وعاد الرافعي إلى الشعر بعد هجر طويل؛ إذ كان آخر ما نشر من الشعر هو ديوان النظرات في سنة 1908، ثم لم يقل بعده إلا قصائد متفرقة في آماد متباعدة لحادثة تنبعث لها نفسه، أو خبر ينفعل به جنانه، وكان أكثر ما قال الشعر بعد ذلك، في سنة 1924، في إبان العاصفة الهوجاء من حب فلانة، وأكثر شعره عنها منشور في كتبه الثلاثة التي أنشأها للحديث عن هذا الحب، ثم انبعث البلبل ينشد أهازيجه من جديد، على السرحة الفينانة في حديقة قصر الملك، فصغت إليه القلوب وأرهفت له الآذان ...
واستمر يرسل قصائده في مديح الملك لمناسباتها، من سنة 1926 إلى سنة 1930 حتى وقع بينه وبين الإبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت وعاد ما بينه وبين الشعر إلى قطيعة وهجران، بعدما أنشأ الخصومة بينه وبين عبد الله عفيفي ... •••
وقصائد الرافعي في مديح الملك فؤاد نظام وحدها في شعر المديح، تقرأ القصيدة من أولها إلى آخر بيت فيها، فتقرأ قصيدة في موضوع عام من موضوعات الشعر، ليس من شعر المديح ولا يمت إليه، فلولا بيتان أو أبيات في القصيدة الخمسينية أو السبعينية يخص بهما الملك ويمدحه، لما رأيتها إلا قصيدة من باب آخر، تسلكها فيما تشاء من أبواب الشعر إلا باب المديح، اقرأ قصيدة الخضراء - يعني الراية - وقصيدة الصحراء في رحلة الملك إلى الحدود الغربية، واقرأ غيرهما، فإنك واجد فيه هذا الذي ذكرت، وواجد فنا في الشعر تعرف به الرافعي في المديح فوق ما عرفت من فنونه، فإذا حققت هذه الملاحظة في مدائح الرافعي وثبتت عندك، فارجع إلى تاريخ هذه الفترة من السياسة المصرية، ثم التمس لها تفسيرا من التفسير، أو فارجع إلى تاريخ الرافعي نفسه واذكر ما تعرف من أخلاقه تعرف تفسيرها ومعناها .
لقد كان الرافعي يجهل السياسة جهلا تاما، ولكن كانت فيه أخلاق السياسي ناضجة تامة: من الاحتيال، والروغان، وحسن الإعداد للتخلص عند الأزمة. بلى، كانت له أخلاق السياسيين في إبداع الحيلة والاستعداد للمخرج، ولكن لم يكن له في يوم من الأيام هوى مع أحد من أقطاب السياسة، أو يعرف له رأيا فيها، أو يدري من خبرها أكثر مما يدري رجل من سواد الناس يقرأ جرائد المتطرفين والمعتدلين على السواء. •••
ولم يكن للرافعي أجر على هذا المنصب في حاشية الملك، إلا الجاه وشرف النسب، وجواز مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد، ودلال وإزدهاء على الموظفين في محكمة طنطا الأهلية، حيث كان يعمل جنبا إلى جنب مع مئات من الكتبة والمحضرين وصغار المستخدمين ...!
ولكنه إلى ذلك قد أفاد من هذا النسب الملكي فوائد كبيرة، فقد تعطف الملك الكريم فأمر بطبع كتابه «إعجاز القرآن» على نفقته، كما أذن في إرسال ولده محمد في بعثة علمية لدراسة الطب في فرنسا، فظل يدرس في جامعة ليون على نفقة الملك إلى سنة 1934 حين شاء الإبراشي باشا لسبب ما أن يقطع عنه المعونة الملكية ولم يبق بينه وبين الإجازة النهائية غير بضعة أشهر، فقام أبوه بالإنفاق عليه ما بقي، ومن أجل ما كان يرسل إلى ولده كل شهر في فرنسا من نفقات العيش ورسوم الجامعة، كان يكتب «للرسالة» بأجر، وإن عليه من أعماله الخاصة ما ينوء به جسده وتنتهك أعصابه ...! •••
قلت: إن الرافعي ظل في حاشية الملك فؤاد إلى سنة 1930، ثم كان بينه وبين الإبراشي باشا أمر - بعد موت المرحوم نجيب باشا - فسكت؛ إذ خشي أن تعصف به السياسة أو تعبث به الدسائس فترمي به إلى تهلكة ...
حدثني الرافعي قال: كنت في عهد نجيب باشا أذهب إلى القصر فيلقاني بوجه طلق، ويحتفي بي، ويبسط لي وجهه ومجلسه، ويثلج صدري بما يروي لي من عطف المليك ورضاه، فما أغادر القصر إلا وأنا أشعر كأن نفسي تزداد عمقا وتمتد طولا وتنبسط سعة، ثم جاء الإبراشي فلم تدعني داعية إلى لقائه، حتى كان يوم وجدتني فيه منطلقا إلى هناك، لأسأله في أمر من الأمر ...
8
قال: «وذهب إليه الساعي بالبطاقة ودعاني إلى الانتظار، فجلست وما أظن إلا أنها دقائق ثم أدعى إليه ... وطال بي الانتظار، ومضت ساعة، وساعة، وساعة، وأنا في هذا الانتظار بين الصبر والرجاء، وحولي من ذوي الحاجات وجوه عليها طوابع ليس على وجهي منها، ونظرت إليهم وإلى نفسي فضجرت، فعدت أستأذن عليه وقد جال بنفسي أنه قد نسي مكاني، فعاد إلي حاجبه يقول: الباشا يعتذر إليك اليوم، ويسألك أن تمر به غدا في الساعة كذا ...»
अज्ञात पृष्ठ