ويجب أن أقول إن هذه الحال قد تغيرت في أيامنا هذه، فإن نحو عشرين مليون امرأة يحترفن الحرف التجارية والصناعية والمكتبية كالرجل سواء في الولايات المتحدة، وليس هناك شك في أنهن قد كسبن الشخصية التي أشارت إليها إديث ليز، ولم تعم هذه الحالة الجديدة لدعوة نسوية، وإنما لأن هناك قوات اقتصادية جديدة دعت إليها، هي - قبل كل شيء - هاتان الحربان الكبيرتان؛ لأنهما لما جندتا للجيوش والمصانع الكثير من الرجال أكرهتا المجتمع الأمريكي، بل المجتمعات الأوروبية أيضا على استخدام المرأة في المصانع والمتاجر والمكاتب.
ومما زاد هذا الاتجاه قوة أن واجبات المنزل قد اختصرت بالمخترعات الجديدة، فإن الطبخ بالضغط وبالكهرباء قد جعل تهيئة الطعام عملا لا يتجاوز دقائق بينما كان يستغرق الساعات قبل خمسين أو ستين سنة والكنس الكهربائي، وكذلك الغسل الكهربائي، قد أصبحا في ميسور أفقر العائلات الأمريكية والأوروبية الغربية، بل إن التليفون قد أخذ مكان الخادم. وإذا كانت المرأة الأوروبية أو الأمريكية كانت تجد في المنزل ما يشغلها طوال نهارها قبل خمسين سنة، فهي لا تجد فيه ما يشغلها نصف ساعة في اليوم كله، فهي من ناحية تجد أن الأعمال العامة خارج البيت تناديها وتقدم لها المرتب الحسن في المتاجر والمصانع والمكاتب، ومن ناحية أخرى لم تعد تجد في البيت ما يغريها بالبقاء فيه أو يضطرها إليه.
فهذا الذي أبصرت به إديث ليز قبل نحو ستين سنة قد تحقق في أيامنا، ولا بد أنها قد بصرت بهذه القوات الاقتصادية التي كانت تعمل في الخفاء، وتسري في المجتمع، وتنقل المرأة من المنزل إلى المصنع. وهي في دعوتها إنما كانت تعبر عن هذه القوات، أو عن بوادرها الخفية كما كانت تحسها وتتوقع نموها.
كانت إديث ليز قبل نحو خمسين سنة تحلم بما تم في أيامنا من الوعود الاقتصادية التي حققت استقلال المرأة وكونت شخصيتها، وكانت آراؤها تغري أمثال هافلوك إليس بحبها والتعلق بها وقد تعارفا، وبقيا مدة غير قصيرة وهما يتعاونان في الدراسة ويتبادلان في عطف هذه الآراء التجديدية التقدمية ... وكانت لندن تختمر في تلك السنين بآراء تقدمية عديدة. وتم زواجهما، وهنا تبدأ قصتنا أو عبرة القصة التي قصدنا إليها حين قلنا إنه - أي هافلوك إليس - قد اتخذ أسلوبا معينا من العيش.
ذلك أننا نفهم من الزواج أنه ارتباط مادي كما هو ارتباط روحي، بحيث يعيش الزوجان في منزل مشترك، وإن لم يناما في سرير مشترك، يشتركان في الراحة والنوم، ويأكلان من مائدة واحدة، ولهما اقتصاديات منزلية مشتركة.
ولكن هذين الزوجين كانا على نية الابتداع لبدعة جديدة هي الزواج الانفصالي، فإنهما بعد انقضاء شهر العسل عاد كل منهما إلى منزله، يتلاقيان بمواعيد، ويشتركان في سريرهما بمواعيد، كأنهما عاشقان وليسا زوجين. ولم يكن هذا الانفصال يرجع إلى ضعف أو نقص في حبهما وإنما كان عن مبدأ، وهو أن كلا من الزوجين يجب أن يستقل بحياته وحرفته وسكناه وبرنامج يومه لا يفسدهما عليه ذلك زوجه الآخر. أو بكلمة أخرى: نحن نرى في الزواج حياة شاملة تحتوي على جميع التفاصيل الأخرى، في حين كان هذان الزوجان يريان فيه أنه بعض الحياة فقط، وأنه يجب أن يترك الزوج حرا لا يتدخل الزواج في تفاصيل حياته ولا يشملها؛ إذ هو - أي الزوج - إنسان أولا له طموحه وآماله وحرفته وهوايته وملذاته، وهو يحب أن يجد الحرية كي يمارسها جميعها في خلوة وفي استقلال لا يفسدهما عليه الزوج الآخر.
وقد عاشا على هذا الأسلوب أكثر من عشرين سنة يتزاوران كأنهما ضيفان، وفي كل عام يقصدان إلى قرية في الريف أو إلى أية بلدة على الشاطئ للتشتية أو الاصطياف، فيقضيان نحو شهر معا في بيت واحد، حتى إذا عادا إلى لندن استقل كل منهما بمنزله دون الآخر.
ومما يذكر أن غريبا لقيهما في القطار فلم يعرف من حديثهم أنهما زوجان؛ إذ كان كل منهما يداعب الآخر، ويلاطفه أو يناغيه وظن أنهما عاشقان.
على أن هذه السعادة «الزوجية» لم تدم، فإن الزوجة أحست هوى جنسيا استسلمت له، فأحبت شابا، ثم عادت فأحست انحرافا فأحبت فتاة، وفسدت العلاقة الزوجية بسبب ذلك، ولكنهما لم يعمدا إلى الطلاق. وهنا يعلل بعض القراء هذا الشذوذ الذي وقعت فيه الزوجة بأنه كان النتيجة المحتومة لهذا الانفصال. واعتقادي أن هذا الاستنتاج قد يكون صادقا، فإن الرجل حين يعيش منفردا معتزلا للمرأة، وكذلك المرأة حين تعيش منفردة معتزلة للرجل، كلاهما يعود عرضة للشذوذ الجنسي، وخاصة إذا كانت هناك زعزعة نفسية سابقة، كما نستطيع أن نستنتج مما حدث لهذه الزوجة المسكينة التي احتاجت في فترة من حياتها أن تلجأ إلى مستشفى الأمراض العقلية.
الواقع أننا نجد في أخلاق هذه الزوجة رعونة وتقلبا لا يدلان على عقل رصين متزن، فإنها احترفت الزراعة سنوات، ثم احترفت النشر؛ أي نشر الكتب، وأخفقت في العملين، وكان من رعونتها هذه أن طلبت الانفصال الشرعي، وهو في إنجلترا دون الطلاق.
अज्ञात पृष्ठ