الفصل الأول
لهفة فؤاد
لي صديق طبيب قص علي قصة تصور للقارئ الاعتساف الذي ذكر آنفا أجلى تصوير، فآثر أن أرويها عبرة للقراء في الشرق لعلهم ينصفون المرأة من الرجل، أو يعدلون بينهما، وينصرفون عن الكلام فيها إلى الكلام فيه، فحسبنا وحسب المرأة ما كتب عنها وشكي منها إلى الآن، فقد آن أن يكون الرجل موضوع الشكوى والتذمر، وقد اتخذت لأشخاص الحكاية أسماء أجنبية دفعا للمظان والشبهات.
قال صديقي الطبيب: في ذات يوم من أيام الربيع انتهيت من عيادة مرضاي بعد الظهر، فلما رجعت إلى منزلي وجدت شابا ينتظرني، وهو في شرخ الشباب يناهز الخامسة والعشرين، طويل القامة قليلا ممتلئ الجسم غير بدين جميل الطلعة، يكاد يتوهج لهيب الذكاء من مقلتيه ويرتسم فؤاده على محياه، رأيته يتمشى في القاعة مضطربا، فلا تكاد قدماه تستقران على الأرض وقد غشي وجهه اكفهرار الجزع والقلق، فما دخلت عليه حتى ابتدرني بالتحية متكلفا الابتسام وجلسنا، وقال: أظن أن الدكتور بوشه هو من أتشرف بمجالسته الآن. - نعم، يا سيدي أتشرف بمعرفة حضرتك. - موريس كاسيه. - على الرحب والسعة. - أتأذن يا مولاي أن أستفهمك عن أمر. - أجيبك يا سيدي على أسئلتك كل جواب أستطيعه. - أشكر فضلك جدا وأرجو أن تسامحني على كل سؤال يعز عليك أن تجيبني عليه، فقد أسألك ما لا يجوز أن أسأله. - عسى أني أستطيع إطلاعك على كل ما تشاء. - تعالج المدموازيل إيفون مونار؟ - نعم. - أي مرض تعاني هذه السيدة؟ - علة قلبية. - هل من خطر على حياتها؟
وقد توسمت في لهجة تساؤله منتهى القلق والاضطراب، فأشفقت أن أطلعه على الحقيقة صريحة فقلت له: حياتها في يد الله على أني أؤمل شفاءها.
فازداد امتقاع وجهه وقال: إذن هي على شفا الخطر؟ - كلا، على أني لا أنكر عليك أن العلة القلبية قد استحكمت فيها، ومع ذلك فإني شديد الأمل بشفائها إذا تلطفت انفعالاتها النفسانية التي تهيج أعصابها، وتستكد قلبها الضعيف. - هذا ما أتخوف منه؛ لأني أعرفها شديدة الانفعال، فهل تظن أن المنية أقرب إليها من السلامة؟ - لا سمح الله. - لا تؤاخذني يا دكتور بوشه، أتعتقد أن العلاج ينجع فيها؟ - نعم أعتقد. - إذن تؤمل أنها تشفى؟ - نعم بإذن الله. - هل ترى أن خادمتها تقدر أن تمرضها التمريض الواجب؟ - كذا أرى، وقد ظهر لي أنها تحبها جدا، وتعنى بها بكل غيرة وإخلاص. - ما أطيبك يا فانتين!
وكنت إذ ذاك أرى سحابة الكآبة تنقشع شيئا فشيئا عن محياه، وألاحظ أن سورة اضطرابه تسكن تدريجا، وقد سري عنه قليلا، وبعد هنيهة تكلم بصوت خافت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد خارج القاعة: هل لاحظت أنها في حاجة إلى شيء؟ - لا أدري شيئا من دخائلها.
فوجم عن الكلام هنيهة، وعيناه تفحصان الأرض أمامه ثم نظر إلي، وقال بلهجة المتضرع: مولاي أتجرئني على أن التمس منك فضلا عظيما؟ - أخدمك يا سيدي كل خدمة أستطيعها. - أشكر فضلك، هل لك أن تتحرى ما إذا كانت إيفون في حاجة إلى شيء فتخبرني؟ - لا أدخر وسعا في ذلك. - أتوسل إليك أيضا أن تبذل جهدك في معالجتها، وتلازمها ما استطعت، فإذا عجزت عن مكافأتك أوفيك حياتي. - إني مفرغ كل عنايتي في هذه العليلة؛ لأني تأثرت من حالها وحسبي شفاؤها أجرا عظيما. - إن هذا لطف عظيم يا دكتور بوشه، بقي أمر آخر أرجوه منك، فاعذرني على هذه الأثقال التي أحملك إياها.
وكانت لهجة الالتماس التي خاطبني بها موريس تفتت الفؤاد لما فيها من التخشع والتأثر، فأشفقت عليه جدا وتمنيت أن أواسيه فقلت: مر ما تشاء فإني أتمنى أن أستطيع خدمة لك. - أتسمح لي أن أزورك كل يوم لأسمع أخبار المدموازيل إيفون؟ - المنزل منزلك يا سيدي، على الرحب والسعة كل حين.
عند ذلك دخل الخادم بالقهوة، وتناول موريس فنجانا ورأيت أنه يكاد يغص في كل نهلة منه، وشعرت أنه يترشفه مرغما بحكم آداب المجاملة، ويتمنى لو أعفي منه فقلت: - أراك يا مولاي في منتهى التأثر، فإن كانت القهوة لا تلذ لك الآن، فلا بأس من أن تتركها.
अज्ञात पृष्ठ