नई दुनिया में विचार का जीवन
حياة الفكر في العالم الجديد
शैलियों
لم يكن «بيرس» شعبيا في كتابته؛ ولذلك فهو يعسر على القارئين ممن لم يأخذوا أنفسهم بفهم مصطلحاته التي خلقها لنفسه خلقا ليبعد بألفاظه عن استعمالها في الحياة اليومية، إنه يريد الدقة في تفكيره وتعبيره، لكن الألفاظ السارية في الشئون الجارية معيبة بالغموض، فلو نقل هذه الألفاظ باستعمالاتها اليومية استحال عليه ما أراد لفكرته من دقة وتحديد؛ لذلك اضطر إلى صياغة ألفاظ خاصة به، روعي فيها أن تكون «غليظة»، حتى لا يستسيغها عامة الناس، فتسري بينهم فتعود إلى الغموض من جديد، وخير مثل يساق توضيحا لهذا الميل فيه، هو استعماله لكلمة «البراجماتية» نفسها التي شاعت بعد ذلك اسما لمذهبه؛ فقد كان السؤال الرئيسي الذي ألقاه على نفسه ليحاول الإجابة عنه هو هذا: ما هي «الفكرة»؟ متى يجوز لك أن تسمي العبارة «فكرة» ومتى لا يجوز؟ ولما انتهى إلى أن «الفكرة» هي ما «تعمله»، أي هي في نتائجها العملية المترتبة عليها، خشي أن يستعمل اللفظة الجارية الدالة على هذا المعنى، وهي لفظة
practice ، فصاغ لنفسه كلمة قريبة منها؛ لتدل على ما يريد، ولتكون اصطلاحا خاصا من مجال بحثه الخاص، وهي كلمة
pragmatism ، ولكن هل أنجاه هذا الحرص كله مما خشي الوقوع فيه؟ كلا، بل جاءه البلاء من رجال الفكر قبل أن يجيئه من سواد الناس؛ ذلك أنه حين ابتكر مذهبه هذا ابتكارا - وسنورد تفصيله فيما بعد - وابتكر له اسمه كذلك، إنما كان محوره الرئيسي هو أن يجعل كل تفكير يجري على أساس ما يجري في معامل العلوم الطبيعية، ولما كانت «الفكرة» في المعمل لا تقبل إلا إذا كان لها نتائج عملية يشاهدها كل من أراد أن يشاهد؛ فقد جعل هذا نفسه هو مبدأ نظريته في المعرفة؛ فالمعرفة - كائنة ما كانت - لا تستحق هذا الاسم إلا إذا كانت لها نتائج عملية يمكن لكل إنسان أن يشاهدها إذا أراد، لكن مذهبه هذا الجديد، باسمه هذا الجديد، لم يكد يتناوله سواه من أنصار المذهب أنفسهم، مثل «جيمس» و«ديوي» حتى حوروه، وجعلوا النتائج العملية التي تترتب على «المعرفة» لتكون «معرفة» جديرة بهذا الاسم مما يكون له أثر على الشخص ذاته صاحب المعرفة، فيكفي أن يقول صاحب الفكرة عن فكرته إن لها أثرا نفسيا في حياته لتكون فكرته هذه مقبولة على أساس المذهب البراجماتي، كأن يقول قائل مثلا إن عقيدته في الله ذات أثر عملي في حياته؛ لأنها تجعله أكثر تفاؤلا، وأشد إقبالا على صعاب الحياة ومشكلاتها، فتكون عقيدته تلك مقبولة من الوجهة البراجماتية؛ لأنها عقيدة ذات نتائج محسوسة في حياته العملية، لكننا إذا أخذنا بهذا التعديل، جعلنا المعرفة ذاتية فردية نسبية، وهو ما لم يرده «بيرس» الذي أصر على أن يكون مقايس الفكرة - أي فكرة - هو نفسه مقياس العلم للفكرة العلمية، وهو أن تكون عامة للناس لا ذاتية فردية، وأن يشهد الجميع نتائجها لا أن يكتفي في ذلك على صاحبها، رأى «بيرس» أن حرصه الشديد في البعد عن الألفاظ الجارية في الحياة اليومية لم ينقذه من تحريف أغراضه؛ إذ هكذا - كما رأيت - أخذ عنه أنصار مذهبه كلمته، لكنهم استخدموها فيما لم يرد هو أن يستخدمها فيه، فلجأ إلى تعديل الكلمة بإضافة حروف زائدة إليها، بحيث أصبحت
pragmaticism
لعلها بذلك «أن يكون لها من القبح ما يصرف عنها الخاطفين (اللصوص).»
6
ويدور المذهب البراجماتي عند «بيرس» حول محورين أساسيين، يلتقيان في النهاية عند نقطة واحدة، وهما مشكلة «المعنى»، ومشكلة «الاعتقاد»؛ أما الأولى فهي محاولة الإجابة عن هذا السؤال: متى يكون للكلمة أو للعبارة «معنى»؟ وأما الثانية فهي تجيب عن هذا السؤال: إن كان لدي اعتقاد معين بأن هنالك في العالم الخارجي شيئا ما ذا صفة معينة، فما التحليل الصحيح لمثل هذا الموقف؟ «معنى» الكلمة أو العبارة هو مجموعة ما يمكن للإنسان أن يؤديه من أعمال مسترشدا بالكلمة أو العبارة، وما ليس يهدي إلى عمل معين فلا معنى له، فالأفكار - أي الكلمات والعبارات - إما أن تكون خططا للسلوك العملي، أو لا تكون شيئا على الإطلاق، فإذا وجدت فكرة - مهما يكن من أمرها - لا تدلك على أنواع السلوك الذي تسلكه في عالم الواقع، فاعلم أنها فكرة باطلة، أو قل إنها ليست شيئا، وإنه لمما يلفت النظر بالنسبة إلى ما يصادف الإنسان في حياته الفكرية من مشكلات، أن بعض هذه المشكلات لا يجد سبيله إلى الحل مهما تقدمت المعرفة البشرية، على حين أن بعضها الآخر مصيره إلى الحل إذا ما توافرت للإنسان المعرفة الكافية لحلها، فلننظر إلى المشكلات التي من النوع الأول - وهي المشكلات الفلسفية التأملية - لعلنا ندرك السر في تعذر حلها، خذ مثلا لذلك مشكلة كهذه: هل العقل والمادة عنصران مختلفان، أم أن أحدهما يمكن رده إلى الآخر؟ أو مشكلة كهذه: هل الروح خالدة أم فانية؟ وسل نفسك لماذا استعصى أمثال هذه المشكلات على الحل بالرغم مما أنفق فيها الفلاسفة من جهود؟ أكان ذلك لأن الإنسان عاجز في علمه عن مواجهتها وحلها، أم لأن المشكلات التي من هذا القبيل بحكم طبيعتها مستحيلة على الحل، لا لأنها أصعب من أن يستطيع الإنسان حلها، بل لأنها ليست بمشكلات حقيقة، لأنها ليست بذات أفكار، وكل ما فيها كلمات لا تحمل معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكا؟ وأول ما ينبغي أن تتنبه إليه في هذا الصدد هو أن المشكلة الحقيقية هي ما يحتمل الحل يوما ما، إن لم يكن اليوم فغدا أو بعد مئات السنين، أعني أنه لا بد أن يكون الحل ممكنا، أما أن تكشف لنا إزاء مشكلة مزعومة أن حلها مستحيل بحكم طبيعتها، فعندئذ لا يجوز أن نكتفي بالقول عنها إنها مشكلة عسيرة، بل يجب إخراجها من عداد المشكلات الحقيقية؛ لأنها ليست منها، وإن تكن قد اتخذت صورة المشكلات الحقيقية بأن وضعت على هيئة سؤال يتطلب الجواب، فمتى نحكم على مشكلة مزعومة بأنها «زائفة»؟ نحكم عليها بالزيف إذا لم يكن موضوعها مما يدخل في حدود الخبرة البشرية فعلا أو إمكانا، ونضع هذا بعبارة أخرى، فنقول: إن المشكلة الزائفة التي يجب اطراحها هي التي تدور حول كلمات ليست بذات معنى؛ لأنها لا ترسم سلوكا، فمعنى الكلمة هو السلوك الذي يترتب عليها ولا معنى لها غير ذلك، فماذا في وسعك أن تعمله إزاء العقل والمادة لتعلم إن كانا عنصرين مختلفين أو لم يكونا؟ وماذا في وسعك أن تعمله لتعلم إن كانت الروح خالدة أو فانية؟ وعلى أي وجه يتغير السلوك إذا كان العقل والمادة عنصرين مختلفين أو متفقين؟ وماذا يكون نوع الآثار العملية المشاهدة في عالم الواقع حين تكون الروح خالدة، ثم كيف تتغير تلك الآثار العملية المشاهدة حين تكون الروح فانية؟ واضح ألا سلوك يقابل أمثال هذه المشكلات؛ وبالتالي فلا معنى، وإذن فهي مشكلات زائفة.
إن الناس يتفقون على المعنى المفهوم من «صلابة» الماس - مثلا - لأنهم يشتركون معا في مشاهدة السلوك الذي تعنيه كلمة «صلابة» وهو أن الجسم «الصلب» يخدش بقية الأجسام، وهو لا ينخدش بها، هذا سلوك تستطيع أنت ويستطيع كل إنسان أن يؤديه، وهو أن يمسك بقطعة المادة الصلبة، ثم يضغط بها على مادة ثانية فثالثة وهكذا، ويكون هذا السلوك الظاهر هو نفسه «معنى» كلمة «صلب» حين نصف الماس بالصلابة، ولك أن تسأل الآن: لماذا لا يتفق الناس على معنى كلمات مثل «حرية» و«ديمقراطية» وما إلى ذلك من كلمات، اتفاقهم على معنى كلمة «صلابة»؟ والجواب هو أن المعنى يتحدد حين يتحدد نوع السلوك المترتب على أمثال هذه الكلمات، وما دمنا لم نحدد بعد مثل هذا السلوك، بالنسبة لكلمة من الكلمات فستظل بغير معنى.
والعبارة تكون ذات معنى لو كانت كل كلمة فيها مما يمكن تحويله إلى سلوك وعمل، فإذا وقعنا من عبارة على كلمة لا ندري ماذا يكون السلوك الذي هو معناها، فسدت العبارة بأسرها وأصبحت كلاما خاليا من الدلالة، لا فرق في ذلك بين أي عبارة تقولها وبين العبارة التي يقولها عالم الطبيعة في معمله، فهذا العالم الطبيعي في معمله إذا ما استخدم كلمة - وحدها أو في عبارة - كان لا بد أن يكون ثمة ما يقابلها من إجراءات عملية تؤدى، فلو استخدم - مثلا - كلمة «ثقل» أو «سرعة» أو «انعكاس الضوء» أو ما شئت من كلمات، عرف ماذا يعمل إزاء الشيء المتصف بالثقل أو بالسرعة أو بالانعكاس، وهكذا الأمر في كل كلمة ، وكل عبارة يجوز النطق بها في أي موقف من مواقف الكلام الذي يراد به التفاهم بين الناس، ونعود الآن إلى سؤالنا الأول: متى تكون المشكلة التي يراد حلها مشكلة حقيقية؟ والجواب هو: تكون كذلك لو أمكن أن يخضع حلها للتجارب العملية، أعني أن يكون جوابها سلوكا يؤدى في عالم الواقع، وإلا فهي مشكلة زائفة.
الكلمة من كلمات اللغة، أو العبارة من عباراتها، هي بمثابة إرشاد لما يمكن عمله، وما لا تكون كذلك لا يجوز أن تكون جزءا من اللغة ذات المعنى، هكذا يجب أن نعرف الكلمات، فلا يكون تعريف الكلمة بكلمات أخرى، وهذه بأخرى، بحيث نظل ندور في كلمات ونوهم أنفسنا بأننا قد «عرفنا» معنى الكلمة المراد تعريفها، كلا، إنما تعريفها هو الخطة السلوكية التي هي منطوية عليها، «فحوى الكلمة أو العبارة إنما يقع بأسره في حدود دلالتها على ما يمكن أداؤه في الحياة السلوكية.»
अज्ञात पृष्ठ