فقد تعلمت صناعة التلغراف كما تعلمها النديم، واشتغلت بالتعليم في مدرسة خيرية كما اشتغل النديم، وجربت الاستخفاء على الطريقة البوليسية أكثر من مرة إبان الحرب العالمية الأولى، وكذلك فعل النديم عند مطاردته في أعقاب الثورة العرابية.
ولكنني - مع هذه المشابهات - لم أشعر من قبل، ولا أشعر الآن بأن الرجل قدوتي المختارة بين أمثلة النبوغ التي أتمناها، أو بين «الشخصيات» المثالية التي أجلها وأحب أن أنتمي إليها ...
وأحسب أن المرجع في هذا الاختلاف إلى سببين: أحدهما يرجع إلى الأحوال العامة، والآخر يرجع إلى المزاج الشخصي الذي فطرت عليه ...
فالأحوال العامة في عصرنا تخالف الأحوال العامة قبيل الاحتلال، أو في الفترة بين الثورة العرابية والاحتلال؛ لأن دخول الإنجليز مصر كان مسألة دولية تعمل فيها الدولة العثمانية عملا «قانونيا»، يصح الاعتماد عليه باعتبارها صاحبة السيادة القانونية على الديار المصرية، وكانت مناورات الدول المتنافسة على فتوح الاستعمار بابا مفتوحا على مصراعيه، يتسع للمساومات والدسائس والمعاكسات، ويتعلق الأمل به من جانب المصريين ولو إلى حين ...
وهذا فيما نظن أحد الأسباب التي تحولت بأنظار عبد الله النديم وتلاميذه إلى الدولة العثمانية، وجعلت سيادة هذه الدولة على مصر ركنا مهما في برنامج مصطفى كامل، والحزب الوطني الذي قام على يديه ...
أما في عصرنا - نحن الذين ولدنا بعد الاحتلال - فقد أصبحت مسألة الاحتلال من أعبائنا الوطنية، التي لا عمل فيها للدولة العثمانية، ولا للمناورات الدولية، وإنما يقع العبء الأكبر فيها على عواتقنا نحن المصريين ... فلا يجوز لنا أن نفرط في مبدأ الاستقلال من أجل صيغة «شكلية» لا تفيدنا في جهادنا إن صح أنها كانت تفيدنا قبل ذلك ...
هذا هو سبب الاختلاف بين جيلنا وجيل النديم، فيما يرجع إلى الأحوال العامة.
وأما سبب الاختلاف الذي يرجع إلى المزاج الشخصي، فخلاصته في كلمتين: إن الرجل كان ينزع كثيرا أو قليلا إلى شيء من التهريج، وإنني نشأت في بيئتي البيتية بين أبوين محافظين أشد المحافظة على سمت الوقار و«اللياقة»، ونقلت هذا الخلق منهما بالوراثة كما نقلته بالقدوة والمحاكاة ...
كل الناس ... ولا عباس!
ومما يحضرني من ذكرياتي فيما دون العاشرة أنني رفضت كل الرفض أن ألبس البنطلون القصير يوم دخلت المدرسة في نحو السابعة من عمري، وأنني رفضت أشد الرفض أن أجيب نداء المعلم حين دعاني باسم «عباس حلمي»، جريا على تقاليد ذلك العهد التي بقيت إلى الآن في أسماء المعاصرين ... فلم يكن أحد من التلاميذ يدعى باسم أبيه، ولكنهم كانوا يلقبون بألقاب حلمي وصبري ولطفي وحسني وشكري، وما شاكلها على حسب المطابقة لأسماء المشهورين، أو الموافقة لجرس اللقب ورنينه في الأسماع، فبقيت واحدا من قليلين يذكرون بأسماء آبائهم بين أبناء ذلك الجيل، ولولا إصراري على رفض اللقب المستعار لكان اسمي اليوم «عباس حلمي محمود»، كما كتب في قائمة «التصنيف»؛ أي توفيق الأسماء والألقاب.
अज्ञात पृष्ठ