ولقد يعجب الإنسان أن يظل تعصب المسيحية على الإسلام بهذه الشدة في عصر يزعمون أنه عصر النور والعلم، وأنه لذلك عصر التسامح وسعة الأفق، ويزداد الإنسان عجبا إذ يذكر المسلمين الأولين وكيف كان اغتباطهم بانتصار المسيحية على المجوسية عظيما حين ظفرت جيوش هرقل بأعلام فارس وكسرت عسكر كسرى. فقد كانت فارس صاحبة النفوذ في جنوب شبه جزيرة العرب منذ أخرج كسرى الأحباش من اليمن. ثم إن كسرى وجه جيوشه - سنة 614 ميلادية - تحت إمرة قائد من قواده يدعى شهر براز
1
لغزو الروم، فظهر عليهم حين التقى بهم بأذرعات وبصرى، أدنى الشام إلى أرض العرب، فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم. وكان العرب - ولا سيما أهل مكة - يتتبعون أخبار هذه الحرب بتلهف وشغف؛ فقد كانت القوتان المتناحرتان أكبر ما تعرف أمم الأرض يومئذ. وكانت بلاد العرب تجاورهما وتخضع بعض أجزائها لفارس وتتاخم الروم بعض أجزائها الأخرى. وشمت كفار مكة بالمسيحيين وفرحوا لهزيمتهم؛ لأنهم أهل كتاب كالمسلمين، وحاولوا أن يلصقوا بدينهم عار اندحارهم. أما المسلمون فشق عليهم أمر الروم لأنهم أهل كتاب مثلهم، فكان محمد وأصحابه يكرهون أن يظهر المجوس عليهم. وأدى هذا الخلاف بين مسلمي مكة وكفارها إلى تنادر الفريقين وإلى تهكم الكفار بالمسلمين، حتى أبدى أحدهم من السرور أمام أبي بكر ما غاظه ودفعه إلى أن يقول: لا تعجل بالمسرة، فسيأخذ الروم بثأرهم. وأبو بكر معروف بالهدوء ووداعة النفس. فلما سمع الكافر قوله أجابه متهكما: كذبت. فغضب أبو بكر وقال: كذبت أنت يا عدو الله! وهذا رهان عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام. وعرف محمد أمر هذا الرهان فنصح إلى أبي بكر أن يزيد في الرهان وأن يطيل المدة. فزاد أبو بكر في الرهان إلى مائة بعير إن هزمت الفرس قبل تسع سنين. وانتصر هرقل سنة 625 وهزم فارس واسترد منها الشام، واستعاد الصليب الأعظم، وكسب أبو بكر رهانه. وفي النبوءة بهذا النصر نزل قوله تعالى في صدر سورة الروم:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
2
المبادئ الأولية في الدينين
كان اغتباط المسلمين يومئذ بانتصار هرقل والنصارى عظيما، وظلت صلة الإخاء بين الذين اتعبوا محمدا والذين آمنوا بعيسى عظيمة طوال حياة النبي وإن تكرر بين الفريقين ما كان من مجادلة، على خلاف ما كان بين المسلمين واليهود من تهادن أول الأمر ثم عداوة استمرت وكان لها من الآثار والنتائج الدامية ما أجلى اليهود عن شبه جزيرة العرب جمعاء. ومصداق ذلك قوله تعالى:
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون .
3
ثم إنك لترى الدينين يصوران الحياة والخلق صورة تكاد تكون واحدة، وهما في تصوير الإنسانية ومبدأ خلقها سواء: خلق الله آدم وحواء وأسكنهما الجنة، وأوحى إليهما ألا يسمعا إلى نزغ الشيطان فيأكلا من الشجرة فيخرجهما من الجنة. والشيطان عدوهما الذي أبى أن يسجد لآدم فيما أوحاه الله لمحمد، والذي أبى أن يقدس كلمة الله، على رواية كتب النصارى المقدسة، ووسوس الشيطان لحواء وزين لها، فزينت لآدم فأكلا من شجرة الخلد فبدت لهما سوءاتهما، فاستغفرا ربهما فبعثهما على الأرض بعض ذريتهم لبعض عدو، يغريهم الشيطان فيضل قوم ويقاوم الهلاك آخرون. ولتقوى الإنسانية على حرب الغواية بعث الله نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى، والنبيين. وبعث مع كل رسول كتابا بلسان قومه مصداقا لما بين يديه ليبين لهم. وكما يقوم في صف الشيطان أنصاره من أرواح الشر، تقوم الملائكة تسبح بحمد ربها وتقدس له. وهؤلاء وأولئك يتنازعون أسباب الحياة والكون جميعا حتى يوم البعث، يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا يسأل حميم حميما.
अज्ञात पृष्ठ