ولكن المؤلف المبتدع لا يبني على الهواء أو يفكر في الخواء؛ ذلك لأنه يعيش في مجتمع معين يكسب منه عواطفه ويتجه اتجاهاته، فإذا كان ذكيا تبلورت فيه بعض الاتجاهات البازغة، فصار يمايز بينها ويختار أحسنها، فيدفعها بتفكيره، ويزيدها بيانا وقوة حتى تتغلب على غيرها من الاتجاهات، وهو بهذه المثابة يتفاعل مع مجتمعه، فينشأ على أوضاعه ثم يعود فيحاول نشأة جديدة له؛ أي للمجتمع.
وهناك كتب قد غيرت نفوسنا كما لو كانت ديانات جديدة، بل إن الاختلاف بشأن نظرياتها يشبه إلى حد كبير الاختلاف الديني، فإن المختلفين على كتب نيتشه في مذهب القوة يحتدون ويتعصبون، وكتاب داروين عن أصل الأنواع لا يزال يحدث مصادمات ذهنية بين التقليديين والابتداعيين، فهو كفر مظلم عند أولئك، وهو رؤيا مثيرة عند هؤلاء. وإني واحد من أولئك الذين تغيروا بنظرية داروين ... لأن التطور عندي مذهب سام، قدس نفسي وغيرني ووجهني. وهو ليس عندي تفكيرا فحسب، وإنما هو إحساس وعاطفة وحب وروحية.
فقد كان سبينوزا يقول بالوحدة الوجودية على نحو من المذاهب الصوفية الشرقية، ولكنه في ذلك لم يستطع سوى إيجاد الفكرة والفلسفة؛ إذ لم يكن هناك من الأدلة المادية الحسية ما يثبت قوله. أما نظرية التطور فإنها قد غلفت عقولنا ثم استقرت في عواطفنا، فهي إحساس وشهوة تنبض بهما عروقنا وتخفق بهما قلوبنا، وإني حين أقعد تحت ظل شجرة خضراء وأستسلم للأفكار الخضراء أحس بدافع من هذه النظرية، بتلك الوحدة الوجودية حتى لأقول كما كان يقول ذلك القديس المسيحي: أخي الطير وأخي الشجر وأخي الوحش. بل أحس كأني أريد أن أنكب على الأرض كما كان يفعل «اليوشا» في قصة «الإخوة» لدستوفسكي ... هذه الأرض الطيبة، هذه الأم القديمة.
وهذا كتاب واحد من عشرات الكتب التي غيرتني. ولم يقتصر التغيير على العقل، إذ قد تجاوزه إلى النفس، فتغيرت رؤياي للدنيا وتغيرت نفسي ومزاجي وعاطفتي. وهو تغيير يحسبه الجاهل كفرا وأحسبه أنا إيمانا.
وهناك كما قلت عشرات من الكتب البذرية التي تنمو وتتفرع وتتوالد في كثرة لم يكن يتوقعها حتى مؤلفها.
اعتبر الفكرة البذرية في أحد مؤلفات برنارد شو، وهي أن البشر يجب أن يهدفوا إلى استنتاج السبرمان الذي سوف يتفوق علينا ذهنا وروحا وجسما بمقدار ما نتفوق نحن على القردة. ما أطيبها من فكرة وما أبرها من مذهب! إنها مذهب من أرقى المذاهب البشرية الجديدة.
أو اعتبر الفكرة البذرية في كتاب أينشتين، هذا الكون الدائري، وهذه الطاقة الذرية، وهذه المادة التي تذوب في الطاقة، وهذه الطاقة التي تتكاثف إلى المادة.
بل اعتبر هذه القوة الجديدة في هذا العلم الجديد: «علم الطاقة الذرية»؛ فإن المفكرين الذين أحزنهم وهد ضمائرهم إلى إلقاء القنبلة على هيروشيما يسمعون الآن في طرب محاولة الروس نقل المياه التي تذهب عبثا وخسارة إلى المحيط القطبي الشمالي إلى بحر قزوين المتاخم لإيران حيث تروي خمسة ملايين فدان تستحيل من صحراء قاحلة كالحة إلى أرض نضرة تبتسم بالخيرات.
وكل هذا من أثر الكتب. إنها لكتب مقدسة هذه التي تغير الدنيا وتغير اللفتة البشرية، كتب داروين، ولا مارك، وأينشتين، وتولستوي، وبرناردشو، وغاندي وأمثالهم من الذين يرسمون لنا خطوات الفهم والشرف نحو المستقبل. والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين، وأكل وهضم من موائدهم. يبصق بصقة الاحتقار على دعاة الرجعية من الكتاب التافهين.
والذهن الذي تربى على هؤلاء المؤلفين وأمثالهم لا يستطيع أن يتسامح في جريمة القتل أو الفسق أو البطش أو الخيانة. ولكنه يعرف أن هناك جريمة تعلو على جميع هذه الجرائم في الخسة والنذالة والحقارة والخيانة، هي الحجر على الذهن البشري ومنعه من التطور بتعيين الكتب التي لا تقرأ ... هذه هي الخيانة الكبرى للإنسانية.
अज्ञात पृष्ठ