مقدمة
1 - نابوليون في نظر الطبيب
2 - ميلاد نابوليون وطفولته
3 - فتوة نابوليون
4 - نابوليون يتسلمه التاريخ
5 - 18 برومير
6 - اجتماع نابوليون بكورفيزار
7 - من سنة 1803 إلى 1810
8 - عام الطلاق
9 - الداء الخفي
अज्ञात पृष्ठ
10 - نتائج سوء الهضم
11 - محاولة الانتحار في فونتنبلو
12 - مملكة الأقزام
13 - مشية الظافر
14 - حكومة المائة اليوم
15 - واترلو
16 - إلى المنفى
17 - لونكوود
18 - آخر مراحل العذاب
ذيل
अज्ञात पृष्ठ
مقدمة
1 - نابوليون في نظر الطبيب
2 - ميلاد نابوليون وطفولته
3 - فتوة نابوليون
4 - نابوليون يتسلمه التاريخ
5 - 18 برومير
6 - اجتماع نابوليون بكورفيزار
7 - من سنة 1803 إلى 1810
8 - عام الطلاق
9 - الداء الخفي
अज्ञात पृष्ठ
10 - نتائج سوء الهضم
11 - محاولة الانتحار في فونتنبلو
12 - مملكة الأقزام
13 - مشية الظافر
14 - حكومة المائة اليوم
15 - واترلو
16 - إلى المنفى
17 - لونكوود
18 - آخر مراحل العذاب
ذيل
अज्ञात पृष्ठ
حول سرير الإمبراطور
حول سرير الإمبراطور
تعريب
نقولا فياض
نابوليون في طريق المنفى.
مقدمة
يختلف هذا الكتاب عن كل ما كتب عن نابوليون بكونه نظر إليه نظر الطبيب الفاحص والعالم المستقصي، فهو يدرس نابوليون الرجل صاحب الوراثة المرضية، وما اكتنف نشأته من الأحوال، وما كان من تأثير مزاجه وطباعه في جميع أدوار حياته.
ففي هذه الفصول يجد القارئ درسا تحليليا مبتكر الأسلوب لشخصية ذلك العبقري الفريد الذي لم تلد القرون له مثيلا.
وقد استشهد الكاتب بحوادث ونوادر كثيرة تزيد في طلاوة الكتاب، كما تزيد في رونقه الصور الكثيرة التي تحلى بها.
إدارة الهلال
अज्ञात पृष्ठ
الفصل الأول
نابوليون في نظر الطبيب
هذا كتاب عن نابوليون يروي للقارئ شيئا غير حروبه وفتوحاته.
فلقد قيل وأثبت الطب أن للصحة والمزاج تأثيرا كبيرا في حياة الإنسان وأعماله.
وهذا ما نريد أن نلم به في كلامنا عن الإمبراطور العظيم.
ولا يتوهم القارئ أن هذا البحث خلو من الفائدة العملية، فإن رجلا كنابوليون طبقت شهرته الآفاق، وترك طابعه على عصره والعصور التي تليه، ليس من الحكمة أن يغفل تاريخه الصحي أو تجهل حالة سلالته من هذه الوجهة، ولا سيما أنها تعد للباحث مثالا واضحا من الوراثة المرضية تتجاوز فائدته الطبية إلى المؤرخ، فقد ظهر اليوم بما لم يبق معه مجال للشك أن هذا المزاج الذي يسمونه: الأرتريتيكي (وسنعود إلى الكلام عنه) هو من أهم عوامل التقهقر في الأسر المالكة.
وقد كان نابوليون مقتنعا بتأثير الوراثة إلى حد أنه وهو على سرير الموت كان شغله الشاغل أن تتخذ الحيطة اللازمة لحماية ابنه من الداء الذي هد كيانه.
على فراش الموت (نابوليون يعطي للمارشال برتران السيف المعد لابنه).
ولذلك أوصى بتشريح جثته وفحص معدته بوجه خاص؛ لاعتقاده أن فيها مركز الداء، ولم يخطئ ظنه، كما أثبت التشريح المرضي بعد ذلك، فقد وجدوا قرحة سرطانية في المعدة، كما وجدوا أثرا للسلال في رئته.
واجتماع العلتين؛ أي السرطان والسل، لم يكن معروفا فيما مضى، أو بالأحرى لم تكن الآراء متفقة عليه، أما اليوم فقد أصبح من الأمور المقررة إمكان اجتماع الداءين في الجسم الواحد.
अज्ञात पृष्ठ
بقي علينا أن نعرف إذا كان في أسلاف نابوليون من أصيب بإحدى هاتين العلتين، ولكن قبل الدخول في الموضوع يحق لنا أن نتساءل هل السرطان وراثي؟
المعروف اليوم أن الإنسان يرث عن أبويه الاستعداد أو التربة، وقد كان الأقدمون يعللون مصائب عظمائهم بأنها من غضب الآلهة وحكم الأقدار، أما اليوم فقد بدلنا من هذا كله حقائق علمية، من ضمنها حقيقة الوراثة المرضية، ولا سيما الأرترتيسم
Artritisme .
ما هو الأرترتيسم؟
شارل بونابرت، والد نابوليون.
كلمة لم يتفق العلماء على تعريفها، فهي ليست علة واضحة كذات الرئة مثلا، بل يراد بها مزاج خاص تسوء فيه التغذية فتنتج عنها أعراض مختلفة، ولا يعنى بالتغذية الطعام والشراب، بل الوظيفة الأولى التي تقوم بها المادة الحية، أي مجموع التفاعلات والمبادلات الحادثة بين الكائن الحي والبيئة التي يعيش فيها ويتغذى منها.
أظنك أيها القارئ، لم تزدد بيانا بهذا التعريف، حسبك أن تعرف أن كلمة الأرترتيسم تشمل النقرس والبول السكري والروماتزم وحصوة الكبد والكلية والصداع والربو والبواسير والطفح الجلدي وبعض أشكال سوء الهضم والالتهاب المعوي، كل هذه الأمراض ترجع إلى نسب واحد وأسرة واحدة فينوب بعضها عن بعض بالانتقال الوراثي؛ أي إن البول السكري قد يورث الربو والنقرس والبواسير إلى آخره.
والأرترتيسم على نوعين، فمنه ما يصيب المزاج العصبي فيكون صاحبه نحيل البدن قليل شعر الرأس، ومنه ما يصيب اللمفاوي فيكون سمينا محتقن الوجه.
ليتسيا بونابرت، والدة نابوليون.
وقد مثل نابوليون الدورين ولبس الحالتين، فصار في الكهولة إلى عكس ما كان عليه في شبيبته، فبعد أن كان نحيفا نشيطا أمسى بدينا مترهلا على تثاقل في الهمة وتردد في العزيمة، كما سيمر بك.
अज्ञात पृष्ठ
وهذه الوراثة المرضية تأتي في الغالب عن الأب دون الأم حسبما ظهر من إحصاءات العارفين، وما كان نابوليون ليشذ عن القاعدة، فقد اشتهر عن أبيه وجده أنهما ماتا بالسرطان، وهو نبأ يحتاج إلى دليل بالنسبة إلى الجد، أما الأب فمما لا ريب فيه أنه مات كذلك، كما ظهر من تقرير الأطباء الذين شرحوا جثته، وقد وجدت نسخة من هذا التقرير عند البارون ديبوا مولد ماري لويز. والظاهر أن الأطباء أرادوا في كتابة هذا التقرير خدمة الأسرة اعتقادا منهم بتأثير الوراثة؛ ولذلك تجد فيه بعد الوصف والشرح الكافي عن حالة معدة شارل بونابرت والورم الذي فيها إسهابا في ذكر العلاج والغذاء الملائم لمن يصاب بمثل هذا الداء. نعم، إن كلمة سرطان لم ترد في هذا التقرير، ولكن كل ما قيل فيه ينطبق عليه، وفضلا عن ذلك فإن شارل بونابرت مات في الأربعين، وعمه كان مصابا بالنقرس، وكانت آلامه شديدة إلى حد أنها ألهمت أحد أحفاده وهو نابوليون أن يكتب إلى الدكتور تيسو وهو طبيب مشهور في سويسرا ليستشيره بشأنه، ولا بأس من عرض صورة هذا الكتاب التي تمثل صفحة من حياة نابوليون ونفسه في زمن الفتوة:
سيدي،
قضيت أيامك في خدمة الإنسانية، وطار اسمك في العالم حتى اخترق جبال كورسيكا التي قلما يحتاج الإنسان فيها إلى طبيب. لم أتشرف بالتعرف إليك إلا أن ما أسمعه عن علمك وفضلك يجرئني على مكاتبتك لأستشيرك بشأن عم لي مصاب بالنقرس.
ولا يوافقني في هذا الحديث أن أعترف بعمر عمي البالغ السبعين، ولكن لا تنس يا مولاي، أن في إمكان الإنسان الوصول إلى المائة وما فوقها، وبنية عمي تسمح له أن يكون في عداد هؤلاء الممتازين ، وهو فضلا عن ذلك يعيش باعتدال وحكمة لا تعصف به أهواء النفس ولا تثيره زوابع الحياة، كما أنه لم يصب أبدا بعلة من العلل ولم يشك ألما من الآلام، وإذا كنت لا أجاري فونتانل فأقول عنه: إنه كان يملك الخلتين اللتين تضمنان العمر الطويل: الجسم الصالح والقلب الطالح، فأنا أعتقد أنه مع ميله للأنانية لم يضطر إلى الإغراق فيها.
وقد تنبأ أحدهم له في صباه أنه سيصاب بهذا الداء مستندا في ذلك إلى صغر يديه وضخامة رأسه، ولكنك ترى مثلي - على ما أظن - أن ذلك من قبيل الاتفاق.
الدكتور تيسو (من لوزان).
نابوليون بونابرت بلباس شرقي.
وبعد أن يصف نابوليون داء عمه وما يقاسيه من الأوجاع يختم كتابه إلى الطبيب بهذه العبارة:
الإنسانية يا مولاي، تجعلني على أمل من جوابك، أنا نفسي أتعذب منذ شهر بالحمى المتقطعة؛ ولهذا أشك في أنك ستقرأ بسهولة أسطري هذه.
وأختم بتقديم الاحترام الذي يوحيه إلي فضلك السابق واللاحق.
अज्ञात पृष्ठ
بونابرت ضابط في المدفعية سنة 1787
أما تيسو الطبيب فلم يتنازل إلى الإجابة عن هذا الكتاب، ولم يعلم أكان ذلك منه نسيانا أم إهمالا أم ظنا أن هذا الغريب المجهول يحاول أن يستفيد من علمه مجانا بلا أجر، ولم يدر في خلده أن سائله هذا سيملأ اسمه الخافقين.
الفصل الثاني
ميلاد نابوليون وطفولته
ولد نابوليون في أجاكسيو في 15 أغسطس سنة 1769 بعد أن ضمت كورسيكا إلى فرنسا باتفاق بين جمهورية جينوا ولويس الخامس عشر.
وكان نحيف البدن ضعيفا إلى حد أن أمه استعانت بمرضع لتغذيته خوفا عليه وإشفاقا، ولم تجسر على تعميده إلى أن بلغ السنتين وولدت أخته ماري حنة، فانتهزت الفرصة وعمدتهما في وقت واحد، وكان يمتاز منذ ذلك العهد برأس كبير لا يكاد يستقر على عنقه، وكلما ترعرع زادت ملامحه وضوحا في الدلالة على قلة الصبر وسوء الطبع وشدة العناد، فلم يكن يقوى عليه أحد غير أمه التي كانت على حنوها الشديد نحوه صارمة في معاملته حتى اضطرت مرة إلى جلده، وقد بقي تذكار ذلك الجلد حاضرا في ذهن الإمبراطور إلى الساعة الأخيرة، كما روى خادمه في جزيرة المنفى.
وكان على الرغم من المعارضة واللوم والتأنيب قوي الحجة كثير اللجاج، يحب التدخل في كل أمر، وفي ذلك يقول عند المقابلة بينه وبين ابن الجنرال برتران: «كنت كهذا الولد، عنيدا أحب الخصام ولا أهاب أحدا، فأضرب هذا وأخدش ذاك بأظافري، ولا أخضع إلا لوالدتي التي كانت تعرف أن تضع الجزاء والعقاب كلا في موضعه.»
ومن الحوادث التي تظهر بعض ما كان عليه نابوليون من العزم والعناد في طفولته، ما روته الكونتيسة دورسه عن أمه وكان عمره يومئذ 7 سنين، قالت: «كان نابوليون يتمشى في الحديقة فدهمه المطر، وكانت أمه تراقبه من وراء زجاج النافذة وتشير عليه بالدخول، إما هو فلم يحفل بإشارتها وظل على حاله دون أن يسرع الخطى على الرغم من انهمار السيل وقصف الرعد وثوران الزوبعة، بل كان كأنه يشعر بلذة غريبة لوجوده في تلك الحالة، ولما انقطع الماء وصفت السماء عاد وقد أصابه البلل حتى العظم كما يقولون، وسار توا إلى أمه يستغفرها عن هذا العصيان محتجا بوجود التعود على معاكسات الجو؛ لأنه سيكون جنديا.»
المدرسة الحربية الملكية في عهد لويس السادس عشر.
وكانت رغبته في الخدمة الحربية ظاهرة في أكثر حركاته، فكان يرسم على الجدار صور الجنود وقد اصطفت للقتال، كما كان يبدل من خبزه الأبيض بخبز الجنود الأسمر.
अज्ञात पृष्ठ
هذه الأمور تافهة في ذاتها، ولكنها ذات قيمة في حياة الرجل العظيم؛ لأنها تظهر تلك البذرة التي خرجت منها تلك الشجرة الكبيرة فتجعلنا نفهم أسرار الغرابة التي كانت تتجلى في كثير من أعماله.
ومرت طفولة نابوليون بغير علة تذكر، وانقضى طور التسنين دون أن يحدث في حالته العمومية تأثيرا، لولا قليل من الصفراء والإسهال، تركا وجهه شاحبا قاتما، وجعلاه عصبيا قليل النوم سريع التهيج، مما جعل ذويه غير مرة يجبهونه باللوم والتأنيب، دون أن يدركوا أنه غير مسئول عن هذه الحالة؛ لأنها حالة مرضية، وكم من الوالدين حتى يومنا هذا يسيرون مع أولادهم على هذا النمط، إذا بدر منهم بعض الحدة أو ظهرت عليهم أعراض الكسل فيقسون حيث يجب اللين، ولا يبحثون عن السبب الذي كثيرا ما يكون من اختلال وظائف الهضم، أو اعتلال أحد الأعضاء الرئيسية، أو التهاب الحلق أو الأذن، وما شاكل هذا.
وأدخل نابوليون إلى المدرسة قبل العاشرة، فلبث في «أوتن» مع أخيه جوزف ثلاثة أشهر وعشرين يوما منتظرا من حين إلى آخر أن ينتقل إلى مدرسة بريان
Brienne
الحربية.
ولم يغب عن أساتذته في أوتن ما كان عليه من العبوس والتفكير؛ لأنه كان يحب الانزواء، فلا يعاشر أحدا، ولا يشترك مع رفقائه في الألعاب الرياضية وغيرها، وكان يختلف عن أخيه جوزف كل الاختلاف في العريكة والأخلاق، ولا يشابهه إلا في الاجتهاد وحب المطالعة.
وبعد زمن قصير ورد على أبيه كتاب من وزير الحربية البرنس مونباره يبشره فيه بتنازل الملك إلى قبوله في عداد تلامذة مدرسة بريان، وكانت هذه المدرسة خصيصة بالنبلاء، فوجد نابوليون نفسه غريبا فيها، مضطهدا من رفقائه أبناء الأسر العريقة في النسب المنتفخين غرورا انتفاخهم بالمال، ومن قرأ كتابه إلى أبيه يومئذ يتبين من خلال سطوره شدة الحنق الذي كان يلهب قلب هذا الشاب في أول مرحلة من حياته، فقد جاء فيه: «إذا كنت لا تستطيع أن تعطيني ما يلزم لأعيش في هذا المعهد، فادعني إليك حالا؛ فقد سئمت نفسي التظاهر بعدم الاكتراث بينما أعيش على مرأى ومسمع من هؤلاء الأغرار الذين لا يمتازون عني بشيء سوى غناهم.»
وكانت رغبة الملك أن يتم على أولاد النبلاء نعمة التربية الاجتماعية، فأدخل في نظام المدرسة ما يوجب اختلاط التلامذة بعضهم ببعض لتلين طباعهم بالاحتكاك ويخف كبرياؤهم فيتعودوا النظر إلى سواهم نظرة أدنى إلى العدل والمساواة، وكانت مدة الدراسة ست سنوات لا يجوز في خلالها لتلميذ أن يطلب إذنا بالتغيب، كما أنه من الواجب على كل فرد أن يلبس ثيابه ويغسلها بدون مساعدة خادم أو أجير، وأن يجعد شعره بنفسه ويرسل منه ضفيرة صغيرة إلى الوراء، ولا يحق له أن يذر عليه «البودرة » إلا في الآحاد والأعياد، أما السرير فكان بسيطا، فراشه وغطاؤه لا يغيران صيفا ولا شتاء.
وكانت الرياضة البدينة وكل ما يزيد في قوة الجسم وخفته من الأمور الضرورية، أما الرقص والموسيقى فليس لهما أن يأخذا من أوقات الدرس كثيرا ولا قليلا، وكان العقاب بالضرب ممنوعا؛ لأن الضرب «مما يضر بالصحة ويذل النفس ويفسد الأخلاق»، ومن الواجب تجافي العقاب ما أمكن؛ لأنه يجلب العار على التلميذ ويحط من كرامته.
تلك هي الشرائط التي جرى عليها نظام مدرسة بريان لإعداد رجال أقوياء بدنا وعقلا، على أنها لم تكن تحترم كل الاحترام، فكم تغيب تلميذ! وكم عوقب بالضرب سواه! حكي أن نابوليون استحق القصاص مرة فأمر أن يركع أمام باب غرفة الأكل ويتناول طعامه على هذه الحال، فأطاع إلا أنه ما كاد يحني ركبتيه حتى أصابه قيء شديد ونوبة عصبية واتفق أن مر المدير حينئذ، فأخذه بيده بعد أن وجه إلى المعلم كلمات اللوم، وأسرع أستاذه في الرياضيات شاكيا محتجا على إهانة أفضل تلاميذه.
अज्ञात पृष्ठ
وكانت العادة أن يزور المدارس الحربية بين آونة وأخرى مفتش خاص غايته فحص التلاميذ والإشراف على أحوال معيشتهم ودروسهم وصحتهم؛ ليقدم بذلك تقريرا وافيا إلى الوزير، فجاء بريان هذه المرة المسيو ده كراليو، وذلك في سبتمبر 1783، ولما رأى نابوليون أدرك حالا ما عنده من الاستعداد على الرغم من أن معارف التلميذ الشاب كانت وقتئذ قليلة لا تكاد تتعدى الرياضيات، فوقع اختياره عليه لإرساله إلى باريس، وحرر بذلك شهادة أتى فيها على وصفه من حيث القامة والبنية والصحة، ولم ينس أن يذكر فيها أنه ضعيف في اللغة اللاتينية وفي الألعاب.
ثم جاءت أمه لزياته، فأفرغت جهدها في إقناعه بالعدول عن البحرية؛ حيث لا يجد إلا عدوين: الماء والنار. والذي زادها قلقا عليه ما رأت من نحوله وتحول ملامحه، حتى إنها أبت بادئ ذي بدء أن تصدق أنه ولدها، كما يقول نابوليون نفسه في حديث له مع الجنرال مونتولون؛ لأنه حقا كان قد تغيرت صحته وساءت كثيرا؛ لإفراطه في الدرس وسهر الليالي مكبا على المطالعة، وذلك «لأن فطرته كانت تأبى عليه إلا أن يكون الأول في صفه».
ولا توجد تفاصيل عن حياة نابوليون في بريان سوى ما كتبه أحد رفقائه في المدرسة ونشره بعد سقوط الملكية؛ أي سنة 1815، فقد جاء في هذا الكتاب أن نابوليون كان يجهل تقريبا الفرنسوية، فعينوا له أستاذا خصوصا هو الأب ديبوي، وكانت ذاكرته ضعيفة جدا؛ بحيث لا يقوى على استظهار دروسه، إلا أنه كان يفهم بسرعة معنى كل ما يقرأ، وقد قرأ كثيرا وخصوصا التاريخ.
وكان متطرفا في مدح الإنكليز وذم الفرنسويين، وقد اضطر فيما بعد إلى تغيير رأيه هذا، وكان لون وجهه أصفر شديد الاصفرار، فكان يعلل ذلك بأنه وهو في المهد كانت الحرب مستعرة في كورسيكا، فاضطرت مرضعه أن تنجو به إلى الجبال، وجلبت له عنزة تشاركها في إرضاعه لقلة لبنها، ولكن العنزة ماتت فلم تجد غير الزيت لتغذيه به (كذا).
بونابرت حين كان طالبا في المدرسة الحربية الملكية.
ويقال: إن نابوليون لم يكن ليشترك مع رفقائه في الرياضة واللعب، ولكن الكاتب الذي يدعي أنه رافق نابوليون أيام المدرسة يقول: إنه في باريس كان يلعب كغيره، ولا سيما لعبة تسمى لعبة اللص وأخرى لعبة الصيد، وكلاهما حركة وركض. أما ألعاب الخفة فكان يجهلها تماما حتى إنه لم يكن يعرف أن يرمي حجرا فيصيب، بل إنه كان عاجزا عن تجعيد شعره بذاته، وقد بلغ ذلك منه أن سمح له بالشذوذ عن القاعدة، فصار يدعو مزينا لتجعيده وإرسال جديلة وراء رأسه حسب زي تلك الأيام.
وقد غادر نابوليون بريان في 17 أكتوبر سنة 1784 غادرها غير آسف؛ لأن شوقه إلى كورسيكا لم يزل متقدا وحنينه إلى سمائها الجميلة لم يزايل فؤاده لحظة.
أما مدرسة باريس فقد أنشئت على عهد لويس الخامس عشر بالقرب من الأنفاليد، كأنما أراد منشئها أن ينعش الأبطال القدماء ويفرح شيخوختهم بمنظر الشباب المعزي، ثم أقفلت واعتيض عنها بمدرسة خاصة أعدت لقبول زهرة الطلاب ممن امتازوا في دروسهم من أي بلد فرنسوي كانوا، وقد أظهر نابوليون أنه حائز الصفات المطلوبة فقبل فيها بسهولة.
ولا نعرف من حياة نابوليون في هذه المدرسة الملكية إلا نتفا يرويها رفقاؤه، ومنها هذه الحادثة التي تدل على نفسه: كان الاعتراف إجباريا في المدرسة، فإذا لم يجئ التلميذ من تلقاء نفسه إلى الكنيسة جيء به غصبا، ووقف عند الباب حارس يمنعه من الخروج قبل أن يتم هذا الفرض الديني، فلما جاء دور نابوليون ووقف أمام الكاهن سأله هذا عن وطنه، فأجابه أنه من كورسيكا، فما كان من الكاهن إلا أن انطلق في ذم الكورسيكيين وعد عيوبهم ولصوصيتهم، فتكدر نابوليون واحتدم الجدال بينه وبين معرفه حتى انتقل من السب إلى التهديد، وانتهى بأن ضرب نابوليون بقبضة يده على الحديد الفاصل بينه وبين الكاهن، فكسره وهجم عليه، ولولا الحارس الذي أسرع إلى الفصل بينهما لكانت معركة دموية، ولم يعاقبه رؤساؤه على ما جرى؛ لأنه لم يفعل ذلك إلا دفعا للإهانة التي أراد أن يلصقها الكاهن ببلاده.
وإليك حادثة أخرى ليست أقل دلالة على أخلاقه:
अज्ञात पृष्ठ
كانت العادة إذا مات قريب لطالب أن ينبئوه بذلك تدريجا بعد أن يدعى إلى غرفة خاصة يكون فيها وحده فيتسع له الاستسلام للحزن والبكاء، فلما مات والد بونابرت دعاه الرئيس وأخبره بمصابه، وأشار عليه أن يختلي إلى نفسه في الغرفة المعدة للراحة والتطبيب، فما كان من نابوليون إلا أن أجابه: «لن أذهب، فالبكاء للنساء، أما الرجل فعليه أن يتعلم كيف يتألم، وأنا لم أصل إلى هذه الساعة دون أن أفتكر في الموت وأعود نفسي عليه كما أعودها على الحياة»، ولم تنحدر له دمعة وبقي متتبعا دروسه بهدوء، كأن لم يمت له أحد، وكان يسمي هذا فلسفة.
وخرج نابوليون من المدرسة في أكتوبر سنة 1785 قاصدا فالانس، حيث انفتحت أمامه أبواب البيوتات وأخذت الطبقة الراقية تستقبل بلطف وإعجاب هذا الضابط الشاب الذي يحمل في جيبه شهادة ليوتنان في فرقة المدفعية، ويقال: إنه عندما بلغ قمة مجده سنة 1807 وصله يوما من معلمة الرقص هذه الكلمة: «إن الذي قاد خطواتك الأولى في الصالونات يستنجد كرمك اليوم.»
ويشهد أحد المؤرخين أن فالانس واجتماعاتها كانت له مدرسة كبرى شحذ فيها غرار ذكائه وادخر ذلك الاختبار الواسع وهو الذي يصفه بقوله: كان صغيرا حليقا أصفر، بالغا من النحول حده الأقصى، ضيق الكتفين تحت ثوبه الحربي، تحيط برقبته ربطة معقدة، ويغطي أذنيه شعر رأسه المنبسط، وكان غائر الوجنتين، مطبق الشفتين، حاد النظر، قليل الكلام، وجيز العبارة، أجش الصوت، وكل ملامح وجهه تدل على العناد والعزم وكثرة التفكير وحب الانفراد والنفور من الناس.
وكان يشغل أوقات الفراغ بالقراءة والتأملات، وأحب المؤلفين إليه روسو الذي ترك أثرا في كل ما كتب من 1786 إلى 1793، ولكن كان لهذا الميل والحب حد فسيجيء يوم يقول فيه عن معبوده الفيلسوف: كان خيرا لفرنسا وراحتها ألا يولد هذا الرجل.
الفصل الثالث
فتوة نابوليون
اختلف المؤرخون في تاريخ اليوم الذي غادر فيه الضابط الشاب فالانس إلى ليون، فزعم بعضهم أنه أصيب في هذه المدينة بحمى ألزمته الفراش أياما، وكانت سببا في تعرفه بآنسة من جنيف اسمها أوجيه، وهي التي اهتمت به وأحاطته بعنايتها وعطفها حتى الشفاء، ولكن مفكرات نابوليون لا تذكر شيئا من هذا، بل فيها أنه ترك فالانس قاصدا أجاكسيو في سبتمبر سنة 1786 وعمره يومئذ 17 سنة.
ولدى وصوله ألفى عمه الأرشيدياك تضنيه آلام النقرس، وتبرح به، وقد أعيا داؤه أطباء الجزيرة، فرأى أن يكتب إلى الدكتور تيسو كما مر بك، والدكتور تيسو واسع الشهرة، وهو عضو في الجمعية الملكية وجمعية بال الطبية وجمعية برن الاقتصادية، فليس غريبا أن يتجه نابوليون بأفكاره إليه ويعلق آماله عليه، ولا نعلم أي تأثير ترك في نفس نابوليون إغفال هذا العالم الرد عليه على الرغم مما أولاه من ثناء وتمجيد.
ولشدة الداء امتنع عمه عن العمل بتاتا، فاضطر نابوليون أن يتسلم زمام الإدارة في البيت لأن شقيقه الأكبر كان على سفر إلى بيز، فلم يبق لنابوليون من سبيل إلى ترك أجاكسيو حينئذ، فكتب إلى وزير الحرب يسأله إجازة خمسة أشهر مع حفظ معاشه فأجابه إلى طلبه.
وقد يتعجب القارئ لهذا الغياب المتكرر من المدرسة، ولكنها عادة جرى عليها الجميع من الكولونيل إلى الماجور إلى الليوتنان، وهكذا كان نابوليون يروح ويجيء بين فرنسا وكورسيكا، محتجا بضعفه حينا واعتلال أمه حينا آخر.
अज्ञात पृष्ठ
مائدة وكرسيان وجدت في الغرفة التي كان يشغلها بونابرت في أوكسون حينما كان ليوتنان المدفعية.
وقد كانت أمه استفادت فيما مضى من حمامات جوانيو الواقعة في كورسيكا على مسافة ثلاثين كيلومترا من أجاكسيو، فرافقها ابنها إليها هذه المرة، وكانت جوانيو أو كوانيو عظيمة الشهرة لذلك العهد، يؤمها الناس من كل صوب، فيجتمع فيها زهاء ثلاثمائة بين مريض يرجو الشفاء ومتعب يطلب الراحة من هموم الأعمال أو عراك السياسة، وفائدتها الكبرى هي تسكين الأوجاع العصبية، تلك الأوجاع التي منيت أمه بها، وانتقل إليه شيء منها بالوراثة كما ورث عن أبيه استعداده المرضي، وقد كان يعلم أنه مدين بما فيه من الحالة العصبية لأمه خصوصا؛ ولهذا كان يقول عن نفسه: «رأس رجل على جسم امرأة.»
ولم يغادر نابوليون كورسيكا إلا في شهر أكتوبر سنة 1787، فوصل باريس في التاسع من نوفمبر، ونزل في أوتل شربورغ بشارع سنت أونوره.
ومن راجع مفكرات نابوليون وقرأ ما كتب بعنوان «أدوار حياتي» يجد هذه العبارة: «وصلت إلى أجاكسيو سنة 1786 في سبتمبر وتركتها سنة 1787 في سبتمبر، ثم عدت إليها في يناير وتركتها في يونيو إلى أوكسون.»
أما حياته في أوكسون فلم نعرفها إلا على وجه التقريب بعد البحث في مختلف ما كتب عنه، والظاهر أنه كان يسكن فيها مع أخيه الصغير لويس في الطابق الثالث من جناح الثكنة، وكانت غرفته مظلمة يدخلها الهواء من نافذة صغيرة، وهناك وجه كل همه إلى الرسم والرياضيات وعلم الفراسة، وكان له صديق اسمه دي مازيس يختلف في الأخلاق عنه كل الاختلاف، ومع ذلك فقد تمكنت بينهما أواصر الود فكانا يأكلان معا، ولضيق ذات اليد أراد نابوليون أن يعيش باللبن وحده مدعيا المرض، ففعل صديقه مثله وشاركهما في هذا النوع من الإضراب عن الطعام رفيق ثالث.
وكان من شروط هذا الاتفاق الثلاثي أن يؤلف كل بدوره قصة نثرية يقرؤها بعد الغداء، فعاشت القراءة بقدر ما عاش الاتفاق؛ لأن معدة نابوليون قصرت عن احتمال اللبن، بل إن هذا الحرمان أثر في صحته فاعتلت واضطر إلى ملازمة الفراش، ولم يدخل إلى المستشفى حينئذ؛ لأن النظام كان لا يسمح بالدخول إليه إلا لمن كان في خطر، وفضلا عن ذلك فإنه كان يعاف الأدوية ويأنف الخضوع لنظام المستشفى.
وكان طبيبه في تلك المدة الدكتور بيانفلو، فلما صار نابوليون قنصلا أول سنة 1802 واستعرض الجيش في ساحة مارس، كان بيانفلو لا يزال في وظيفته فعرفه نابوليون حالا وصاح به: أي بيانفلو، ألا تزال غريب الأطوار؟! فأجابه هذا: «ليس بالمقدار الذي أنت فيه من الغرابة أيها القنصل، الذي لا يعمل مثل سواه ولا يجد من يقلده»، والظاهر أن الجواب لم يغضب نابوليون فسمى الطبيب عضوا في جوقة الشرف وبقي في وظيفته إلى سنة 1815.
ما هو ذلك المرض الذي أصابه في أوكسون، وكم كانت مدته؟ ربما كان الحمى الراجعة الكثيرة الانتشار في تلك البلاد، والتي كان نابوليون معرضا لها، ولا يجهلها، كما نرى من كتابه لأمه إذ يقول: «صحتي الآن أحسن فأستطيع أن أحرر لك، إن المناخ هنا سيئ لوجود المستنقعات وفيضان النهر المتواصل الذي يملأ الحفر بماء آسن، وقد تعبت كثيرا لتعدد نوبات الحمى المنهكة، وأما الآن بعد أن صحا الجو وذاب الثلج وتبدد الضباب فإني أشعر بتحسن سريع.»
ولم تمنعه آلامه من متابعة دروسه، فكان يستيقظ الساعة الرابعة ويبدأ بالعمل، ولا يأكل إلا مرة واحدة في النهار نحو الساعة الثالثة، وبعد شهر من مرضه طلب أن يستريح فلم يرفض طلبه هذه المرة أيضا، فذهب إلى أجاكسيو وقصد إلى الاستشفاء بمياه أوريزيا الحديدية، ثم عاد إلى أوكسون مصطحبا معه أخاه الصغير لويس يرشده ويدربه ويعلمه الرياضيات والتاريخ.
وفي أبريل سنة 1791 رقي إلى رتبة ليوتنان أول في فرقة كرنوبل، فذهب إلى فالانس وأقام فيها زمنا، ومنها سافر إلى كورسيكا، ثم عاد إلى باريس والثورة في غليانها.
अज्ञात पृष्ठ
يقال: إن أخاه لويس دخل عليه يوما متأخرا عن عادته فلامه أخوه على كسله، فقال له معتذرا لقد كنت أحلم حلما جميلا وهو أني صرت ملكا، فقهقه نابوليون وقال: «أنت ملك؟! هذا يكون يوم أصير إمبراطورا»، ولم يدر في خلده أن تلك النبوة ستصدق.
ويقال أيضا: إنه مر في ساحة التويلري في يونيو سنة 1792 بين الهرج والمرج وازدحام الشعب المسلح الهاجم على القصر، وكان الراوي وهو أحد المحامين يحادث صديقا له عن الأحوال الحاضرة، فقاطعهما شاب مجهول أصفر اللون حاد النظر قوي الصوت وقال لهما: «لو كنت أنا الملك لما صار شيء من هذا أبدا» وعرفا فيما بعد أن هذا الشاب هو بونابرت.
وفي سنة 1793 أصابه في أفنيون مرض فامتنع عن العمل، ولكنه لم يمتنع عن الكتابة فألف عشاء بوكير
Souper de Baucaire
بإنشاء سهل مقبول يظهر من خلاله محبته للعلم والمطالعة وميله إلى التدقيق.
وبعد حين وطئت أقدام نابوليون أرض نيس وكانت الساعة تقترب، تلك الساعة التي سيمثل فيها على مسرح السياسة دوره العظيم.
ففي ليلة من ليالي أكتوبر سنة 1793 انتشر نبأ الخيانة وتسليم طولون للإنكليز، وكان نابوليون قائما بوظيفة في المدفعية قياما لا مأخذ فيه لطاعن، فأعجب به قائد الفرقة أيما إعجاب، وقد ذكر المؤرخون كيف دعي نابوليون بونابرت لقيادة الجنود التي عهد إليها استرجاع طولون.
من ذلك اليوم أخذ نجمه يلمع في الأفق! من ذلك اليوم تسلمه التاريخ تسلما أبديا! من ذلك اليوم ارتدى ثوب الخلود!
الفصل الرابع
نابوليون يتسلمه التاريخ
अज्ञात पृष्ठ
لم يكن استرجاع الفرنسويين مدينة طولون كافيا لتلفت الأنظار إلى نابوليون، نعم، إن هذا الحادث الخطير كان أول انتصاراته ومطلع مجده، إلا أنه لم يوطئ له مهاد الشهرة فبقي كما كان مجهولا، حتى إنه لم يرد لاسمه ذكر في التقرير الذي رفعه القائد ديجوميد إلى «ألكونفانسيون» ولا في المراسلات التي كانت على اتصال بين الضابط مارمون وأسرته على وجود مارمون معه في المدفعية ومرافقته له كل حين، وكل ما ورد بشأنه هو هذه الجملة في إحدى رسائل مارمون الأب: «من هو هذا الجنرال بونابرت؟ ومن أين أتى؟ لا علم لأحد به!» ذلك لأنه لم يكن معروفا حتى تلك الساعة، ثم أخذت الأقدار تساعده وتشق أمامه سبل الشهرة والمجد.
والحق أولى أن يقال، ليس في الناس من ساعد حظه على الظهور وخدم شهرته كنابوليون، فقد كان في طولون يقدم على الموت غير هياب ولا وجل، ويهجم في طليعة فرقته تحت رصاص العدو المنهمر كالسيل مدفوعا بحماسة الشباب وحدة المزاج، متنقلا من جهة إلى جهة، كأنه يحاول أن يكون في كل مكان، وكان من جراء هذه المجازفة بحياته أن قتل تحته جواد وأصابته طعنة حربة في فخذه سببت له جرحا بالغا كاد يقضي بقطع ساقه، ذلك ما جعله يقول وهو في السفينة التي كانت تقله إلى جزيرة القديسة هيلانة: إن أول من جرحه كان إنكليزيا.
نابوليون يتفقد المصابين بالحرب في يافا (نقلا عن صورة للمصور جرو).
وقد أصابه في الجيش داء الجرب المنتشر يومئذ انتشارا هائلا، فكانت النتيجة أن ظهر فيه مرض جلدي نسميه - نحن الأطباء - إكزيما، واستعصى عليه شفاؤه، وكان سبب الجرب لذلك العهد مجهولا، فلم يكن أحد يجسر على معالجة الطفح الناتج عنه خوفا من أن يغور في الجسم ويسبب علة أخرى أشد وطأة وأصعب علاجا، وهذا ما يفسر لك كيف أنه عندما جاء مصر وظهرت فيه لأول مرة أعراض الداء في معدته لم يجد الأطباء خيرا من أن يلفوه بثوب مريض بالجرب ظنا منهم بل اعتقادا أن إرجاع البثور إلى جلده هو أفضل واسطة لتحويل الألم عن معدته.
وكان الأطباء يعتقدون فائدة التطعيم بالجرب حتى إن أحد النورمانديين المشهورين ادعى شفاء السل به، وغيره شفاء الصرع، وبقيت هذه الطريقة الوحشية يتخذها الطب سلاحا إلى أن عرف أصل الجرب وماهيته.
ولبث نابوليون زمنا طويلا متأثرا بذلك الداء، حكى الدكتور أنتومارشي طبيبه في منفاه أنه رآه مرة هائجا مضطربا فأشار عليه ببعض المسكنات فأجابه الإمبراطور: «أشكرك، ولكن عندي ما هو أفضل من عقاقيرك، وأرى الساعة قد دنت، والطبيعة تمد يدها لمساعدتي»، قال هذا وانطرح على المقعد، وقبض على فخذه الأيسر وأعمل يده في الجرح فانفتح وسال الدم ثم قال: «ها أنا ذا قد استرحت، ألم أقل لك: إن لي نوبات كلما آن أوانها جلبت الراحة لجسمي»، وكان بعد أن يسيل الدم ويجف الجرح ويندمل يقول للطبيب: «أرأيت كيف أن الطبيعة تتكفل بكل ما يلزم فترجع التوازن إلى الجسم كلما أفلت منه؟!»
الدكتور دجنت (نقلا عن رسم لدوترتر).
قال أنتومارشي: فحيرني هذا الحادث ودفعني الفضول إلى درسه، فتبين لي بعد البحث أنه قديم يتكرر آونة بعد أخرى، ويرجع تاريخه إلى حصار طولون.
ولما هوى روبسبير كان نابوليون في حالة شديدة من التعب والضعف، فذهب إلى ذويه على مقربة من أنتيب طلبا للراحة، وهنالك لم ير بدا من دعوة طبيب لمعالجته، فجاءه الدكتور دجنت وكان موضع ثقته واحترامه، إلا أنه تمادى معه في الجدل فغير رأيه فيه ولم يرد أن يستعمل الدواء الذي أشار عليه به، وربما كان هذا الإهمال سبب التمادي في ضرره.
أما معرفته بالدكتور دجنت فيرجع عهدها إلى نيس عندما كان الضباط يجتمعون في مخازن الأزياء حول بعض البائعات الجميلات، وكان بونابرت في عدادهم على أنه لم يكن يريد إلا المحادثة فقط، ولا يخرج دون أن يشتري شيئا ولو زهيدا، وكان معروفا منذ ذلك الحين ببروده، ولكن الأيام والضعف قد أضافا إلى ذلك معايب أخرى، فكان في الزمن الأخير أيام اجتماعه بالطبيب لمعالجته قبيح المنظر، قليل العناية بذاته، هزيلا، أصفر اللون، محدودب الظهر، كما روت الدوقة دبرانتس.
अज्ञात पृष्ठ
وإليك صورة من نابوليون وهو في السادسة والعشرين، كما رسمها لنا ستاندل:
كان أغرب رجل عرفته في حياتي، وأشد الناس هزالا، وكانت ثيابه رثة خلقة، حتى لا يكاد الناظر إليه يصدق أنه جنرال، ولكنه كان جميل النظر، فتان اللحظ، ممتلئا حياة حين يتكلم، ولولا نحوله البالغ حده الأقصى لاجتذب الأنظار ما فيه من رقيق الملامح وجميل الابتسام.
أما شجاعته فلم يكن سبيل للشك فيها.
وفي إحدى التظاهرات كان نابوليون الجنرال يسير على جواده وهو حديث العهد بالإبلال، فأحاطت به عصبة من النساء بين العويل والوعيد يطلبن خبزا، وتقدمت إليه منهن واحدة بدينة وهي تصيح: «ألا إن هؤلاء الرجال يهزءون بنا، ولا يهمهم مات الشعب أو عاش إذا ملئوا بطونهم وسمنوا هم»، فأجابها نابوليون بلطف: «انظري يا سيدتي، من منا نحن الاثنين أكثر سمنا؟!» وكان في ذلك اليوم شديد النحول، كثير الاصفرار، غائر العينين.
نابوليون على جمله في مصر.
وفي 8 مارس سنة 1796 تزوج من أرملة بومارشه، وفي 21 منه ذهب لتسلم قيادة جيش إيطاليا، وبقيت صحته في اعتلال، كما يظهر من رسائله إلى زوجته جوزفين، فقدم استعفاءه في سبتمبر.
ومن 10 سبتمبر سنة 1797 إلى 11 مايو سنة 1798 أي مدة إقامته في باريس قبل الرحيل إلى مصر أخذ يشعر بالتحسن والعافية.
ولكن زوجته جوزفين كانت قلقة عليه، فاجتمعت في إحدى السهرات عند باراس بالطبيب كورفيزار، وسألته رأيه في الداء الذي يمكن أن يخاف منه على صحة الجنرال، فأجابها على الفور إنه سيموت بالقلب وسمع نابوليون ذلك فالتفت إلى كورفيزار وقال: «وهل كتبت في ذلك كتابا؟» - كلا، غير أني عن قريب سأفعل. - اكتب إذن، اكتب، ومتى أتيحت لنا فرصة تكلمنا معا عنه.
أما الكتاب فلم يظهر إلا بعد سنين، ولم يقدمه كورفيزار إلى الإمبراطور إلا بعد الطبعة الثانية، وقد صدره بهذه الكلمات:
إلى جلالة الملك والإمبراطور:
अज्ञात पृष्ठ
إن سماح جلالتك لي أن أقدم لها هذه الطبعة الثانية من كتابي لهو أحسن مكافأة لعملي الحقير، ولقد كان من الصعب قبلا أن يقدم مؤلف كتابه إلى ملك ولا يبالغ في عبارات المدح، أما اليوم فالمبالغة نفسها قاصرة عن أن تفي بمدح نابوليون.
ولكن يا مولاي، إذا كان العقل يدعوني إلى السكوت فالعواطف تأمرني أن أذيع على رءوس الأشهاد مآثرك وعرفاني الجميل.
وكان كورفيزار يوم ألقى عليه الإمبراطور نظرة الرضا شهيرا يشغل مكان الطبيب الأول في مستشفى الرحمة، والذي أعجبه منه بوجه خاص هو حسن التشخيص وبراعته التي لم يدانه فيها أحد.
الدكتور كورفيزار.
ثم جاء نابوليون مصر وسوريا، فلم يفعل فيه الحر ولا تعب السفر ، بل احتملت بنيته الضعيفة كل هذا فوق ما كان معرضا له من العدوى بالطاعون لاختلاطه بالمرضى وملامسته لهم.
وقد جرى جدال في إحدى جلسات المجمع العلمي في مصر عن عدوى الطاعون بين الجنرال والطبيب دجنت، فأبى هذا أن يوافق نابوليون على إنكار العدوى، وما كان نابوليون ينكرها عن جهل، بل إبعادا للخوف عن الجيش، فصاح به من الغضب: «تلك هي مبادئكم أيها الأطباء والصيادلة، تفضلون أن يموت جيش بأسره عن أن تضحوا بواحد منها.»
وأحسن وصف له بعد رجوعه عن مصر هو ما كتبه عنه خادمه الذي أقام معه 15 سنة، فقد ذكر أن الإمبراطور كان أصفر نحيلا نحاسي اللون، غائر العينين، مكشوف الجبين، قليل شعر الرأس، إلا أن جمال الزرقة في عينيه كان يعكس عواطف نفسه الحساسة في قساوة وحنو وشدة ولين، وكان فمه حسنا، وأسنانه بيضاء سليمة، وأنفه جميلا يوناني الشكل، أما رأسه فكان ضخما محيطه 22 بوصة مسطحا من الجانبين، شديد التأثر والإحساس، مما كان يضطره أن يضع في قبعته الجديدة قطنا ويكلف خادمه لبسها مرارا قبله حتى تلين، صغير الأذنين، قصير العنق، ضيق الكتفين، عريض الصدر على ندرة الشعر فيه، مفتول الساعدين والساقين، قامته خمس أقدام وبوصتان.
وقد ذهب نحوله فيما بعد دون أن يذهب بجماله، بل كان ملكا أجمل منه قنصلا، كأن الهموم والأطماع والشواغل التي أنهكت بونابرت قد تضاءلت وارتدت أمام نابوليون بعد أن بسم له الزمان وخضعت له دول الأرض وشعوبها.
الفصل الخامس
18 برومير
अज्ञात पृष्ठ
إن تفاصيل هذا النهار المشهور قد عرفت لكثرة من كتب عنها، ولكن ثمة أشياء لم تعرف، وهي تمثل لنا الفصل الأول من هذه الرواية، وقد ذكر بعضها المستشار كوندر قال: رأيته في التويلري فوق جواده الأشهب وهو يقصد إلى سان كلود، وكان وجهه طويلا نحيلا أصفر، وشعره الأملس مقصوصا إلى فوق الأذن، وعلى رأسه قبعة صغيرة، وقد ذكر بعضها الآخر ألبر فاندال قال: خرج بونابرت من موكبه ودخل بين الجماهير وحده مكشوف الرأس، ودنا من المنبر فعلا الضجيج والصياح: ليسقط الدكتاتور ، ليسقط الظالم. ونهض الجمع بأسره مظهرا غضبه على الرجل الوقح الذي جاء بسلاحه وحذائه يخرق حرمة ذلك المعهد كأنه قيصر الرومان.
وفي أسرع من لمح البصر كانت الجماهير قد التفت من حول الجنرال، هذا يشتم، وهذا يتوعد، وهذا يمد يده إليه ويمسكه من عنقه ويهزه بعنف، فلم يقو هذا الرجل العصبي المزاج الشديد التأثر الذي كان يتجافى الجمهور وينفر من الازدحام على احتمال هذا الثقل الذي انحط عليه، لم يقو على ملامسة هذه الأيدي المتوحشة واستنشاق هذه الأنفاس الخارجة بالشتيمة من أفواههم والهواء الساخن المختلط بتلك الأنفاس، فأحس بضعف وانقباض صدر وغشاوة بصر وأغمي عليه.
كم من الزمن شغلت غيبوبته؟! كان من عادة الغضب عند نابوليون أن يرجع إليه التوازن المفقود شيئا فشيئا، فلما عاد وعيه أخذ يشتم المجمع ويشكو من اعتداء الناس عليه، ويصرخ «يا للقتلة!» وهو على جواده بين جيئة وذهاب، وقد خدش وجهه المصفر بأظافره من الغضب حتى سال الدم، وذاع أن نابوليون مجروح في جبينه، وبفضل هذا الجرح رجحت في جانبه كفة الميزان، فكفى أخاه لوسيان أن يدل الجماهير عليه وعلى الدم المتجمد على وجهه بصوت وحركات لا يفرق فيها عن أبرع الممثلين؛ ليصل إلى قلوبهم ويخفف من حدتهم وغضبهم.
ولم تفده «القنصلية» في تحسين صحته، بل ظل كالأول هزيلا أصفر، ولكن نظره الساحر كان يدل على فكرة وقادة وتبصر غريب، وقد وصفه أحد الإنكليز بقوله: كانت ملامحه تدل على السوداء والتفكير العميق، وقلما كانت تعرف شفتاه الجميلتان الابتسام، أما عيناه فكانتا متقدتين كجذوة من نار، وصوته عميقا كأنه خارج من القبور.
وقال فيه الشاعر روجر: إن اصفراره كان اصفرار الموت، واتفاق الجميع على ذكر اصفراره دليل على ما كان عليه من المزاج الصفراوي، فهو يدخل في تلك الفئة التي يسميها اليوم الأستاذ جلبر الأسرة الصفراوية.
وإذا كان التشخيص على ما يقدمه لنا الوصف شيئا لا يخلو من الجسارة، فإنه هنا سهل لاتفاق الكل على نقطة معينة، ولا سيما لأن ذلك كان قبل الزمن الذي ارتقى فيه نابوليون ذروة المجد، فصار في عين الأمم، كما قال فريدريك ماسون: أبعد من أن تناله عاديات الزمن والحياة والشيخوخة.
قال الشاعر ألفرد ده فيني: بونابرت الرجل ونابوليون الوظيفة، الأول يلبس قبعة والثاني تاجا.
ولكن هذا النحول الذي رافقه في الأدوار الأولى من حياته سيتبدل مع الزمن، فينتفخ الوجه والبدن ويخف شعر الرأس ويحول اسوداده ويصير كما قال عنه أحد التجار الألمان وقد التقى به في جزيرة ألبا: «إني عرفت هذا الرجل قديما، فلما رأيته اليوم كدت لا أعرفه، نعم، إنه لم يعد ذلك الرجل، إذا نظرنا إليه الوجهة الطبية»، وهذا ما سنظهره في الفصول الآتية.
الفصل السادس
اجتماع نابوليون بكورفيزار
अज्ञात पृष्ठ
إن اجتياز جبل سان برنارد سنة 1800 كان حادثا عظيما في التاريخ، ولا نحاول هنا إعادة ما قيل، ولا نقل المعروف عن كتب التاريخ، بل نتلمس الحقيقة كعادتنا في مظانها الحقيرة الصادقة، فنروي للقراء ما عثرنا عليه مما لا يزال أكثره مجهولا، فقد جاء في مذكرات الدليل الذي رافق البطل في هذه الحملة ما يأتي: الفرق عظيم بين الجنرال فيكتور والقنصل، فالأول كان شديدا عاتيا قليل الصبر، لم أجد في رفقته إلا الخوف، فكلما عثر بغلي تحته كان «يهول» علي بالكرباج أو بالسيف، على أنه كان جميل الطلعة، حسن الهندام، أما بونابرت فكان هزيلا شاحبا، وبياض عينيه كقشرة الليمون (ملاحظة خليقة بطبيب!) وكان قليل الكلام، حزين النفس، يكثر من التلفت وراءه ليتحقق من تقدم الجيش الزاحف.
وذكر إنكليزي رآه بعد سنتين من هذا التاريخ وهو يستعرض الجيش في التويلري: إن ملامحه كانت تدل على التعب والسوداء قال: «ما كادت المركبات تصطف في أماكنها وتقف فرق الخيالة والمشاة أمام القصر، حتى أطلق المدفع فشاهدنا رجلا صغيرا يقفز بخفة لا مثيل لها فوق جواد أبيض، وينطلق مسرعا بين الصفوف يتبعه القواد والضباط، أما الجواد فكان اسمه مارانكو، وأما الراكب فنابوليون بونابرت القنصل الأول.»
الإمبراطورة ماري لويز.
وكان مرتديا سترة زرقاء ذات حواش بيضاء، ولابسا قبعة صغيرة عليها شريط مثلث الألوان.
أما وجهه فلا ريشة المصور ولا قلم الكاتب يقدران أن يأتيا بالحقيقة عنه، فإن لونه كان أصفر قاتما، وعيناه غائرتين في رأسه، ولهما زرقة ضاربة إلى السواد، ونظر أحد من السهام.
وكانت شفتاه جميلتين تعلوهما من آن لآن ابتسامة حلوة ساحرة، إلا أنها نادرة وكثيرا ما خلفتها عبوسة مخيفة لأدنى سبب؛ لأن نابوليون لم يكن يطيق المعارضة.
وكان يطعن في الأطباء ويستهزئ بهم إلى أن أصابه داء في صدره، فشفاه كورفيزار وجعله يغير اعتقاده، فصار كما يقول هو نفسه: يثق بالطبيب دون الطب. وهذه عبارة لا معنى لها؛ لأن الطبيب هو بطبه قبل كل شيء، ولكنها من تناقضات نابوليون الكثيرة.
ومن تناقضاته أيضا في مسائل الطب والفسيولوجيا تعريفه الموت بأنه فقدان الإرادة، وكان يقدم برهانا على صحة رأيه الحادثة الآتية:
جمح به مرة جواد المركبة في سان كلود، فوقع منها على صخر وأصابت الصدمة معدته، فآلمته كثيرا، فلما كان الغد وقد استرجع قواه قال لمن حوله: «أمس أتممت اختباري عن الإرادة، فإن الضربة التي أصابتني في معدتي كانت شديدة، حتى خيل لي أن الحياة أخذت تفارقني، ولكن بقي لي متسع من الوقت لأفتكر وأقول: لا أريد أن أموت، ففزت وبقيت حيا، ولو كان سواي في مكاني لما عاش بعدها.»
وسواء أكان صادقا فيما رواه عن نفسه أم غير صادق، فإنه لم يظهر مثل هذه الشجاعة في أحوال غيرها كانت تتطلبها، فقد قيل إنه كان يتنزه مرة في النهر مع بعض حاشيته، فانقلب بهم القارب وسقط الجنرال برنيار في الماء، فأخذ منه الرعب مأخذه وأغمي عليه، ولم يذع هذا النبأ، بل بقي سرا من أسرار الدولة.
अज्ञात पृष्ठ
وكان في بروكسل سنة 1803 يوم أصابته علة الصدر وبصق دما، فبعث في الحال من جاءه بكورفيزار الذي لم تخف على ذكائه أسباب الداء، ولكنه أبى أن يخيف مريضه بذكر تشخيصه، واكتفى بالقول: إنه فساد في الدم يمكن إخراجه بوضع محرقة على الصدر، وقد استفاد نابوليون من علاج الطبيب فوقف بصق الدم، وخف السعال، وزال ضيق الصدر، فصار كورفيزار منذ ذلك الحين طبيبه الخاص، وموضع ثقته المغمور بالمكافآت.
وقد أحجم كثيرا قبل دعوة كورفيزار، ولولا إلحاح كاتم سره لما فعل، وقد قص هذا الأخير كيف تم ذلك، فإنه كان في مالميزون يشتغل إلى جانب بونابرت فلاحظ غير مرة أن سيده كان يصفر فجأة عند انتصاف الليل، وينحني على الكرسي ويفك أزرار صدرته ويتنهد تنهدا أليما، فيقوم ويرافقه إلى غرفة النوم وهو مستند إلى ذراعه، وقد مضى ستة أشهر على هذه الحالة، وكلما فاتح سكرتيره بأمر التداوي ومن يختار طبيبا كان الجواب كورفيزار.
ومن تأبين ديبواترن الذي لفظه على قبر زميله نرى أن الصفات التي فتحت لكورفيزار طريقا إلى قلب نابوليون كانت سرعة الخاطر، والتدقيق، وحرية الفكر، وقد استطاع الطبيب أن يحفظ كرامته أمام الرجل الذي لم يترك لأحد كرامته، وقد قيل إنه وهو سائر إلى مالميزون كان يردد في نفسه: «لا أعلم أي ربح أجنيه من هذه الزيارة، ولكني متأكد أنني سأخسر حريتي»، ولقد أخطأ ظنه؛ فإنه لم يكن أبدا عبدا لذلك السيد الذي كان يسامحه على الكثير إكراما لعلمه وإخلاصه.
والذي وافق نابوليون بوجه خاص أن كورفيزار كان يتكل على الطبيعة أكثر مما يتكل على الأدوية، ولا سيما لأن الطب في نظر نابوليون كان علم احتياط لا علم تدقيق، وكان يعترف بفائدة الهيجين أي علم الصحة، وله فيه آراء خاصة.
وكان يستيقظ مبكرا فيأمر حالا بتجديد هواء الغرفة، ثم يتناول كأسا من الشاي أو ماء زهر الليمون ويسرع بالحلاقة لنفسه، وقد اضطر إلى هذه العادة لأنه لم يجد بين المزينين من يستطيع أن يقوم بهذه المهمة نظرا لما كان عليه من ضيق الصدر وقلة الصبر، فكانت تساوره حركات عصبية لا يأمن معها المزين من أن يجرحه مرارا، ومن الغريب أنه لم يكن يستعمل إلا صابونا إنكليزيا وموسى إنكليزية، ويتعجب من إمكان الحلاقة بغيرهما، وقد اشتهر بالصرامة في معاقبة التهريب حتى إنه كان يحرق كل سنة ما يساوي الألوف من البضائع الإنكليزية المهربة، ولكنه رضي لنفسه بالشذوذ حتى إنه كان يدفع ثمن الموسى جنيهين وهي تساوي ربع القيمة.
وكان مملوكه رستم يمسك له المرآة أثناء الحلاقة، حتى إذا انتهى وآن أوان الاستحمام بالماء الساخن، لبث في الحمام زمنا طويلا يسمع في خلاله من سكرتيره قراءة الجرائد والتلغرافات، وقد يطول الوقت نحو الساعتين غير مبال بإذن الطبيب فاتحا حنفية الماء الساخن إلى أن يتصاعد البخار ويملأ الغرفة، ويحول دون القراءة، فيضطر السكرتير إلى فتح الباب، وكان ولعه بالاستحمام شديدا إلى درجة أنه يستيقظ أحيانا في نصف الليل فينهض حالا إلى الماء، ومن أجل هذا كان يعد له الحمام أين ذهب دون نظر للمكان ولا الزمان، ولما ولدت ماري لويز جاءته البشرى وهو في الحمام.
وكان من نتائج هذه المغاطس الساخنة المتكررة أن سمن بدنه شيئا فشيئا، ولكن ذلك لم يمنعه عن المثابرة عليها لاعتقاده أنها تخفف عنه عسر البول الذي شعر به لأول مرة في حملة إيطاليا، وما برح يزداد حتى اشتدت عليه النوبة سنة 1812، كما أنها تقيه شر الإمساك المزمن الذي رافقه منذ الصغر.
وبعد خروجه من الماء كان يفرك بدنه بفرشاة قاسية، ثم يسكب عليه ماء الكولونيا بغزارة، وقد استفاد عادة الفرك هذه من الشرق، ولها عنده منافع جلى.
وكان يدعي أن السر في صحته ومقدرته على احتمال التعب هو إفراطه من آن إلى آن في عكس ما تعود عليه، فكان مثلا يستريح 24 ساعة، أو يمشي ستين ميلا، أو يركض على جواده طول النهار، كما كان يفعل في جزيرة ألب، كأن التعب ضروري لبنيته ولهذا كان يرجع من فتوحاته وحروبه وهو أوفر سمنا وأقوى صحة.
ولا يخفى على الناقد البصير ما في قوله هذا من الحقيقة، فإن الرياضة البدنية تساعد على إفراز الغدد الجلدية وإخراج الفضلات والسموم، ولا سيما في الأجسام المصابة بالأرترتيسم، ذلك ما كان يحمل نابوليون على القول وهو في جزيرة القديسة هيلانة قبل موته بثلاثة أشهر: «آه! لو كان في الإمكان أن أعرق! وأن ينفتح جرحي! فشفائي من وراء ذلك.»
अज्ञात पृष्ठ