فقد بنى بثلاث من زوجاته لأنهن بنات أصحابه الأوائل: أبي بكر وعمر وعثمان، وليس للأخوة في الله من سند إنساني في بلاد العرب أوثق من الأخوة في النسب والمصاهرة.
وأولى زوجاته خديجة - رضي الله عنها - كانت في نحو الأربعين يوم بنى بها وهو في نحو الخامسة والعشرين، ولم يكن وفاؤه لها وفاء الحس والمتعة؛ لأنه فضلها على أصغر زوجاته وأحبهن إليه: عائشة بنت الصديق، عليهما الرضوان ...
وكانت أم سلمة مسنة حين قتل زوجها عبد الله المخزومي في واقعة أحد، ورملة بنت أبي سفيان تركت أباها لتسلم وتركت وطنها لتهاجر، وفارقها زوجها بغير عائل وهي في الحبشة، فطلبها النبي من النجاشي وتزوج بها لكي لا ترتد وهي عائدة إلى أهلها، وصفية الإسرائيلية خيرت بين العودة إلى قومها وبين العتق وزواج الحرائر غير السبايا ... فاختارت زواجها بالنبي عليه السلام.
وأكرم ما كان من بواعث المروءة في اختيار زوجات النبي قد كان ذلك الزواج الذي خاض المبشرون في حديثه، وزعموه عشقا غلبه على نفسه الكريمة، حاشاه، فطلقها من فتاه زيد ليضمها إليه.
فقد كانت زينب زوجة زيد بن حارثة من بنات عمومته - عليه السلام - رآها منذ طفولتها إلى يوم زفافها، ولم تكن من الغريبات اللاتي يفاجأ برؤيتهن لأول مرة في بيوت أزواجهن، وإنما كان كرم النبي هو الذي حبب إليه أن يرفع من شأن الأسير الغريب، فيجعله أهلا لمصاهرته ومصاهرة بني هاشم من أبناء عمومته، وقد شق على الفتاة أن تسكن إلى العيش مع رجل من غير أكفائها، ثم شق على زيد أن يواجه النبي بتسريح بنت عمته بعدما كرمه بمصاهرته، فكان كرم النبي باعثه على إعفاء الزوج من ضنك هذه العشرة، وإعفاء الزوجة من إهمال يصيبها بعد طلاق يذلها، ثم يقصي عنها الخاطبين الذين لا يتقدمون مختارين إلى مطلقات الأرقاء، وتمت القدوة كما أرادها الإنسان بمروءته وأرادها النبي بتشريف الأسير وجبر الخاطر الكسير ...
وإن الإنسان - حق الإنسان - ليعرف من أمر محمد في اختيار زوجاته جانبا من المروءة المثلى في صاحب الدعوة الإلهية ينبئ عن تلك العظمة الإنسانية، التي تمثلت في مكانة الرجل بين صفوة الأبطال من عظماء الرجال؛ فهو كذلك لأنه إنسان عظيم، غاية ما ترتقي إليه شمائل الرجل العظيم.
ولقد كانت معاملة محمد لنسائه صفحة أخرى من صفحات تلك المروءة التي يسمو بها - إنسانا عظيما - إلى شرف الرسالة الإلهية، فمن وصاياه، نبيا، أن خير الناس خيرهم لنسائهم، ومن رعايته لهن إنسانا، قد ضرب للرجال مثلا يعلو على غاية الغايات في العمل بتلك الوصية ، فما من رجل مضت له في العشرة الزوجية سنوات طوال لم تفلت من لسانه الكلمة النابية، ولم تبد على وجهه اللمحة القاسية، ولم يلق امرأته بحالة من الشدة تبدر من الرجل للمرأة كما تبدر من المرأة للرجل، وهذه سيرة محمد مفصلة مطولة لم يهمل رواتها خبرا من أخبارها، ولم يسقطوا حديثا من أحاديثها التي تؤثر بالنقل والرواية، فما انتقلت إلينا منها كلمة زجر ولا نظرة سخط، ولا لمحة تأنيب أو زراية، ولم يكن له في حالة غير حال الرضا موقف أشد من موقف العتاب في صمت، أو السؤال في غير إقبال، وتلك شيمة من شيم الرفق الإنساني تتلاقى عندها طبائع الملائكة وطبائع البشر من أبناء آدم وحواء.
وليس هذا من صنيع رجل لا يعرف الغضب، فليس من لا يعرف الغضب بإنسان! ولكنها قدرة على النفس حيث تحمد القدرة في موضعها، وهي أحمد ما تكون من رجل إذا غضب حق الغضب استطاع أن يوقع بمن يغضب عليه ما ليس في طاقة الأقوياء، بله الضعفاء، ولقد غضب النبي على أناس خدعوه وكفروا نعمته، وقتلوا الآمنين من رجاله واستدرجوهم ليعلموهم الدين كما زعموا، فغدروا بهم وانتزعوا منهم ما أحسنوا به إليهم، فغضب الإنسان محمد، والنبي محمد، حيث يعاب الرضا والهوادة.
غضب على الغدر والشر والخداع والغلظة، وجزاهم الجزاء العدل وهم غير أهل للرحمة، ولم يحرمهم الرحمة وهي ليست عنده أو ليست من ألزم شمائله، بل حرمهم رحمته ورحمة الله؛ لأن الرحمة بهم قسوة على كل خلق شريف في الإنسان، فكان غضبه سواء لرفقه ورحمته في خير ما يحمد من إنسان.
ولقد يكون الضعف الإنساني خير مقياس للعظمة الإنسانية في أرفع مراتبها، بل هو في الواقع أصدق قياسا للعظمة الحقة من منازلة الأبطال الأشداء من الرجال، فإن من يغلب بقدرته قدرة تصارعها وتضارعها عظيم، ولكن القدرة التي هي أعظم من قدرة القاهر الغلاب قدرة تغلب نفسها باختيارها لترفق بالضعيف، الذي لا طاقة له بقهرها ولا غنى له عن رفقها، ولا أمل له في النصفة من غيرها، ولا حصر لمآثر النبي التي شمل بها الضعفاء في عنفوان قوته ونصره، ولكننا قد نحصرها كلها إذا ذكرنا منها تلك المروءة التي حببت إليه أن يجبر خاطر الأسير الضعيف المنقطع عن أهله، فيرفعه إلى مقام مصاهرته في أقرب الناس إليه، وتلك آية من آيات «الإنسانية» الحقة أروع ما فيها أن تأتي من النبي العربي القرشي الهاشمي، وليس أحق منه باعتزاز النسب في مقام المصاهرة.
अज्ञात पृष्ठ