وسيأتي يوم يدرس فيه أدب فلانة صاحبة الرافعي، وسيجد الباحثون يومئذ لونا لذيذا من البحث؛ إذ يعثرون على رسائلها إليه في بعض كتبها ومقالاتها، وليس بعيدا أن يقرأ الأدباء يومئذ كتابا جديدا بعنوان «رسائلها ورسائله» بتاريخها وزمانها وأسبابها، مقتبسة مما نشر ونشرت في الصحف والمجلات من مقالات وأقاصيص بين سنتي 1924 و1936.
أيها الباحث الذي سيأتي أوانه، ابحث عن حشو القول وفضول الكلام في مقالاتها ومقالاته، وأقرن تاريخا إلى تاريخ، وسببا إلى سبب؛ لتنشر لنا رسائلها ورسائله في كتاب ... •••
أراني لم أتحدث عن «رسائل الأحزان» كما يتحدث كاتب من الكتاب عن كتاب من الكتب، فليس هذا إلي، وإنما قدمت وسائل القول لمن يريد أن يقول، وأحسب أن كلاما سيقال عن رسائل الأحزان من بعد غير ما كان يقال، وأعتقد أن الدكتور طه حسين لن يكرر مقالته التي قالها فيه من قبل، يوم أشهد الله على أنه لم يفهم منه حرفا، وأعتقد أن الدكتور منصور فهمي لن يقتصر على قوله فيه من قبل: «إن معانيه من آخر طراز يأتي من أوربا ...»؛ لأنه سيجد مجالا للقول في غير معانيه وبيانه. •••
ولكن في رسائل الأحزان شيئا غير ما قدمت من أشيائه؛ ذلك لأن الرافعي - رحمه الله - كان ولوعا بأن يضيف إلى كل شيء شيئا من عنده، وتلك كانت طبيعته في الاستطراد عند أكثر ما يكتب.
سيجد الباحث في رسائل الأحزان عند بعض الرسائل وفي هامش بعض الصفحات من الكتاب كلاما وشعرا لا يتساوق مع القصة التي رويت، إلا أن الرافعي كانت تغلبه طبيعته الفنية في الكتابة أحيانا فيستطرد إلى ما لا يريد أن يقول؛ ليثبت معنى يخشى أن يفوته، أو ليذكر حادثة يراها بالحادثة التي يرويها أشبه، أو لأن تعبيرا جميلا وجد موضعه الفني من الكلام وإن لم يجد موضعه من الحادثة، فإن رأى الباحث شيئا من ذلك فلا يداخله الريب فيما أثبت من الحقيقة التي أرويها كما أعرفها.
وسيجد في بعض الرسائل حديثا وشعرا عن لبنان وأيام لبنان، وما عرف الرافعي صاحبته إلا في مصر وإن كان مولدها هناك. فليذكر من يريد أن يعلم، أن صاحبة الرافعي هذه لم تكن هي أولى حبائبه، وقد كان له قبل أن يعرفها في الغرام جولان، وكان بعض من أحب قبلها فتاة أديبة عرفها في لبنان، وهي سمية صاحبتنا هذه، وكان بينهما رسائل أثبت الرافعي بعضها في «أوراق الورد»، وهي التي أنشأ من أجلها كتابه «حديث القمر»، على أن عمر الحب لم يطل بينهما؛ إذ تروجت وهاجرت مع زوجها إلى أمريكا لتشتغل بالصحافة العربية هناك - وما تزال - فما جاء في رسائل الأحزان من حديث لبنان وذكر أيام هناك، فهو بقية من ذكرى صاحبة «حديث القمر»، أقحمه في رسائله؛ حرصا عليه وبخلا به على الضياع. •••
لقد كان حب الرافعي الأخير حادثة في أيامه فعاد حديثا في فكره، ورسائل الأحزان هي أول ما أنشأ من وحي هذا الحب، على أن قارئه يقرؤه فما يعرف أهو رسالة عاشق ألح عليه الحب، أم زفرة مبغض يتلذع بالبغض قلبه؟ والحق أن الرافعي أنشأه وهو من الحب في غمرة بلغت به من الغيظ والحنق أن يتخيل أنه قادر على أن يبغض من كان يحب، بغضا يرد عليه كبرياءه وينتقم له، فما فعل إلا أن أعلن حبه في أسلوب صارخ عنيف كما تحنو الأم على وليدها في عنفوان الحب فتعضه وإنها لتريد أن تقبله، أو كما تقسو ذراع الحبيب على الحبيب تضمه في عنف وما بها إلا الترفق والحنان ...!
وطبع الرافعي كتابه وأنفذه إلى صاحبته، فكتبت إليه ... وثارت ثورة الرافعي مرة ثانية فأصدر «السحاب الأحمر».
السحاب الأحمر
لا يصح الحب بين اثنين إلا إذا أمكن لأحدهما أن يقول للآخر: يا أنا ... ومن هذه الناحية كان البغض بين الحبيبين - حين يقع - أعنف ما في الخصومة؛ إذ هو تقاتل روحين على تحليل أجزائهما الممتزجة، وأكبر خصمين في عالم النفس، متحابان تباغضا ...
अज्ञात पृष्ठ