وفي صبيحة الغد بدأت المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول «وحي القلم». ... ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني، وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه، حتى جاءني نعيه ... غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله؛ لتخفف عني وقع المصاب من بعد، أو لتحملني - غير محمول من أحد غير واجبي - على كفارة الذنب الذي أذنبت بهذه القطيعة، فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ لعلي أقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت عن وفائه في حياته. يرحمه الله! ••• ... لم يمل علي الرافعي شيئا بعد مقالة كفر الذبابة، ولكنه طلب إلي أن أنسخ له صورة من مقال كان نشره في المقتطف قبل ذلك بسنوات عنوانه «سر النبوغ في الأدب».
فلما سافر إلى مصيفه بعث إلى الرسالة بمقاله «كلمات عن حافظ» لمناسبة ذكراه، ثم أصابته قرحة في كفه منعته من العمل، فأخذ مقالة «سر النبوغ في الأدب» فجعل عنوانها «الأدب والأديب» ثم جعلها مقالة الأسبوع التالي، وهي مقالة من مقالات الرافعي الفريدة، تهم الباحث الذي يريد أن يدرس الرافعي صاحب «تاريخ آداب العرب». •••
ثم توالت مقالات الرافعي يمليها على نفسه ويكتبها بخطه، على أني بما كنت ألقاه وبما كان بيني وبينه من الرسائل إلى ما قبل موته بأشهر، لم يفتني أن أعرف دوافعه إلى كثير مما كتب بعد ذلك من المقالات لقراء الرسالة، فسأحرص - تماما لهذا البحث - على أن أذكر ما أعرف من دوافع بعض المقالات التي أنشأها وحده من بعد، غير معتبر ترتيبها في النشر؛ إذ لا عماد لي فيما أكتب عنها إلا الذاكرة.
من هذه المقالات: الجمال البائس، القلب المسكين، المشكلة، المجنون، أحاديث الباشا.
أما مقالات «الجمال البائس» فقد أملاها عليه حب جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي: «... وأنا على كل أحوالي إنما أنظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعا في الهواء، لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني، ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى أكبر من المرأة، أكبر منها، غير أنه هو منها! ... ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه، فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس، ما تطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها، ولا شيء غير ذلك، ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه إليها، وليس إلا هذا.
والذي هو أعجب أن ليس في حبه شيء نهائي، فلا هجر ولا وصل، ينساك بعد ساعة، ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه، والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في وهمهم ويطفئوها وينتبهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضا وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر، وهذا هو تجبره على جبار الحب!»
4
حب هو سمو بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السموات يتنور في عوالمها الخفية نور الإنسانية في حقائقها العالية.
بدأ ذلك الحب في صيف سنة 1935، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر، ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانا؛ ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ عامر - رحمه الله - وكان بينهما صلات من الود ترجع إلى نحو عشرين سنة منذ كان الأستاذ حافظ محاميا في طنطا.
अज्ञात पृष्ठ