وكذلك محت غزوة بدر الآخرة أثر أحد محوا تاما، ولم يبق لقريش إلا أن تنتظر عاما آخر، رازحة تحت عار من جبنها لا يقل وطأة عن عار هزيمتها في بدر الأولى.
وأقام محمد بالمدينة مستريحا إلى نصر الله إياه، مطمئنا إلى ما عاد للمسلمين من هيبتهم، حذرا دائما غدرة العدو، باثا عيونه في كل النواحي. وإنه لكذلك إذ اتصل به أن جماعة من غطفان بنجد يجمعون له يريدون حربه. وكانت خطته أن يأخذ عدوه على غرة قبل أن يعد العدة لدفعه. لذلك خرج في أربعمائة من رجاله حتى نزل ذات الرقاع حيث اجتمع بنو محارب وبنو ثعلبة من غطفان. فلما رأوه طلع عليهم في عدة حربه مهاجما مساكنهم، تفرقوا تاركين وراءهم نساءهم ومتاعهم. واحتمل المسلمون ما استطاعوا، وعادوا أدراجهم إلى المدينة. على أنهم خافوا رجعة العدو عليهم فتناوبوا الحراسة ليل نهار. وجعل محمد يصلي بهم أثناء ذلك صلاة الخوف؛ فكان جماعة منهم يظلون مستقبلين العدو مخافة لحاقه بهم في حين يصلي الآخرون مع محمد لله ركعتين. ولم يبد للعدو أثر وعاد النبي وأصحابه إلى المدينة بعد غيابهم خمسة عشر يوما عنها وهم بظفرهم جد فرحين.
وخرج النبي بعد قليل من ذلك إلى غزوة أخرى هي غزوة دومة الجندل. ودومة الجندل واحة على حدود ما بين الحجاز والشام، تقع في منتصف الطريق بين البحر الأحمر وخليج فارس. ولم يقابل محمد القبائل التي أراد مقاتلتها هناك والتي كانت تغير على القوافل؛ لأنها ما لبثت حين سمعت باسمه أن أخذها الفزع وولت مدبرة، وتركت للمسلمين ما احتملوا من غنائم. وأنت ترى من هذا التحديد الجغرافي لدومة الجندل مبلغ ما اتسع نفوذ محمد وأصحابه، وما بلغ إليه سلطانهم وخوف شبه الجزيرة إياهم، كما ترى كيف كان المسلمون يحتملون المتاعب في غزواتهم، مستهينين بالقيظ والجدب وقلة الماء، مستهينين بالموت نفسه، يحركهم إلى هذا النصر والظفر شيء واحد هو سبب قوتهم المعنوية: الإيمان بالله وحده لا شريك له.
آن لمحمد من بعد ذلك أن يطمئن بالمدينة عدة أشهر متتابعة، ينتظر فيها موعد قريش لعامه القادم - سنة خمس من الهجرة - ويقوم بأمر ربه، بإتمام التنظيم الاجتماعي للجماعة الإسلامية الناشئة، تنظيما كان يتناول عدة ألوف يومئذ ليتناول الملايين ومئات الملايين من بعد ذلك، ويقوم بإتمام هذا التنظيم الاجتماعي في دقة وحسن سياسة، يوحي إليه ربه منه ما يوحي، ويقر هو ما يتفق مع أمر الوحي وتعاليمه، ويضع من تفاصيل ذلك ما كان موضع التقديس من أصحابه يومئذ، وما ظل من بعد ذلك قائما على الأجيال والدهور، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
الفصل السابع عشر
أزواج النبي
(زينب بنت خزيمة وأم سلمة - قصة زينب بنت جحش وكلام المستشرقين فيها - وقائعها كما يرويها التاريخ الصحيح) ***
في الفترة التي وقعت فيها حوادث الفصلين السابقين تزوج محمد زينب بنت خزيمة، ثم تزوج أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، ثم تزوج زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة، وزيد هذا هو الذي تبناه محمد وأعتقه منذ اشتراه يسار لخديجة. ها هنا يصيح المستشرقون ويصيح المبشرون: انظروا! لقد انقلب محمد الذي كان بمكة داعية قناعة وزهد وتوحيد ورغبة عن شهوات هذه الحياة الدنيا، رجل شهوة يسيل منظر المرأة لعابه، ولا يكفيه ثلاث نسوة في بيته، بل يتزوج أولئك الثلاث اللائي ذكرنا، ويتزوج من بعدهن ثلاثا أخريات غير ريحانة.
وهو لا يكفيه أن يتزوج ممن لا بعولة لهن؛ بل هو يشغف حبا بزينب بنت جحش وهي تحت زيد بن حارثة مولاه؛ لغير شيء إلا أنه مر ببيت زيد وهو غائب فاستقبلته زينب، وكانت في ثياب تبدي محاسنها، فوقع منها في قلبه شيء لجمالها، فقال: سبحان مقلب القلوب! ثم كرر هذه العبارة ساعة انصرافه، فسمعتها زينب ورأت في عينيه وهج الحب، فأعجبت بنفسها وأبلغت زيدا ما سمعت فذهب من فوره إلى النبي يذكر له استعداده لتسريحها؛ فقال له: أمسك عليك زوج واتق الله. لكن زينب لم تحسن من بعد عشرته فطلقها؛ وأمسك محمد عن زواجها وقلبه في شغل بها حتى نزل قوله تعالى:
وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا
अज्ञात पृष्ठ