وما ورد في رسالة هذا المصري المسلم مما لخصته هنا بالغ الدلالة على وجوب هذا الحذر. فأول ما يأخذه علي أنني اعتمدت على المراجع العربية والإسلامية واتخذتها أساسا لبحثي. ولست أنكر ذلك. على أنني قد رجعت إلى كتب المستشرقين ممن ذكرت في سجل المراجع، لكن المصادر العربية كانت دائما الأساس الأول لهذا البحث الذي قمت به. وهذه المصادر العربية كانت الأساس الأول كذلك لمباحث المستشرقين جميعا. وهذا طبيعي؛ فهذه المصادر - وفي مقدمتها القرآن - هي أول من تحدث عن حياة النبي العربي. فلا جرم أن تكون العمدة والأساس لكل من يريد أن يكتب سيرته بأسلوب العصر وطريقته. و«نولدكي» و«جولدزهر» و«فيل» و«سبرنجر» و«موير» وغيرهم من المستشرقين قد جعلوها عمدتهم في بحثهم كما جعلتها عمدتي في بحثي. وقد أبحت لنفسي في تمحيصها ونقدها ما أباحوه لأنفسهم من حرية، كما أنني لم أغفل بعض ما اعتمدوا عليه من كتب المسيحيين الأقدمين وإن أملاها التعصب الديني للمسيحية ولم يملها النقد العلمي بحال، فإذا لامني لائم لأنني لم أتقيد بالنتائج التي وصل بعض المستشرقين إليها، أو لأنني أبحت لنفسي مخالفتهم ونقدهم، فتلك دعوة إلى الجمود العلمي لا تقل رجعية ولا تأخرا عن أية دعوة إلى الجمود في الميادين العقلية والروحية جميعا. وما أحسب أحدا من المستشرقين أنفسهم يوافق على هذه الدعوة إلى الجمود العلمي، ولو أن أحدهم أقرها لجاز إقرار الدعوة إلى الجمود الديني. وهذا وذاك ما لا أرضاه لنفسي ولا أرضاه لأحد ممن يريدون الاشتغال بالبحوث التاريخية على وجه علمي صحيح. إنما أعمل وأطالب غيري أن يعمل على تمحيص ما يقع عليه من مباحث غيره. فإن اقتنع بها عن بينة وبعد أن يقوم لديه الدليل القاطع عليها فذاك، وإلا فليعمل من ناحيته للوصول إلى الحقيقة حتى يقتنع بأنه وصل إليها. هذا ما أدعو إليه شبابنا ورجالنا المعجبين ببحوث المستشرقين، وهذا ما فعلت؛ ولي أجر المصيب على ما أصبت فيه، ولي عذر الباحث عن الحقيقة مع صدق القصد في توخي السبيل إليها إن أخطأني التوفيق في شيء منه.
المستشرقون والمقررات الدينية
ومن الأدلة على تأثر بعض المستشرقين بحرصهم على هدم المقررات الدينية وإسرافهم في ذلك ما ذهب إليه كاتب الرسالة المصري المسلم من أن مباحث هؤلاء المستشرقين تدل على أن القرآن ليس وثيقة تاريخية لا محل لريبة فيها، وأنه حرف بعد وفاة النبي وفي صدر الإسلام، وأضيفت إليه أثناء ذلك آيات لأغراض دينية أو سياسية. ولست أناقش صاحب الرسالة من ناحية إسلامية فأحاجه، وهو مسلم، بما يقرره الإسلام من أن القرآن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ فهو يذهب مذهب المستشرقين من أن القرآن كتاب وضعه محمد، عن إيمان منه بأن هذا الكتاب وحي الله في رأي طائفة من هؤلاء المستشرقين، وحرصا منه على إثبات رسالته بما يذكر من أن هذا القرآن وحي الله إليه في رأي الآخرين. فلأخاطبه إذن بلغته على أنه من أحرار الفكر الذين لا يريدون أن يتقيدوا إلا بما يثبته العلم إثباتا يقينيا.
فرية تحريف القرآن
هو يعتمد على المستشرقين وما يقولونه. ومن المستشرقين طائفة تزعم بالفعل في أمر القرآن ما نقله عنهم. لكن زعمهم هذا يدل على أنهم إنما تدفعهم إليه أغراض يبرأ منها العلم ولا تخفى على أحد. وحسبك دليلا على ذلك قولهم: إن عبارة
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ، التي وردت في الآية السادسة من سورة الصف، إنما أضيفت بعد وفاة النبي لالتماس الدليل على نبوة محمد ورسالته من الكتب المقدسة السابقة للقرآن، فلو أن الذين قالوا هذا القول من المستشرقين كانوا يخلصون للعلم حقا لما جاءوا إلى مثل هذا التدليل القائم عندهم على أن التوراة والإنجيل كتابان مقدسان بالفعل. فلو أنهم كانوا يريدون العلم للعلم لسووا بين القرآن والكتب المقدسة التي سبقته؛ فإما اعتبروه مقدسا مثلها، فذكره الكتب المقدسة التي عرفها الناس قبله طبيعي لا محل لرفضه، وإما اعتبروا هذه الكتب كما اعتبروا القرآن وقالوا في شأنها ما قالوه في شأنه، وقرروا أن أصحابها وضعوها لأغراض دينية أو سياسية خاصة. ولو أنهم قالوا مثل هذا القول لقضى المنطق بفساد ما ذهبوا إليه من تحريف القرآن لأغراض سياسية أو دينية، فما كان للمسلمين أن يلتمسوا الحجة من هذه الكتب بعد أن اطمأن ملكهم ودانت لهم الإمبراطورية المسيحية كما دان لهم غيرها من أمم الأرض، وبعد أن دخل المسيحيون في الإسلام أفواجا بل أمما كاملة. هذا هو المنطق الذي يقتضيه البحث العلمي النزيه. أما اعتبار التوراة والإنجيل مقدسين، ونفي هذه الصفة عن القرآن فأمر لا يسوغه العلم. وأما القول بتحريفه التماسا للحجة من التوراة والإنجيل فهراء لا يقره التاريخ ولا يرضاه المنطق.
والذين زعموا هذا الزعم الفاسد من المستشرقين هم قلة بين أشد المستشرقين تعصبا. أما كثرتهم فيقرون بأن القرآن الذي نتلوه اليوم هو بعينه القرآن الذي تلاه محمد على المسلمين أثناء حياته، لم يحرف ولم يبدل. وهم يحرصون على أن يذكروا هذا وإن أضافوا إليه من عبارات النقد للنظام الذي جمع القرآن به ولترتيب السور فيه ما لا يدخل تمحيصه في نطاق هذا البحث. وقد تناول المشتغلون بعلوم القرآن من المسلمين أوجه النقد هذه ودفعوها. أما ما نحن الآن في صدده فحسبنا فيه أن نقتطف بعض ما ذكره المستشرقون عنه، لعله يقنع المصري المسلم الذي نناقش ها هنا رسالته، ولعله يقنع الذين يفكرون على شاكلته.
موير ينكر هذه الفرية
وما أورده المستشرقون من ذلك كثير، نختار منه بعض ما كتبه السير وليم موير في كتابه «حياة محمد» ليرى هؤلاء الذين أسرفوا على التاريخ وعلى أنفسهم شدة ما أسرفوا حين اطمأنوا إلى ما قيل عن تحريف القرآن وتبديله. وموير مسيحي شديد الحرص على مسيحيته والدعوة إليها، شديد الحرص لذلك على ألا يدع موضعا لنقد نبي الإسلام وكتابه دون الوقوف عنده ومحاولة دعمه.
الذاكرة العربية
अज्ञात पृष्ठ