ولو أن المسيحية كانت تلائم غرائز الكفاح التي تنشأ بحكم الطبيعة كجزء من حياة أهل الغرب، لرأيتهم - وقد شعروا بعجز الفكرة المادية عن أن تلهمهم المدد الروحي - يعودون إلى الدين المسيحي الجميل دين عيسى ابن مريم، إن لم يهدهم الله إلى الإسلام، ولما كانوا في حاجة إلى هذه الهجرة إلى الهند وإلى غيرها يستمدون منها حياة روحية يشعر الإنسان بالحاجة إليها حاجته إلى التنفس؛ لأنها بعض طبعه، بل لأنها بعض نفسه وكيانه.
الاستعمار والدعوة ضد الإسلام
وقد عاون الاستعمار الغربي أهله على الاستمرار في الحملة التي أثاروها على الإسلام وعلى محمد، ودعاهم ليقولوا ما قال أهل مكة حين أرادوا أن يحملوا النصرانية عار هزيمة هرقل والروم أمام فارس، فقد قالوا - ولا يزال الكثيرون منهم يقولون - إن الإسلام هو السبب في انحطاط الشعوب الآخذة به وفي خضوعهم لغيرهم. وهذه فرية يكفي لإدحاضها أن يذكر قائلها أن الشعوب الإسلامية ظلت صاحبة الحضارة الغالبة وصاحبة السيادة على العالم المعروف كله قرونا متوالية، وأنها كانت محط رجال العلم والعلماء، وموئل الحرية التي لم يعرفها الغرب إلا من أمد قريب. فإذا أمكن أن ينسب انحطاط طائفة من الشعوب إلى الدين الذي تؤمن به فلا يكون هذا الدين الإسلام، وهو الذي حفز بدو شبه جزيرة العرب وأثارهم ومكن لهم من حكم العالم.
الإسلام وما صارت إليه الشعوب الإسلامية
على أن لهؤلاء الذين يحملون الإسلام وزر انحطاط الشعوب الإسلامية من العذر أن أضيف إلى دين الله شيء كثير لا يرضاه الله ورسوله، واعتبر من صلب الدين ورمي من ينكره بالزندقة. وندع الدين جانبا ونقف عند سيرة صاحبه عليه الصلاة والسلام. فقد أضافت أكثر كتب السيرة إلى حياة النبي ما لا يصدقه العقل ولا حاجة إليه في ثبوت الرسالة، وما أضيف من ذلك قد اعتمد عليه المستشرقون واعتمد عليه الطاعنون على الإسلام ونبيه وعلى الأمم الإسلامية واتخذوه تكأتهم في مطاعنهم المثيرة لنفس كل منصف. اعتمدوا عليه وعلى ما ابتدعوه من عندهم وما زعموا أنهم يكتبونه على الطريقة العلمية الحديثة، هذه الطريقة التي تعرض الحوادث والناس والأبطال فتصدر بعد ذلك حكمها عادلا إن هي رأت لإصدار حكم محلا. فإذا أنت وقفت عند ما كتبه هؤلاء رأيته تمليه شهوة الجدل والتجريح، مصوغا في عبارة لا تخلو من براعة تستهوي إخوانهم في العقيدة إلى الظن بأن البحث العلمي المجرد النزاع إلى الحقيقة وحدها يريد أن يستشفها من وراء كل الحجب، هو الذي وجه هؤلاء المتعصبين من الكتاب والمؤرخين. على أن السكينة التي ينزلها الله على نفوس الراضين من الناس، كتابا وعلماء، قد أدت بآخرين من أحرار الفكر ومن المسيحيين ليكونوا أدنى إلى العدل وأحرص على النصفة.
الجمود والاجتهاد عند المسلمين
ولقد قام بعض علماء المسلمين في ظروف مختلفة فحاولوا إدحاض مزاعم أولئك المتعصبين من أبناء الغرب. واسم الشيخ محمد عبده هو أنصع الأسماء في هذا الصدد. لكنهم لم يسلكوا الطريقة العلمية التي زعم أولئك الكتاب والمؤرخون الأوروبيون أنهم يسلكونها لتكون لحجتهم قوتها في وجه خصومهم.
أثر الجمود في الشباب
ثم إن هؤلاء العلماء المسلمين - والشيخ محمد عبده في مقدمتهم - قد اتهموا بالإلحاد والكفر والزندقة، فأضعف ذلك من حجتهم أمام خصوم الإسلام. ولقد كان اتهامهم هذا عميق الأثر في نفوس شباب المسلمين المتعلمين. شعر هؤلاء الشبان بأن الزندقة تقابل حكم العقل ونظام المنطق في نظر جماعة من علماء المسلمين، وأن الإلحاد عندهم قرين الاجتهاد، كما أن الإيمان قرين الجمود؛ لذلك جزعت نفوسهم وانصرفوا يقرءون كتب الغرب يتلمسون فيها الحقيقة، اقتناعا منهم بأنهم لن يجدوها في كتب المسلمين. وهم لم يفكروا في كتب المسيحية والتاريخ المسيحي بطبيعة الحال؛ إنما فزعوا إلى كتب الفلسفة يتلمسون في أسلوبها العلمي ري ما في نفوسهم من ظمأ محرق للحق، وفي منطقها ضياء للجذوة المقدسة الكمينة في النفس الإنسانية، ووسيلة إلى الاتصال بالكون وحقيقته العليا. وهم واجدون في كتب الغرب، سواء منها كتب الفلسفة وكتب الأدب الفلسفي وكتب الأدب نفسه، الشيء الكثير مما يغري الإنسان بالأخذ به، لروعة أسلوبها ودقة منطقها وما يظهر فيها من صدق القصد وخالص التوجه إلى المعرفة ابتغاء الحق. لذلك انصرفت نفوسهم عن التفكير في الأديان كلها وفي الرسالة الإسلامية وصاحبها، حرصا منهم على ألا تثور بينهم وبين الجمود حرب لا ثقة لهم بالانتصار فيها، ولأنهم لم يدركوا ضرورة الاتصال الروحي بين الإنسان وعوالم الكون اتصالا يرتفع به الإنسان إلى أرقى مراتب الكمال وتتضاعف به قوته المعنوية.
علم الغرب وأدبه
अज्ञात पृष्ठ