وقد شعرت قريش بعد الفجار بأن ما أصابها وما أصاب مكة جميعا بعد موت هاشم وموت عبد المطلب من تفرق الكلمة وحرص كل فريق على أن يكون صاحب الأمر، قد أطمع فيها العرب بعد ما كانت أمنع من أن يطمع فيها طامع. إذ ذاك دعا الزبير بن عبد المطلب، فاجتمعت بنو هاشم، وزهرة، وتيم، في دار عبد الله بن جدعان، فصنع لهم طعاما، فتعاقدوا وتعاهدوا بالله المنتقم ليكونن مع المظلوم حتى يؤدى إليه حقه ما بل بحر صوفة. وقد حضر محمد هذا الحلف الذي سماه العرب حلف الفضول؛ وكان يقول: «ما أحب أن لي بحلف حضرته في دار ابن جدعان حمر النعم ولو دعيت به لأجبت.»
لم تكن حرب الفجار، كما رأيت، تستغرق إلا أياما من كل عام؛ أما سائر العام فكان العرب يرجعون فيه إلى أعمالهم يزاولونها دون أن تترك الحرب في نفوسهم من المرارة ما يحول بينهم وبين التجارة والربا والشراب والتسري والأخذ من مختلف ألوان اللهو بأوفر نصيب. أفكان محمد يشاركهم في هذا؟ أم كانت رقة حاله وضيق ذات يده وكفالة عمه إياه تجعله بمنأى عنها ينظر إلى الترف نظرة المحروم والمشتهي؟ أما أنه نأى عنها فذلك ما يشهد به التاريخ. لكنه لم ينأ عنها عجزا عن النيل منها؛ فقد كان الخلعاء المقيمون بأطراف مكة والذين لا يجدون من أسباب الرزق إلا الضنك والإملاق يجدون الوسيلة إليها، بل كان بعضهم أشد من أمجاد مكة وأشراف قريش إمعانا فيها وإدمانا لها. إنما كانت نفس محمد مشغوفة بأن ترى وأن تسمع وأن تعرف. وكأن حرمانه من التعلم الذي يتعلمه بعد أنداده من أبناء الأشراف جعله أشد للمعرفة تشوقا، وبها تعلقا؛ كما أن النفس العظيمة التي تجلت من بعد آثارها وما زال يغمر العالم ضياؤها، كانت في توقها إلى الكمال ترغب عن هذا اللهو الذي يصبو إليه أهل مكة، إلى نور الحياة المتجلي في كل مظاهر الحياة لمن هداه الحق إليها، ولاكتناه ما تدل هذه المظاهر عليه وما تحدث الموهوبين به. ولذلك ظهر منذ الصبا الأول مظهر الكمال والرجولية وأمانة النفس، حتى دعاه أهل مكة جميعا «الأمين».
ومما زاده انصرافا إلى التفكير والتأمل اشتغاله برعي الغنم سني صباه تلك، فقد كان يرعى غنم أهله، ويرعى غنم أهل مكة، وكان يذكر رعيه إياها مغتبطا. وكان يقول: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم ...» ويقول: «بعث موسى وهو راعي غنم، وبعث داود وهو راعي غنم، وبعثت وأنا أرعى غنم أهلي بأجياد.» وراعي الغنم الذكي القلب يجد في فسحة الجو الطلق أثناء النهار وفي تلألؤ النجوم إذا جن الليل موضعا لتفكيره وتأمله يسبح منه في هذه العوالم، يبتغي أن يرى ما ورائها، ويلتمس في مختلف مظاهر الطبيعة تفسيرا لهذا الكون وخلقه؛ وهو يرى نفسه، ما دام ذكي الفؤاد عليم القلب، بعض هذا الكون غير منفصل عنه. أليس هو يتنفس هواءه ولو لم يتنفسه قضى؟! أليست تحييه أشعة الشمس ويغمرها ضياء القمر ويتصل وجوده بالأفلاك والعوالم جميعا. هذه الأفلاك والعوالم التي يرى في فسحة الكون أمامه، متصلا بعضها ببعض في نظام محكم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار؟! وإذا كان نظام هذا القطيع من الغنم أمام محمد يقتضي انتباهه ويقظته حتى لا يعدو الذئب على شاة منها، وحتى لا تضل إحداها في مهامه البادية، فأي انتباه وأية قوة تحفظ على نظام العالم كل إحكامه؟! وهذا التفكير والتأمل من شأنهما صرف صاحبهما عن التفكير في شهوات الإنسان الدنيا والسمو به عنها بما يبديان له من كاذب زخرفها. لذلك ارتفع محمد في أعماله وتصرفاته عن كل ما يمس هذا الاسم الذي أطلق عليه بمكة وبقي له: «الأمين».
يدل على ذلك كله ما حدث هو عنه، من أنه كان يرعى الغنم مع زميل له، فحدثته نفسه يوما أن يلهو كما يلهو الشباب، فأفضى إلى زميله هذا ذات مساء أنه يود أن يهبط مكة، يلهو بها لهو الشباب في جنح الليل. وطلب لذلك إليه أن يقوم على حراسة أغنامه. لكنه ما إن بلغ أعلى مكة حتى استرعى انتباهه عرس زواج وقف عنده، ثم ما لبث أن نام. ونزل مكة ليلة أخرى لهذه الغاية، فامتلأت آذانه بأصوات موسيقية بارعة كأنما هي موسيقى السماء، فجلس يستمع ثم نام حتى أصبح. وماذا عسى أن تفعل مغريات مكة بقلب مهذب ونفس كلها تفكير وتأمل؟! ماذا عسى أن تكون هذه المغريات التي وصفنا والتي لا يستريح إليها من يكون دون محمد سموا بمراحل كثيرة؟! لذلك أقام بعيدا عن النقص، لا يجد لذة يذوقها أطيب لنفسه من لذة التفكير والتأمل.
وحياة التفكير والتأمل وما يستريح إليه من عمل بسيط كرعي الغنم، ليست بالحياة التي تدر على صاحبها أخلاف الرزق أو تفتح أمامه أبواب اليسار. وما كان محمد يهتم لذلك أو يعنى به، وقد ظل طول حياته أشد الناس زهدا في المادة ورغبة عنها. وما إقباله عليها وقد كان الزهد بعض طبعه؟ وكان لا يحتاج من الحياة إلى أكثر مما يقيم صلبه! أليس هو القائل: «نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع»؟! أليس هو الذي عرف عنه كل حياته حرصه على شظف العيش ودعوة الناس إلى الاستمتاع بخشونة الحياة؟ والذين يتوقون إلى المال ويلهثون في طلبه إنما يبتغونه لإرضاء شهوات لم يعرف محمد طوال حياته شيئا منها. واللذة النفسية الكبرى، لذة الاستمتاع بما في الكون من جمال ومن دعوة إلى التأمل، هذه اللذة العظيمة التي لا يعرفها إلا الأقلون، والتي كانت لذة محمد منذ نشأته ومنذ أرته الحياة في نعومة أظفاره ذكريات بقيت مطبوعة في نفسه داعية إلى الزهد في الحياة، وأولاها موت أبيه وهو ما يزال جنينا ، ثم موت أمه، ثم موت جده - هذه اللذة ليست في حاجة إلى ثروة من المال وإن تكن في حاجة إلى ثروة نفسية طائلة يعرف الإنسان معها كيف يعكف على نفسه ويعيش بها وفي دخيلتها. ولو أن محمدا ترك وشأنه يومئذ لما نازعته نفسه إلى شيء من المال، ولظل سعيدا بهذه الحال، حال الرعاة المفكرين الذين ينتظمون الكون في أنفسهم، والذين يحتويهم الكون في حبة قلبه.
لكن عمه أبا طالب كان - كما قدمنا - حليف فقر كثير عيال؛ لذلك رأى أن يجد لابن أخيه سببا للرزق أوسع مما يجيئه من أصحاب الغنم التي يرعى. فبلغه يوما أن خديجة بنت خويلد تستأجر رجالا من قريش في تجارتها، وكانت خديجة امرأة تاجرة ذات شرف ومال، تستأجر الرجال في مالها يضاربون لها به بشيء تجعله لهم. ولقد زاد في ثروتها أنها - وكانت من بني أسد - قد تزوجت مرتين في بني مخزوم مما جعلها من أوفر أهل مكة غنى. وكانت تقوم على مالها بمعونة أبيها خويلد وبعض ذوي ثقتها. وقد ردت خطبة الذين خطبوها من كبار قريش؛ لأنها كانت تعتقد أنهم ينظرون إلى مالها، واعتزمت أن تقف جهدها على تنمية ثروتها. وإذ علم أبو طالب أنها تجهز لخروج تجارتها إلى الشام مع القافلة نادى ابن أخيه، وكان يومئذ في الخامسة والعشرين من سنه، وقال له: يا ابن أخي، أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علينا، وقد بلغني أن خديجة استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لك بمثل ما أعطته، فهل لك أن أكلمها؟ قال محمد: ما أحببت! فخرج أبو طالب إليها فقال لها: هل لك يا خديجة أن تستأجري محمدا؟ فقد بلغنا أنك استأجرت فلانا ببكرين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة بكار. وكان جواب خديجة: لو سألت ذلك لبعيد بغيض فعلنا، فكيف وقد سألته لحبيب قريب؟! وعاد العم إلى ابن أخيه يذكر له الأمر ويقول له: هذا رزق ساقه الله إليك.
خرج محمد مع ميسرة غلام خديجة بعد أن أوصاه أعمامه به. وانطلقت القافلة في طريق الصحراء إلى الشام مارة بوادي القرى ومدين وديار ثمود وبتلك البقاع التي مر بها محمد مع عمه أبي طالب وهو في الثانية عشرة من عمره. وأحيت هذه الرحلة في نفسه ذكريات الرحلة الأولى، كما زادته تأملا وتفكيرا في كل ما رأى وسمع من قبل عن العبادات والعقائد بالشام أو بالأسواق المحيطة بمكة. فلما بلغ بصرى اتصل بنصرانية الشام وتحدث إلى رهبانها وأحبارها، وتحدث إليه راهب نسطوري وسمع منه. ولعله أو لعل غيره من الرهبان قد جادل محمدا في دين عيسى، هذا الدين الذي كان قد انقسم يومئذ شيعا وأحزابا، كما بسطنا من قبل. واستطاع محمد بأمانته ومقدرته أن يتجر بأموال خديجة تجارة أوفر ربحا مما فعل غيره من قبل، واستطاع بحلو شمائله وجمال عواطفه أن يكسب محبة ميسرة وإجلاله. فلما آن لهم أن يعودوا ابتاع لخديجة من تجارة الشام كل ما رغبت إليه أن يأتيها بها.
فلما بلغت القافلة مر الظهران في طريق عودتها، قال ميسرة: يا محمد، أسرع إلى خديجة فأخبرها بما صنع الله لها على وجهك فإنها تعرف ذلك لك. وانطلق محمد حتى دخل مكة في ساعة الظهيرة، وكانت خديجة في علية لها، فرأته وهو على بعيره، ونزلت حين دخل دارها واستقبلته. واستمعت إليه يقص بعبارته البليغة الساحرة خبر رحلته وربح تجارته وما جاء به من صناعة الشام، وهي تنصت مغتبطة مأخوذة. وأقبل ميسرة من بعد فروى لها عن محمد ورقة شمائله وجمال نفسه ما زادها علما به فوق ما كانت تعرف من فضله على شباب مكة. ولم يك إلا رد الطرف حتى انقلبت غبطتها حبا جعلها - وهي في الأربعين من سنها، وهي التي ردت من قبل أعظم قريش شرفا ونسبا - تود أن تتزوج من هذا الشاب الذي نفذت نظراته ونفذت كلماته إلى أعماق قلبها. وتحدثت في ذلك إلى أختها على قول، وإلى صديقتها نفيسة بنت منية على قول آخر. وذهبت نفيسة دسيسا إلى محمد فقالت له: ما يمنعك أن تتزوج؟ قال: ما بيدي ما أتزوج به . قالت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ أجابت نفيسة بكلمة واحدة: خديجة. قال محمد: كيف لي بذلك؟! وكان قد أنس هو أيضا إلى خديجة وإن لم تحدثه نفسه بزواج منها لما كان يعلم من ردها أشراف قريش وأغنياءها. فلما قالت له نفيسة جوابا عن سؤاله: علي ذلك، سارع إلى إعلان قبوله. ولم تبطئ خديجة أن حددت الساعة التي يحضر فيها مع أعمامه ليجدوا أهلها عندها فيتم الزواج. وزوجها عمها عمر بن أسد؛ لأن خويلدا كان قد مات قبل حرب الفجار، مما يكذب ما يروى من أنه كان حاضرا ولم يكن راضيا هذا الزواج، وأن خديجة سقته خمرا حتى أخذت فيه، وحتى زوجها محمدا.
وهنا تبدأ صفحة جديدة من حياة محمد: تبدأ حياة الزوجية والأبوة: الزوجية الموفقة الهنية من جانبه وجانب خديجة جميعا، والأبوة التي تعرف من الآلام لفقد الأبناء ما عرف محمد في طفولته لفقد الآباء.
الفصل الرابع
अज्ञात पृष्ठ