وراودته التي هو في بيتها عن نفسه
4
ليرى نموذجا من هذا الذوق الفني العجيب في فهم اللفظ ودلالة المعنى، يقابله وجه آخر من هذا الذوق في اختيار ألفاظه عند الإنشاء، وكان إلمامه بمتن اللغة، وإحاطته بأساليب العربية، ومعرفته بالفروق اللغوية في مترادف الكلام، معينة له عونا كبيرا على البلوغ بعبارته هذا المبلغ من البيان الرفيع، احتاج مرة أن يعبر عن معنى في أسلوب من أسلوبه، فتأبى عليه القول، فأخذ يغمغم برهة وأنا منصت إليه، فإذا هو يقرأ لنفسه من ذاكرته بابا من كتاب المخصص لابن سيده، ثم دعا بالكتاب فأخرجته إليه، فما هو إلا أن فتحته فوقع على مراده حتى طوى الكتاب وعاد إلى إملائه، وهو على صحة عبارته وسلامتها قلما كان يلجأ إلى معجم من المعاجم ليبحث عن كلمة أو معنى كلمة، ومع حرصه على أن يكون قوي العبارة عربي الديباجة قلما كان يستعمل عبارة من عبارات الأولين، وكم أجد على العربية من أساليبه ومعانيه، وكان له في إنشاء «الكناية» إحساس دقيق، وأحسب لو أن واحدا من أهل البيان أراد أن يتتبع ما أجد الرافعي على العربية من أساليب القول، لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين؛ إذ كان مذهب الرافعي في الكتابة هو أن يعطي العربية أكبر قسط من المعاني ويضيف ثروة جديدة إلى اللغة، وقد بلغ ما أراد.
إنني لم أعرف كاتبا غير الرافعي يجهد جهده في الكتابة أو يحمل من همها ما يحمل، وما أعرفه حاول مرة واحدة أن يسخر من قرائه أو يشعوذ عليهم ليملأ فراغا من صحيفته يريد أن يمتلئ، على أنه أحيانا كانت تدعوه دواع إلى كتابة لم يتهيأ لموضوعها أو يفرغ له باله، فيمليها على عجل بلا إعداد ولا توليد، ولكنك مع ذلك تجد عليها طابع الرافعي وشخصيته، فتعرف كاتبها وإن لم يذيلها باسمه، والعجيب أن هذا النوع من المقالات التي كان الرافعي يكتبها بلا إعداد ولا احتفال كان أحب إلى كثير من القراء، وكان الرافعي يرتفع به عن منزلته درجات عند طائفة منهم ...
والشاي أو القهوة هما كل المنبهات العصبية التي يطلبها الرافعي عندما يكتب، وفنجانة أو اثنتان هما حسبه في هذا المجلس الطويل، وعلى أنه في أخريات أيامه قد ولع بتدخين الكركرة - الشيشة - ويستعيض عنها بالدخان في أثناء الكتابة، فإنه لم يكن يشعل إلا دخينة - سيجارة - أو دخينتين في مجلس الكتابة، فكان يشتري العلبة فتظل في درج مكتبه شهرا إذا لم يزره في مكتبه زائر ... ... فإذا فرغ الرافعي من إملاء مقاله، تناوله مني فطواه قبل أن يقرأه، ثم يودعه درج مكتبه إلى الصباح ويخرج إلى الشرفة يشم نسيم المساء ... ثم يأوي إلى فراشه ...
وأول عمله في الصباح بعد صلاة الفجر أن يعود إلى المقال الذي أملاه علي في الليل فيقرأه ويصححه ... ثم يسعى به ساعيه إلى حيث ينشر ... ويفرغ يوما لنفسه قبل أن يهيئ فكره لموضوع جديد ...
مقالة ... هي عمل الفكر، وكد الذهن، وجهد الأعصاب، وحديث النفس في أسبوع كامل، ولكنها مقالة ... ومع ذلك فقد أنشأ كتاب «رسائل الأحزان» في بضعة وعشرين يوما، وكتب «حديث القمر» في أربعين، وكتب «السحاب الأحمر» في شهرين ...
وقال قائل من خصومه: «إنه يقاسي في هذه الكتابة ما تقاسي الأم من آلام الوضع ...!»
وقال الرافعي يجيبه: «أتحداك أن تأتي بمثلها أو بفصل من مثلها ... وعلي نفقات القابلة والطبيبة متى ولدت بسلامة الله!»
عمله في الرسالة
अज्ञात पृष्ठ