وكنت متعودا أن أغدو على الرافعي في المحكمة في أوقات الفراغ، فلما علمت أن مفتشا عنده أقصرت، فلما علم مني سبب امتناعي عن زيارته قال: «لا عليك وخل عنك هذا الوهم فلا تغير شيئا من عادتك!»
وزرته بعد ذلك مرات والمفتش عنده، وكان يدنيني إليه في مجلسه، ويجعل كرسي إلى جانب كرسيه خلف المكتب، ويتأبى على المفتش أن يذهب إليه حيث يكون، ليحمله على الحضور بنفسه ليسأله عما يريد من غير أن يغادر مجلسه، وفي أحيان كثيرة كان يحضر إليه المفتش وأنا في مجلسه ليسأله عن أمر من الأمر، فيدعه الرافعي واقفا ويتحدث إليه وهو جالس حديثا كله سخرية وتهكم، ثم لا ينظر إليه إلا ريثما يجيبه عما سأل، ثم يغضي عنه ويدعه واقفا ليعود إلى ما كان فيه من الحديث معي أو المطالعة في صحيفة أو كتاب!
وعلى أن المفتش لم يظفر بشيء مما أراد بالرافعي، فإنه استطاع أن يشغله بنفسه ثلاثة أشهر أو يزيد، على رغم ما كان يبدو على الرافعي من إهمال شأنه وعدم الاكتراث به! ... ثم انتهت قضية قطعة الأرض إلى الحكم للرافعي، وانتهت كذلك دورة التفتيش على غير طائل، ولكن هذه وتلك قد شغلتا الرافعي شطرا كبيرا من سنة 1935، وأوحت إليه بكلمات وكليمات مما نشر لقراء الرسالة في هذه الفترة. ••• ... ولم يفرغ بعد كل أولئك مما يتصل بموضوع الزواج وشئون الأسرة، فكانت القصة التالية «زوجة إمام» الإمام أبو محمد سليمان الأعمش وزوجه، وتلميذه أبو معاوية الضرير.
قصة أراد بها أن يستوفي موضوع الزواج بالحديث إلى النساء عن واجب الزوجة، وبها تم ما أملاه علي في موضوع الزواج، وعدته ثلاث عشرة مقالة، أولها مقالة «س، أ، ع» وآخرها الجزء الثاني من «قصة إمام».
وددت لو أن الرافعي حين أعاد نشر هذه المقالات في وحي القلم، نشرها على الترتيب الذي كانت به، والذي رويت ما أعرف من أسبابه الظاهرة، فإن ذلك كان خليقا أن يعين الباحث على دراستها مجتمعة متساوقة فصولها فصلا إلى فصل، ولكنه جمعها في وحي القلم على ترتيب رآه، فجعل منها القصة، والمقالة، والحديث الديني، وجعل كل نوع من هذه الثلاثة في بابه، على أن ذلك لا يمنع الباحث الذي يتهيأ للرأي في هذه المقالات أن يقرأها على الترتيب الذي قدمت أسبابه وأسبابها معه. •••
كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل، فإذا لم يجد له عملا في المحكمة انصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة، وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته، وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادة تلهمه الفكر والبيان، ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة ...
وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان، فكان يصحبه شرطي كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إلي لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا، ونظر الرافعي إليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلع لا يكاد يتقار في موضعه ...
ثم انصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، والتفت الرافعي إلي يسألني: «... وبين تلاميذك كثير من مثل هذا الشمعون؟»
وكلمة «شمعون» عند الرافعي هي علم مشترك لكل فتى جميل، وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر ... وكان اسمه «شمعون»، حدثني الرافعي عنه قال: «وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى ...!» ورآه الرافعي كثيرا في صحبة الكاظمي، فوعى اسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام متأنث ... ... قلت للرافعي: «هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإن من خبره ...»
قال الرافعي: «وهذا موضوع جديد!»
अज्ञात पृष्ठ