وأحسب أن الرافعي لم يتخذ هذه الطريقة في تأليف القصص عن عمد واختيار، فلم يكن ثمة ما يدفعه إلى معالجة القصة واختيار طريقة فيها - ورأيه في القصة رأيه - ولكنه مذهب اتفق له اتفاقا بلا قصد ولا معاناة، وإنما تأتى له ذلك من طريقته التي أشرت إليها في الحديث عنه عند ما يهم بالكتابة، فقد أسلفت القول أنه كان يحرص على أن يعيش وقتا ما قبل الكتابة في جو عربي، فيتناول كتابا من كتب الأدب القديم يقرأ منه فصلا ما قبل أن يشرع في إملاء مقاله، فمن هنا كان أول الطريق إلى مذهبه في القصة، ولكل شيء سبب، وأحسبه لما هم أن يكتب عن «المعجزة المالية» في تقاليد الزوج وعن فلسفة المهر، وقد اجتمعت له الفكرة في ذلك، تناول - كعادته - كتابا من كتب العربية يقرأ فيه ما تيسر، فاتفق له في مطالعته أن يقرأ قصة سعيد بن المسيب والوليد بن عبد الملك وأبي وداعة، فرآها أشبه بموضوعه وفيها تمامه، فبدا له أن يؤدي موضوعه هذا الأداء فكانت قصة، وأذكر أنه لما دعاني ليملي علي هذه القصة قال لي في لهجة الظافر: «... لقد وقعت على نادرة مدهشة من التاريخ تتحدث عن فلسفة المهر حديثا لا أعرف أبلغ منه في موضوعه ...»
فمن ذلك أعتقد أن أول هذا المذهب في القصة كان اتفاقا غير مقصود صادف طبيعة خصبة ونفسا شاعرة فكان فنا جديدا.
وأكثر قصص الرافعي من بعد على هذا المذهب، على أن لكل قصة من هذه القصص - أو لأكثرها - أصلا يستند إليه من رواية في التاريخ أو خبر مهمل في زاوية لا يتنبه له إلا من كان له مثل طبيعة الرافعي الفنية وإحساسه ويقظته، على أن أهم ما أعانه على ذلك هو عندي صلته الروحية بهذا الماضي، وشعوره بالحياة فيه كأنه من أهله ومن ناسه، فإن له بجانب كل حادثة وكل خبر من أخبار ذلك الماضي قلبا ينبض كأن له فيه ذكرى حية من ذكرياته تصل بين ماضيه وحاضره، فما يقرؤه تاريخا كان وانطوت أيامه، ولكنه يقرأ صفحة من ماضيه ما يزال يحس فيها إحساس الحي بين أهله، فما أهون عليه بعد أن يترجمها من لغة التاريخ إلى لغة الأحياء!
وقد كنت على أن أرد كل قصة من قصص الرافعي إلى أصلها من التاريخ وأنسبها إلى راويها الأول؛ ليكون النموذج واضحا لمن يريد أن يحتذي الرافعي ليتمم ما بدأ على مذهبه في تجديد الأدب العربي، ولكني وجدت ذلك أشبه بأن يكون فصلا من الأدب، ليس موضعه في هذا الكتاب.
عود على بدء
كان فيما تحدث به صديقنا المهندس الأديب محمد أ. إلى الرافعي من أسباب عزوبته، أن الزواج عنده حظ مخبوء، فإنه ليخشى أن يحمل نفسه على ما لا تحتمل من العنت والمشقة في سبيل إعداد ما يلزم للزواج، ثم تكون آخرة ذلك أن يجلوا عليه فتاة دميمة لا يجد في نفسه طاقة على معايشتها ما بقي من حياته، أو فتاة فاسدة التربية لا يدخل بها على زوجة، ولكن على معركة ...
وقد ظل هذا القول عالقا بذهن الرافعي يلتمس الوسيلة إلى تفنيده والرد عليه، حتى وقع على قصة أحمد بن أيمن «كاتب ابن طولون»، فأنشأ مقالة «قبح جميل» وهي القصة الثانية مما أنشأ الرافعي لقراء الرسالة، وهي الحلقة الخامسة من سلسلة مقالاته في الزواج، وفيها توجيه معتبر للحديث الشريف: «سوداء ولود خير من حسناء لا تلد!» يسلك هذه المقالة في باب «الأدب الديني» الذي أشرت إليه في بعض ما سبق من الحديث.
ثم كانت الحلقة السادسة هي قصة «رؤيا في السماء» وتتصل بما سبق من المقالات بأسباب، على أنها تتحدث عن الزواج بمعناه الأسمى، وتدعو إليه الدعوة الإنسانية التي تعتبر الزواج بابا من الجهاد لسعادة البشرية كلها ...
في هذه المقالة، لا أعرف سببا خاصا من مثل ما قدمت دعاه إلى إنشائها، ولكنها جملة الرأي وخلاصة الفكر وأثر اشتغال الواعية الباطنة قرابة شهرين بموضوع الزواج، فهي من الموضوع كالهامش والتعليق، أو الحكم بعد المداولة، أو هي الصفوة الصريحة بعدما يذهب الزبد وتنطفئ الرغوة ...
وقد ترجم هذه القصة إلى الفرنسية الأديب المرحوم فليكس فارس، وكانت هي أول الصلة بينه وبين الرافعي ثم اتصل بينهما الود. •••
अज्ञात पृष्ठ