58

واشتغلتا بالتحرير الصحفي يوم كانت الصحافة المصرية في أحرج أوقاتها بعد قيام الأحزاب، وقبل إعادة قانون المطبوعات ...

ثم هأنذا أشتغل بديوان الأوقاف، وهو ميدان المعركة الحامية بين السلطة الشرعية والسلطة الفعلية، وطلاب الإصلاح، ولست بآسف على هذه القسمة التي تسوقني إلى الأعمال في إبان أزماتها ومراحل اضطرابها، فقد كانت أنفع لتربيتي النفسية من فترات الهدوء والاستقرار ... وكان عملي في ديوان الأوقاف بين سنتي 1912 و1914 أكثر من عملي في وظيفة من وظائف الارتزاق، فقد كنت أجهل الكثير من حقائق بلدي، ومن أسرار شئونه العامة لو لم أقض تينك السنتين في ذلك الديوان ...

كانت يد الخديو مطلقة في وظائفه وأمواله ... وكان مع الأسف الشديد يحتكرها لإشباع نهمه من المال والدسيسة، ولا يأبى أن يسف إلى الاختلاس من أموال الصدقات، واستباحة السمسرة على صفقات الاستبدال ... وشاعت في تلك الأيام قصة أرض المطاعنة التي أخذ فيها الخديو لنفسه ستين ألف جنيه باسم «العمولة أو الوساطة»، وعاد بعدها فتعقب كل من عارضوه ووقفوا له في طريقه من الموظفين النزهاء ، فعاقبهم على الأمانة واليقظة بالفصل والإهمال ... وكان المحتلون يحاربون الخديو على تقليد النزاع بين السلطتين، ويأبون عليه أن يستأثر بهذه الحكومة الصغيرة في داخل الحكومة الكبيرة، ويعلمون أنهم لا يستطيعون المساس بالمعاهد الدينية، فيرجعون سرا إلى الآستانة لجس النبض في دار الخلافة، والتماس الفتوى من شيخ الإسلام بجواز الرقابة الرسمية على نظار الأوقاف، وعلى ناظرهم الكبير وهو أمير البلاد ...

وكان طلاب الإصلاح يهتمون بأمر واحد، وهو القضاء على المفاسد في ديوان يرتبط به نظام المعاهد الدينية أشد الارتباط ... فلا أمل في إصلاح هذه المعاهد، ولا في إصلاح القضاء الشرعي معها، ولا في إصلاح الأزهر بفروعه ما لم تكن إدارة الأوقاف خاضعة للرقابة العلنية خارجة من تلك العزلة، التي جعلتها أشبه شيء بضيعة من ضياع الخاصة الخديوية، مع الفارق بين ضيعة يغار عليها مالكها، وضيعة يبددها من يملك الأمر فيها ...

مقالات بلا توقيع

وبين هذا المضطرب عملت في الديوان ... والقلم الذي عملت فيه هو حومة المعركة في ميدانها؛ لأنه القلم الذي تمر به مذكرات مجلس الإدارة ومذكرات المجلس الأعلى، وهذه هي المذكرات التي تعرض فيها مسائل الموظفين وقضايا الصفقات ...

والسنة التي عملت فيها بالديوان هي السنة التي انتهت بتحويله من ديوان إلى نظارة، وصدور الأمر بعرض ميزانيته على مجلس النظارة، والجمعية التشريعية ...

ولقد كانت فضائح الأوقاف سرا مباحا لكل من يميل إليه بأذنيه ... فليس فيها من باب أولى سر يخفى على موظف في قلم السكرتارية يتصل كل يوم بموظفي الديوان ممن يشتغلون بمسائل المذكرات، التي تعرض على مجلس الإدارة أو المجلس الأعلى ...

وقد هالني ما علمت من فضائح الديوان بعد فترة وجيزة، وإن كنت لا أجهل قبل ذلك أنها شيء يهول ...

وكنت أتكلم ولا أتحفظ ...

अज्ञात पृष्ठ