नई दुनिया में विचार का जीवन
حياة الفكر في العالم الجديد
शैलियों
9
لأنه يستحيل عليهم أن يعيشوا في حالة شك مستمر، ولا بد لهم - لكي يضطربوا في حياتهم العملية ونشاطها - من اعتقادات ثابتة عندهم، ليتصرفوا على أساسها.
وأول ما يقال في الموازنة بين حالتي «الشك» و«الاعتقاد» هو أن موضوعهما واحد، ينتقل الإنسان في علاقته به من حالة الاعتقاد إلى حالة الشك، أو من حالة الشك إلى حالة الاعتقاد، حسب ما تقتضيه نتائج سلوكه إزاءه؛ فالعبارة الواحدة المعينة التي «أعتقد» في صوابها، هي نفسها التي «أشك» في صوابها، لو رأيت أن سلوكي على أساسها لا يمضي في طريقه كما توقعت له أن يمضي، وبين حالتي الشك والاعتقاد فرق عملي وفرق في الشعور؛ فأما الفرق العملي فهو أننا نربط حالة الاعتقاد بالعمل الذي يتضمنه ذلك الاعتقاد، أما حالة الشك فلا يترتب عليها عمل، وأما الفرق بينهما في الشعور فهو أن الإنسان قلق في حالة الشك مطمئن في حالة الاعتقاد، فإذا ما أخذك الشك في حقيقة شيء معين، كان ذلك حافزا مثيرا لك أن تستقصي الصواب في أمره، حتى تصل فيه إلى اعتقاد ما، وعندئذ فقط يزول عنك القلق الذي انتابك مع الشك، معنى ذلك بعبارة أخرى، هو أننا ونحن في حالة من حالات الشك، لا نحب أن تدوم بنا هذه الحالة، ونسعى إلى تغييرها، وأما إذا كنا في حالة من حالات الاعتقاد، فالعكس هو الصحيح، أي إننا لا نحب لهذه الحالة أن تزول ونسعى نحو تثبيتها ودوامها، ورغبة الانتقال من حالة الشك إلى حالة الاعتقاد هي التي يطلق عليها «بيرس» اسم «البحث»؛
10
لأن الدافع إلى البحث العلمي دائما هو أن يصطدم أحد اعتقاداتنا بحقيقة الواقع، فيزول اليقين عن ذلك الاعتقاد، ونصبح إزاءه في حالة شك، فنحاول أن نجد اعتقادا آخر مكانه يصلح أساسا لسلوكنا حيال الواقع سلوكا ناجحا، وعلى كل حال ففي رأي «بيرس» أن ما يهتم له الإنسان أولا وقبل كل شيء، هو أن يرسو بفكره إلى حالة اعتقاد، بغض النظر عن صواب هذا الاعتقاد أو خطئه، «وأحسن الحالات، هي حالة نظن فيها أن اعتقادنا صواب».
وأيسر الوسائل التي يلجأ إليها الناس في تثبيت اعتقاداتهم إزاء مشكلة بعينها، هي أن «يتشبثوا» باعتقادهم في كل مرة تثور فيها المشكلة، حتى تتكون لديهم عادة الإجابة عن المشكلة على النحو الذي اعتقدوا فيه، وفي مثل هذه الحالة ترى «المتشبث» يرفض الاستماع إلى أي جواب آخر، فليس الناس بطبيعتهم مدفوعين إلى بلوغ الحق اندفاعهم إلى الوصول إلى حالة اعتقادية يريحون بها أنفسهم؛ ولذلك فهم يصمون آذانهم عن كل ما يخالف اعتقادهم، حتى لا يعكروا صفو الطمأنينة العقلية التي استراحوا لها، ولولا أن الناس في المجتمع الواحد لا ينفكون يتبادلون الرأي، ويؤثر بعضهم في بعض، لظل الفرد الواحد على اعتقاداته لا يغير منها شيئا إلا عند الضرورة العملية القصوى، لكن الناس - كما قلنا - يراجع بعضهم بعضا، ويعدل بعضهم بعضا، بحيث يستحيل على الفرد منهم أن يحتفظ باعتقاداته الخاصة أمدا طويلا، ومن هنا كانت وسيلة «التشبث» بالرأي وسيلة ناجحة بعض النجاح لا كل النجاح، وإلى أمد معين لا إلى غير نهاية؛ ولذلك يتحتم أن يبحث الناس عن وسيلة أو وسائل أخرى لتثبيت اعتقاداتهم.
فلأن الإنسان لا يعيش بمفرده، بل يعيش عضوا في مجتمع يتبادل أفراده الرأي، كانت الحاجة أمس إلى اعتقادات جماعية ثابتة، منها إلى اعتقادات فردية ثابتة؛ وهنا تأتي الوسيلة الثانية من وسائل تثبيت الاعتقاد، وهي الاستناد إلى سلطان معين ، كسلطان التقاليد، أو سلطان الثقات من الأقدمين وغير ذلك، والاستناد إلى سلطان معين في تثبيت الاعتقاد هو نفسه «التشبث»، وغاية ما في الأمر أن الأول خاص بتثبيت الاعتقاد الجماعي، والثاني خاص بتثبيت الاعتقاد الفردي، ومهما يكن من أمر فلا حيلة أمام المجتمع إذا أراد أن يجتمع أفراده على اعتقاد معين سوى أن يلجأ إلى سلطان رادع، مهما أدى ذلك إلى العسف بالأفراد، وما أكثر ما شهده التاريخ من تعذيب وإرهاب وقسوة، بل من قتل أولئك الذين سولت لهم نفوسهم الخروج على ما أرادت الجماعة لأفرادها أن يعتقدوا فيه، «هكذا كانت الوسيلة منذ أقدم العصور للمحافظة على المذاهب الصحيحة من دين وسياسة.»
11
ولما كان من العسير على المجتمع أن يستخدم سلطانه هذا في مراقبة كل اعتقاد تفصيلي مما عسى أن ينشأ في رءوس الناس، انصرف باهتمامه نحو العقائد الرئيسية وحدها يصونها ويرعاها.
على أنه قلما يخلو مجتمع من فئة قليلة لا يرضيها أن تثبت عقائدها بإحدى الوسيلتين السابقتين، فلا يرضيها مجرد «التشبث» الأعمى، ولا طاعة «السلطان» مهما كان نوعه، فأمثال هؤلاء إذا ما ساورتهم الشكوك في معتقداتهم. لجئوا إلى مراجعة بعضهم بعضا؛ لعل أحدهم يقيم البرهان الذي يقنع الآخر، ومن أمثال هؤلاء تتألف - عادة - طائفة الفلاسفة التي يكفيها أن ترضى من الوجهة النظرية العقلية عن صواب الاعتقاد المعين، حتى وإن اضطرتهم ظروف الحياة الاجتماعية ألا يتصرفوا على أساس ما اعتقدوه صوابا.
अज्ञात पृष्ठ