي تختبئ بين الشجيرات على الطريق كلما سمعت صوت حصان قادم؛ خوفا أن يكون والدها راكبا العربة القديمة وقد أتى كي يعيدها إلى المنزل. قرعت باب نزل كانت تعرفه من تجارة البيض، وسألت عما إذا كان من الممكن الحصول على إقامة فيه في مقابل القيام بأعمال المطبخ وخدمة العملاء على الطعام. فقبلتها مديرة المنزل، وكانت امرأة عجوزا حادة ومهذبة، يطلق عليها الجميع الجدة سيلي، وقد أبعدتها عن أبيها حتى مر الوقت، بل إنها أعطتها فستانا ملونا مربع النقش من الصوف الخشن، ارتدته في أول يوم لها في المدرسة، عندما وقفت أمام صف دراسي يصغرها بعامين، وقرأت اللاتينية كما علمت نفسها بالضبط في المنزل، وبالطبع فقد ضحك الجميع عليها.
لم تتمالك أمي نفسها قط من الشعور بالإثارة والضعف وهي تتذكر ذلك. كانت تتعجب بشدة من ذاتها القديمة الشابة، فلو كانت هناك لحظة خارج حسابات الزمن، لحظة يمكننا أن نختار فيها أن نحاكم - ونحن عراة قدر الإمكان - ونحاصر ثم ننتصر، فقد كانت تلك هي هذه اللحظة بالنسبة لها. ولاحقا ربما تأتي التسويات والأخطاء، أما هناك فقد كانت مثيرة للضحك ولكنها كانت تتمتع بقوة حصينة.
ثم يبدأ فصل جديد من حياتها في النزل. كانت تستيقظ قبل الفجر كي تقشر الخضروات، وتتركها في ماء بارد كي تصبح جاهزة للغداء في وقت الظهيرة، وتنظف المباول وترشها ببودرة التلك؛ لم يكن في تلك المدينة مراحيض تطرد الماء، وكانت أمي تقول: «كنت أنظف المباول كي أحصل على تعليمي!» دون أن تأبه لمن يسمع تلك الجملة، ولكن كانت فئة جيدة من الناس هي التي كانت تقطن بالنزل؛ كموظفي البنوك وعمال تلغراف محطة السكك الحديدية الكندية والمعلمة الآنسة راش. علمت الآنسة راش أمي الحياكة، وأعطتها بعض صوف المارينو الجميل كي تصنع فستانا، وأعطتها وشاحا أصفر ذا أهداب (كانت أمي تتساءل في حزن ساخط «ماذا حل به؟») وبعض العطر. كانت أمي تحب الآنسة راش، وكانت تنظف غرفتها وتحتفظ بالشعر الذي تجده في المنفضة وفي فرشاة شعرها، وعندما تجمع ما يكفي من الشعر كانت تلفه على شكل دائرة وترتديه حول عنقها، كانت تلك هي طريقة تعبيرها عن حبها. علمتها الآنسة راش كيفية قراءة النوتة الموسيقية والعزف على البيانو الخاص بها الذي كانت تحتفظ به في الغرفة الأمامية في نزل الجدة سيلي، وكانت أمي لا تزال تعرف كيفية عزف تلك الأغاني، رغم أنها نادرا ما كانت تفعل: «اشرب نخبي بعينيك فحسب»، و«القيثارة التي كانت يوما في قاعات تارا»، و«بوني ماري من أرجايل».
ماذا حدث للآنسة راش بعد ذلك بجمالها وبتطريزها وبعزفها للبيانو؟ تزوجت متأخرا وتوفيت وهي تضع مولودها، وتوفي المولود أيضا ورقد بين ذراعيها كما لو كان لعبة من الشمع ترتدي فستانا طويلا، وقد رأته أمي.
وهكذا كانت قصص الماضي تدور وتدور في حلقات دائرية حتى تصل إلى الموت، كنت أتوقع ذلك.
فقد وجدت الجدة سيلي - على سبيل المثال - ميتة في فراشها صباح أحد أيام الصيف، بعد أن أتمت أمي أربعة أعوام من الدراسة الثانوية ووعدتها الجدة سيلي بأن تعطيها الأموال اللازمة للالتحاق بدار المعلمين، وهو قرض عليها أن تسدده عندما تصبح معلمة. وكان ثمة ورقة في مكان ما بهذا المحتوى، ولكن لم يعثر أحد عليها قط، أو كانت أمي تعتقد أن قريب الجدة سيلي وزوجته اللذين ورثا بيتها وأموالها قد عثرا عليها ولا بد أنهما قد تخلصا منها، فالعالم مليء بأشخاص من هذا النوع.
अज्ञात पृष्ठ