فليس شيء في الحياة يحفزنا للعمل والسعي كما يحفزنا كسب الرزق وطلب المال. ففي سبيل الله ينفق الأكثرون من الناس أعظم الجهد ويقومون بما يفوق الطاقة أحيانا. ونظرة يلقيها الإنسان على عالمنا الحاضر تنبئ عما يهتز به هذا العالم من دأب ومشقة، ومن سلم وحرب، ومن ثورات واضطرابات، في سبيل المال. في سبيله تقلب الملوكيات جمهوريات، وفي سبيله تراق الدماء وتزهق الأنفس والبنون! أفلاذ أكبادنا التي تمشي على الأرض، أية مشقة لا نحتملها من أجلهم؟! وأي مر لا يحلو مذاقه ما دام يؤدي إلى طمأنينتهم وإلى كفالة رخائهم ومجدهم؟! كل عسير يصبح في جانب سعادتهم يسيرا، وكل صعب يصبح في سبيل رضاهم سهلا. بل إن من الناس من يستهين في سبيل المال والبنين بما يحسبه مستحيلا عليه لولا المال والبنون. ومن الناس من يبالغ في ذلك ليضحي في سبيله بهناءته، بل بحياته.
ومع ذلك فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا. وليست الزينة شيئا إلى جانب الجوهر. ولا يضحي بالجوهر في سبيل الزينة إلا الجهلاء والحمقى: إلا المرأة التي تستهين بصحتها لتظهر جميلة سويعة أو سويعات من زمان، وإلا الشاب المغرور الذي يضحي بعقله وبكرامته وسط صحب يسخرون منه حين يحسب أنه سيدهم لأنه يبعثر بينهم ماله، وإلا أمثال هؤلاء من المأفونين الذين يخدعهم المظهر عن الحقيقة، واليوم عن الغد. والذين يسعون لزينة الحياة من مال وبنين وينسون ما سواهما ليسوا أقل من هؤلاء أفنا وحمقا. فالمال والبنون زينة. أما جوهر الحياة فالباقيات الصالحات من أعمال الخير. ولهذه الباقيات الصالحات يجب أن نبذل من السعي والجهد أكثر مما نبذل لزينة الحياة من مال وبنين.
أرأيت سمو الغاية التي تصورها هذه الآية من الذكر الحكيم؟ فأنت إذا بذلت جهودك ودمك في سبيل الزينة؛ وجب أن تبذل روحك وقلبك في سبيل الجوهر، ووجب أن تخضع الزينة للجوهر، ووجب لذلك أن تجعل كل حياتك وكل مالك وكل بنيك مقصودا بها هذا الجوهر من الباقيات الصالحات، فهي خير عند ربك ثوابا وخير أملا.
كيف انقلب الأمر في تفكير المسلمين من هذا المنطق السليم الواضح إلى اعتقادات لا تتفق معه في شيء؟ أشرنا إلى ذلك لماما في البحث الأول من هذه الخاتمة حين أشرنا إلى تبدل الأمر عند المسلمين بحكم الغزاة الذين توالوا على الإمبراطورية الإسلامية منذ انتهاء العهد العباسي، كما أشرنا في تقديم الطبعة الثانية إلى ما كان من تبدل من الشورى في الصدر الأول إلى ذلك الملك العضوض أيام الأمويين، فإلى الحق الإلهي أيام العباسيين. وندع الكلمة الآن في شيء من تفصيل ذلك إلى المغفور له الأستاذ الإمام محمد عبده؛ إذ يقول في كتاب «الإسلام والنصرانية» ما نصه:
كان الإسلام دينا عربيا ، ثم لحقه العلم فصار علما عربيا بعد أن كان يونانيا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلا إلى ما كان يظنه خيرا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي
صلى الله عليه وسلم . فأراد أن يتخذ له جيشا أجنبيا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك، وفي سعة أحكام الإسلام ما يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميا.
خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه، وبئس ما صنع بأمته ودينه. أكثر من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه؛ فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم. ولم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم. وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته. ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم ومنهم من تولى أمره. أي عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرف الناس منزلتهم، ويكشف لهم قبح سيرهم؟! فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم، أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة. وحملوا كثيرا من أعوانهم أن ينتظموا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله ليعدوا من قبيله، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين. زعموا الدين ناقصا ليكملوه، أو مريضا ليعللوه، أو متداعيا ليدعموه، أو يكاد أن ينقض ليقيموه.
نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو براء منه. لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره . والغوغاء عون القائم، وهم يد الظالم؛ فخلقوا لنا هذه الاحتفالات، وتلك الاجتماعات، وسنوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة، وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم؛ ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه؛ وأن ما يظهر من فساد الأعمال؛ واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطا للعزائم، وغلا للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت. فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم، كما يقال.
هذه السياسة - سياسة الظلمة وأهل الأثرة - هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملا كان يخترق به أطباق السموات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات ... فجل ما تراه الآن مما تسميه إسلاما فهو ليس بإسلام، وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج ومن الأقوال قليلا منها حرفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه إسلاما.
50
अज्ञात पृष्ठ