التاريخ هو في صميمه درس العوامل الجغرافية والاقتصادية التي أثرت وغيرت المجتمعات البشرية، التي عاشت في بقعة معينة من الأرض. وتاريخ مصر هو جغرافيتها، هو زراعتها التي أوجدت مجتمعا مستقرا يثبت في مكانه ثبات الزراعة في الأرض.
وليس لأمة تاريخ ما لم يكن هناك تفاعلات اقتصادية بين الأفراد بحيث تؤدي هذه التفاعلات إلى إيجاد مؤسسات، مثل المحاكم والمعابد ونحوهما، أما ما دام ليس هناك مؤسسات، كما هي الحال بين الإسكيماويين حول القطب الشمالي، فإنه لن يكون هناك تاريخ.
ثم ما دام كل فرد يكسب لنفسه وأولاده فقط، ولا يستطيع أن يزيد، فإن المجتمع لن يستطيع أن يدخر مقدارا من المال لإيجاد هذه المؤسسات الاجتماعية التي يحتاج إليها، ولذلك ليس عند الإسكيماويين حكومة؛ لأنه ليس هناك فائض من كسب الأفراد يكفي لإيجاد مجموعة المؤسسات التي نسميها حكومة، ولذلك أيضا ليس لهم تاريخ.
وقد كان الإنسان قديما يعيش في الغابات كما لا تزال تعيش القردة العليا، وكان يجمع طعامه ولا ينتجه، والفرق عظيم جدا بين الجمع وبين الإنتاج، فإن البشر ينتجون طعامهم هذه الأيام، ولذلك بلغوا 230 مليونا في حين أنهم كانوا لا يزيدون على أربعة أو خمسة ملايين حين كانوا يجمعون الطعام من الغابات جمعا، أي يلتقطون الثمرة البرية، أو يقتلعون الجذور الطرية، أو يصيدون الوحش، أو يأكلون الحشرات والزواحف وسائر الحيوان. ولكن ليس الفرق بين الجمع والإنتاج كميا فقط؛ لأن هذا الفرق هو في صميمه فاصل بين الإنسان البدائي الساذج الجوال، وبين الإنسان المتمدن المستقر الذي عرف الزراعة؛ أي عرف الإنتاج.
وهنا قيمة إليوت سميث. •••
كان إليوت سميث أستاذا للتشريح في كلية (مدرسة) قصر العيني، قبل نحو أربعين أو خمسين سنة، وقد تعلم على يديه كثير من أطبائنا مثل علي إبراهيم، وجورجي صبحي، وأحمد شفيق، وكانت له هواية إلى جنب الحرفة، وكان كما هو المألوف يهتم بهوايته وبحرفته، بل انتهى في أخريات حياته إلى احتراف الهواية، وهذه الهواية هي تاريخ مصر.
ولكنه لم يكن يدرس تاريخ مصر كي يتعرف على تاريخ مصر، وإنما كان يهدف إلى درس تاريخ الحضارة البشرية في العالم كله عن طريق الدرس لأصول الحضارة المصرية التي انتشرت حول ضفتي النيل في العشرة آلاف سنة الأخيرة.
واستطاع أن يثبت أن مصر هي أصل الحضارة للعالم كله؛ وليس ذلك لأن أسلافنا كانوا أذكى من سائر البشر؛ وإنما لأن جغرافية مصر قد تفاعلت مع الإنسان المصري بما لم يتفاعل أي وسط آخر مع الإنسان، فكانت النتيجة ظهور الحضارة في مصر.
وبهذه النظرية نقل إليوت سميث دراسة الحضارة من تعدد الأصل إلى وحدته، كما سبق أن فعل داروين حين رد الأحياء إلى أصل واحد، وأصبحنا نتتبع تطور الحضارة وتنقلها من قطر إلى آخر عن سبيل الكلمات والآثار والعادات الفرعونية. ولهذا الرأي الجديد مدرسة يعد تلاميذها بالألوف، ولا تقل المؤلفات في تأييد هذا الرأي عن ثلاثمائة كتاب في لغات مختلفة.
وقد كانت مؤلفات إليوت سميث عندي انبلاجا ذهنيا قادني إلى دراسات مختلفة، كما أثمر مركبات ثقافية ما زلت في اشتباكتها. وقد ألفت كتابي: «مصر أصل الحضارة» وأنا في غبطة الفرح بهذا الفهم الجديد للدنيا والبشر، ولا يعدل هذه الغبطة عندي سوى اهتدائي إلى نظرية «التفسير الاقتصادي للتاريخ» وهي النظرية التي جعلت التاريخ علما يقاس ويوزن، وليس روايات لذيذة أو مصادفات غير معللة ، والحق أن نظرية الأصل المصري للتاريخ البشري كله تستند في أساسها إلى العوامل الاقتصادية، وأهمها هذا النيل الذي يروي الوادي فينتج الزرع. •••
अज्ञात पृष्ठ