وكان «المؤيد» يزدهر في إبان نشاط صاحبه «علي يوسف» ... ثم نكب هذا الرجل العصامي نكبة قاسية عصفت بنشاطه قبل أوانه، إذ فجعته المنية في وحيده في مقتبل صباه، واضطربت حياته بعد ذلك بمشكلات الأسرة، أو مشكلات «مشيخة السادات» التي ساقته قضية الزوجية إليها، وما زال دبيب الملل يسري إليه، ويزهده في صحيفته العزيزة عليه حتى تركها بعد حين للمقادير، وهو لا يبالي ما سوف تلقاه، أو ما سيلقاه! ...
وكانت «الجريدة» أسلم الصحف من هذه الزعازع وأشباهها، ولكنها على هذا لم تسلم من ضربات خصومها السياسيين، وفي مقدمتهم الحاشية الخديوية، وحزب الإصلاح على المبادئ الدستورية ... فإن حاشية الخديو افتتحت عهد الوفاق بين السلطتين الشرعية والفعلية بمحاربة «حزب الأمة» قبل غيره من الأحزاب؛ لأن أعضاء الأحزاب الأخرى كانوا يلوذون بالقصر ولا يقاطعونه، خلافا لأعضاء حزب الأمة الذين كانوا يقفون من القصر موقف الاستقلال، أو يتعرضون لغضبه في كثير من الأحوال، فسعى رجال الحاشية سعيهم لتحويل الأعضاء من حزب الأمة إلى حزب الإصلاح، ونجح مسعاهم بعد اختيار وكيل حزب الإصلاح للوزارة وتتابع الإنعام بالرتب والألقاب على أعضائه البارزين ... ولم تبق للحزب بقية قادرة على الصمود والمقاومة إلا بجهد جهيد، ولكنه بقاء لم يعصم الجريدة من أزمات المال والخلافات الداخلية، وعرفت من محرريها يومئذ من تركها لأنها اضطرت إلى القصد في وظائف التحرير بعد التوسعة فيها عند نشأتها، حتى كانت تقنع من المحرر بنهر في اليوم، ولا تسأله إذا ونى عن كتابة هذا النهر عدة أيام ...
حياة الظلام
وتلك هي الصحف التي أنظر إليها إذا نظرت إلى عمل في الصحافة اليومية، فأما الصحف الأسبوعية فلم يكن فيها مجال لغير أصحابها أو لغير كتاب المقالات - بالقطعة - على حسب الطلب، وعلى كل لون، وفي عرض الطريق!
وربما تأتى للصحافة في مجموعها أن تغالب هذه المحنة، وأن تتغلب عليها في النهاية لو لم تطبق عليها طامتها الكبرى من قانون المطبوعات الرهيب: قانون الحجر والرقابة، وتقييد الرخص ومحاسبة الكاتب على السطور وما بين السطور، وعلى الأقوال والنيات! ...
وقد انطوى هذا القانون بعد نشره في أيام الثورة العرابية، ثم بطل العمل به زمنا طويلا حتى نسينا نحن الصحفيين الناشئين أن في البلد قانونا للصحافة كان يسمى قانون المطبوعات، وأن الكاتب يسأل عن شيء قاله في حدود النقد المباح كائنا ما كان مقام المنقود في الحكومة أو في البلاد ...
ومما يؤسف له أن نصيب الصحافة من هذه الطامة التي جرتها على نفسها لم يكن أهون من نصيب الحكومة، وأنها جنت على حريتها ولا ريب بما زودت به «السلطة» من معاذير، يقبلها كل من يؤمن بحق القانون ...
فلا نذكر أن أحدا من أعلام الصحافة كتب في صحيفته كلمة تتعلل بها الحكومة لتقييد حرية الكتابة، أو قال في خطبة من خطبه كلمة تتعلل بها لتقييد حرية الخطابة والاجتماع، ولا نستثني من ذلك «مصطفى كامل» على تطرفه واندفاعه في الخطب، وفي المقالات ...
ولكن الصحافة اليومية لم تلبث أن صارت إلى الأقلام التي لا تحسن شيئا كما تحسن أن تسقط معاذيرها، وأن تمهد العذر لمن يتمحلون العلل عليها، ولا نخال أن حاكما حرا أو مستبدا كان يعيبه أن يتمحل العلل للحجر على الدعوة الصريحة إلى القتل وإهدار الدماء، ومن أمثلتها ما نشر في ديوان «وطنيتي» من أبيات يقول فيها ناظمها:
هل سال في مصر الدم
अज्ञात पृष्ठ