يرحمه الله! لم يكن يمر به حادث يألم له، أو يقع له حظ يسر به، إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخر لفنه، فهي للناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي! •••
وإذ ذكرت السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة «عروس تزف إلى قبرها!» أراني مسوقا إلى ذكر حديث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميته فيه من قبل «فلسفة الرضا».
لم يكن لأحد رأي في خطبة هذه العروس إلى سامي، ولكنه هو خطبها لنفسه، وكان يحبها ويرجوها لنفسه من زمان، ولم يكن بينهما حجاب، فإنها بنت خاله، فلما أجمع أمره على خطبتها بعدما تخرج وصار له مرتب يكفيه،
1
ذهب يعرض أمره على والده، فعارضه فيما ذهب إليه لسبب سببه، ولكنه مع اعتداده برأيه في هذه المعارضة تركه لهواه ولم يفرض عليه رأيه؛ إذ كان يرى من حق ولده أن يختار زوجته لنفسه، فليس له عليه في هذا الشأن إلا أن يبذل له النصح ثم يدع له الخيرة في أمره.
وخطب سامي فتاته، وعقد عقده، وكان حموه يعمل في مال فأكلته الأزمة، وقدر عليه رزقه بعد سعة، ثم مرضت الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!
وتداعت فنون الحديث يوما بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان، فقال لي الرافعي: «انظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ضلت البشرية إن هي حاولت النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس ... ليس للإنسان خيرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسبابا بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب مما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء ... ترى من ذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطب لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمت نظامها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمت له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر مرجو لهذا الواجب من بعد؟ لقد كنت مستيقنا من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة، لأشعر بكثير من الرضا إلى ما كان!» •••
ثم كتب مقالة «بين خروفين».
وهي تمت بسبب إلى مقالة «حديث قطين» وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن وهو أصغر بنيه، وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب، فما يزال يستحثه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمل، وكان «الإيحاء» هو وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل، ويبدو مثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول ذلك المقال.
وكان الرافعي معنيا بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى، وكثيرا ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدت بين أوراقه حديثا له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجا ليهيئ نفسه للامتحان لو أنه اتبعه لكان اليوم غير من هو!
अज्ञात पृष्ठ