وتحدث إليها وتحدثت إليه، فأحبته «الرفيق الأنيس» الذي تسيطر عليها روحه فينتزعها من دنياها العابسة إلى دنياه ... •••
واستمعت إلى صوته يتحدث، فكان له في نفسها رنين، ونظرت إلى سحنته الفكرية النبيلة فرأت فيها مرآة صافية لا تعرف الخداع والتزوير، ولمحته يبتسم، فجذبتها إليه ابتسامة لم تجد مثلها إلا زيفا على شفاه الرجال، ونظر إليها ونظرت إليه، وقال وقالت، وتحدث قلب إلى قلب، وتناجيا في صمت، وتركها وهي في نفسه، ومضى وهو في مجلسها، وأحست في نفسها إحساسا ليس لها به عهد، فتناولت قلمها لتكتب له:
15
سأستعيد ذكرك متكلما في خلوتي لأسمع منك حكاية غمومك وأطماعك وآمالك، حكاية البشر المتجمعة في فرد واحد، وسأستمع إلى جميع الأصوات؛ علي أعثر فيها على لهجة صوتك، وأشرح جميع الأفكار وأمتدح الصائب من الآراء ليتعاظم تقديري لآرائك وأفكارك ... وسأبتسم في المرآة ابتسامتك.
في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك ...
سأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب، وكيف تشتاق، وكيف تحزن، وكيف تتغلب على عادي الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلى الانفعال النبيل ...
وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورا؛ لأنك أوحيت إلي ما عجز دونه الآخرون. أتعلم ذلك، أنت الذي لا تعلم! أتعلم ذلك، أنت الذي لا أريد أن تعلم ...!
وكان حبها إعجابا بالعقل الجميل، ثم تقديرا لأستاذها الذي فجر لها ينبوع الشعر والبيان، ثم إجلالا للصديق الذي وجدت مفزعها إليه، ثم انعطافا إلى الرفيق الأنيس الذي كشف لها عن أفراح الحياة، ثم ... ثم حبا يستأثر بنفسها ويسيطر عليها في غيبه ومشهده فما لها عمل إلا أن تفكر فيه ...
وأضلها الهوى وأضله، وخيل إليها أنها تستطيع أن تكون أرفع محلا لو أنها منعته بعض ما تمنحه، وخيل إليه أنه يستطيع، وقالت له: «أنا لا أشفق على آلامك، وهل تراني أكره لك النبوغ والعبقرية؟» وقالت له كبرياؤه وغيرته وظنونه غير ما قالت صاحبته، ومضى كل منهما إلى طريق والقلب يتلفت، وما عرفت إلا من بعد أنه يحبها حبا لا يطيق أن يتسع أكثر مما تتسع له نفس إنسان، وما عرف إلا من بعد أنها كانت تجافيه لتطلب إليه أن يكون في الحب أجرأ مما كان ...
وعرف وعرفت، ولكن العقدة لم تجد من يحلها وبينهما فلسفة الفيلسوف وكبرياء المتكبر، وظل وظلت وبينهما البعد البعيد على هوى وحنين ... حتى جاء الموت فحل العقدة التي استعصت على الأحياء ...
अज्ञात पृष्ठ