كنا نفهم أن يقول هؤلاء المستشرقون: إن الوحي ظاهرة نفسية شاذة في تقدير علمنا وما وصل إليه حتى اليوم؛ فمن المتعذر إذن تفسيرها على طريقته لكن هذا القول إنما يدل على أن علمنا - على ما انفسح مداه واتسع أفقه - لا يزال قاصرا عن تفسير كثير من الظاهرات الروحية والنفسية. ولا عيب على العلم في هذا ولا عجب منه؛ فعلمنا ما يزال قاصرا عن تفسير بعض الظاهرات الكونية القريبة منا، وطبيعة الشمس والقمر وغيرهما من الأفلاك والكواكب لا يزال أمر العلم فيها عند الفروض والاستنباطات؛ وهذه الأفلاك جميعا بعض ما تشهده العين المجردة، وما تكشف الآلات المقربة لنا عن كثير من خفاياها. وإلى قرن مضى كانت مخترعات كثيرة تعتبر بعض إبداع الخيال فلا سبيل إلى أن تتجسد أمامنا، وها هي ذي تجسدت وصرنا نحسبها من البسائط. والظاهرات الروحية والنفسية هي اليوم موضع ملاحظة العلماء، لكنها لم تخضع بعد لسلطان العلم كي يستنبط قوانينها الثابتة. وكثيرا ما نقرأ عن أمور شهدها العلماء وأثبتوها ثم أثبتوا معها أنهم لا يجدون لها في السنن الكونية التي استنبطها العلم تأويلا تطمئن إليه قواعده. فعلم النفس ما يزال بوجه عام، غير ثابت السنن في كثير من الشئون التي تعرض له. فإذا كان هذا واقعا في الحياة العادية، كان البدار إلى محاولة تفسير ظاهرات الحياة جميعها على الطريقة العلمية محاولة عقيمة وإسرافا معيبا.
ولقد كان الوحي بعض ما شهد المسلمون أثناء حياة محمد، وكان القرآن كلما ذكره لهم زادهم به إيمانا. وكان منهم أذكياء غاية الذكاء، وكان منهم يهود ونصارى طال الجدال بينهم وبين النبي العربي، ثم آمنوا برسالته ولم ينكروا عليه من أمر الوحي شيئا. ولقد حاول قوم من قريش أن يتهموه بالسحر والجنون ثم أقروا أنه ليس بساحر ولا بمجنون وتابعوه وآمنوا بما جاء به. أما وذلك ثابت يقينا، فما يأباه العلم وتتنزه عنه قواعده إنما هو إنكار حدوث الوحي، والحط من قدر صاحبه ونعته بأوصاف ينكرها العلم ولا يقرها. والعالم النزيه القصد إلى الحق لا يستطيع أكثر من أن يقرر أن ما وصل إليه العلم حتى هذا الزمان يقصر دون تفسير الوحي على الطريقة العلمية، ولكنه لا يمكنه أن ينكر بحال من الأحوال حدوث ظاهرات هذا الوحي مما وصف أصحاب النبي وكتاب الصدر الأول للإسلام، فإن أنكرها وحاول تأويلها واتخذ العلم باطلا وسيلة إلى ذلك كان مبطلا متعنتا. والتعنت والعلم لا يتفقان.
الطعن في محمد عجز عن الطعن في رسالته
ولئن دل هذا العنت على شيء لعلى شدة حرص أصحابه على التشكيك في الإسلام، وهم لم يستطيعوا الطعن على هذا الدين وقد رأوا دينا بلغ غاية السمو مع بساطة ويسر هما مصدر قوته؛ لذلك لجئوا إلى حجة العاجز حين يدع الأثر العظيم لا يعرض له بمطعن لأن المطاعن لا ترقى إليه، فهو يتناول من صدر هذا الأثر عنه أو كان وسيلته إلى الناس فيجعله هدف مطاعنه، وهذا عجز لا يلجأ إليه عالم، وهو بعد مناقض لقانون الطبيعة الإنسانية. ففي طبيعة الناس أو يعنوا بالآثار لذاتها، وأن يستمتعوا بثمراتها دون بحث لا طائل تحته في مصدرها ووسيلة حدوثها ونموها. وهم لذلك لا يعنون أنفسهم بالبحث في أصل الشجرة التي أنبتت الثمرة التي تعجبهم، ولا في السماد الذي أدى إلى ازدهارها، ما داموا لا يفكرون في غرس شجرة مثلها أو شجرة أشهى منها ثمرا. وهم حين يبحثون في فلسفة «أفلاطون» أو مسرحيات «شكسبير» أو عن «رفائيل» لا يتلمسون المطاعن في حياة هؤلاء العظماء عنوان مجد الإنسانية وفخارها حين لا يجدون على هذه الآثار مطعنا، فإذا تلمسوا المطاعن التي لا سند لها من الحق، لم يبلغوا من ذلك غايتهم وإن كشفوا عن سوء رأي وحقد يسقط حجتهم ويحول دون الاستماع لهم. ولن يغير من ذلك أن يفرغ هذا الحقد في قالب العلم؛ فالحقد لا يعرف الحقيقة. وكبرت الحقيقة أن يكون الحقد لها مصدرا. وهذا شأن مطاعن أولئك المستشرقين على النبي العربي خاتم المرسلين؛ ولذلك هوت مطاعنهم إلى الحضيض.
فرغت الآن من تفنيد رأي أولئك المستشرقين الذين استندت إليهم رسالة ذلك المصري المسلم، وأقمت الدليل على فساده، فلأنتقل إلى طائفة أخرى من الملاحظات التي أبداها بعض المشتغلين بالعلوم الدينية من المسلمين بعد ظهور الطبعة الأولى.
وأكبر ظني ألا تتكرر أمثال هذه المطاعن الوضيعة التي يأباها العلم وينكرها. فربما كان لهؤلاء المستشرقين من العذر عن إسرافهم من قبل أنهم كانوا يحسبون أنهم يكتبون للأوروبيين المسيحيين، وأنهم كانوا يقومون لذلك بواجب قومي أو بواجب ديني تمليه عليهم عقيدتهم وتدفعهم إلى اتخاذ العلم بغيا وسيلتهم إلى أدائه. أما اليوم، وقد توثقت أسباب الاتصال بالبرق والإذاعة، وبعد أن وثقت الصحافة والطباعة بين أجزاء العالم، فقد أصبح ما ينشر وما يقال في أوروبا أو في أمريكا يعرف ليومه أو لساعته في بلاد الشرق جميعا. فواجب على الذين يريدون الاضطلاع برسالة المعرفة والحقيقة أن ينزعوا عن عيونهم وعن قلوبهم غشاوة الحواجز القومية أو الجنسية أو الدينية، وأن يقدروا أن ما يقولونه أو يكتبونه سرعان ما يصل علمه إلى الناس جميعا، فيتناولونه في مختلف بلاد الأرض بالنقد والتمحيص. فلتكن الحقيقة غير المقيدة بأي قيد هي رائدنا جميعا. ولنوجه كل همنا إلى أن نربط ما بين ماضي الإنسانية ومستقبلها، على أنها وحدة كبرى لا تفرق بينها القوميات ولا الجنسيات ولا الأديان برابطة ترمي إلى تحقيق أسمى غاية تطلعت إليها الإنسانية منذ نشأتها، رابطة الإخاء الحر في ظل الحق والجمال، فتلك وحدها هي الرابطة التي تكفل هداية الإنسانية في سيرها الحثيث نحو السعادة والكمال.
أصحاب الملاحظات من المشتغلين بالشئون الإسلامية
بينا يأخذ علينا غلاة المصدقين لما أسرف فيه المستشرقون أنا نعتمد على المصادر العربية ونستند إلى ما ورد فيها، إذ بعض المشتغلين بالعلوم الدينية الإسلامية يأخذون علينا أننا نرجع إلى أقوال المستشرقين ولا نأخذ بكل ما سجلته كتب السيرة وما روته كتب الحديث متصلا بسيرة النبي العربي، وأننا لا ننهج نهج هذه الكتب.
وعلى هذا الأساس أبدى بعضهم ملاحظات في أكثرها رفق ومجادلة بالتي هي أحسن ابتغاء الوصول إلى الحق، وفي بعضها عنت أو جهل لا يرضى أيهما لنفسه من أوتي حظا من العلم. أما الذين جادلوا في رفق فتنصرف أكثر ملاحظاتهم إلى أننا لم نذكر ما ورد في كتب السيرة والحديث من المعجزات، بل قلنا في خاتمة الطبعة الأولى: فحياة محمد حياة إنسانية بلغت أسمى ما يستطيع إنسان أن يبلغ. ولقد كان حريصا على أن يقدر المسلمون أنه بشر مثلهم يوحى إليه، حتى كان لا يرضى أن تنسب إليه معجزة غير القرآن، ويصارح أصحابه بذلك.
وقلنا عند الكلام عن قصة شق الصدر: إنما يدعو المستشرقين ويدعو المفكرين من المسلمين إلى هذا الموقف من ذلك الحادث أن حياة محمد كانت كله حياة إنسانية سامية، وأنه لم يلجأ في إثبات رسالته إلى ما لجأ من سبقه من أصحاب الخوارق. وهم في هذا يجدون من المؤرخين العرب والمسلمين سندا حين ينكرون من حياة النبي العربي كلها ما لا يدخل في معروف العقل، ويرون ما ورد من ذلك غير متفق مع ما دعا القرآن إليه من النظر في خلق الله وأن سنة الله لن تجد لها تبديلا، غير متفق مع تعيير القرآن للمشركين أنهم لا يفقهون؛ أن ليست لهم قلوب يعقلون بها. ومن هؤلاء المجادلين في رفق من يأخذ علينا أننا أوردنا مطاعن المستشرقين على النبي مقدمة للرد عليها؛ وإيراد هذه المطاعن لا يتفق مع ما يجب في نظرهم، للنبي عليه السلام من إكبار وإكرام.
अज्ञात पृष्ठ