وتحركت نائلة للقيام، وتكررت القبلات للوداع، وغادرت البهو بعد أن ملأته حديثا مختلف الفنون، كثير الشجون.
وما كادت تستوي على محفتها
10
حتى أمرت حامليها أن يذهبوا بها إلى دار ابن زيدون لتدعوه إلى صنيعها. فلما دخلت عليه رأته حزينا مهموما، فسألته عما به في ذعر وقلق فقال: لقد نصحني كل صديق باجتناب عائشة، وكثيرا ما حذرتني من التزوج بها، ولكني أخاف عاقبة مغاضبتها، ولا أجد في نفسي من الجرأة ما يمكنني من قطع حبالها.
فضحكت نائلة وقالت: أهذا ما يقلق بالك، ويكدر صفاء وجهك الوسيم؟ اكتب إليها الآن رسالة موجزة فاصلة تقطع كل ما بينكما من صداقة، ولا تبال ولا تأبه لما تجر من عواقب. - لا أستطيع يا نائلة وأخاف ...
فقاطعته في حزم: اكتب يا أبا الوليد، واترك الأمر لي، فإن الخوف من الثعبان لا يقتل الثعبان. إن جاريتها «غالية» جاسوسة لي عليها منذ زمن بعيد، وسأعمل كل ما أستطيع لأجنبك شرها. قم يا بني فإن الوزارة ترف بجناحيها فوق بابك، وقد خدعت ابن جهور وأخبرته كذبا أنك هجرتها وسللت ثيابك عن ثيابها. فقام ابن زيدون إلى أوراقه يتعثر، وكتب بعد تردد:
هذه آخر رسالة إليك، فلا تطمعي بعدها في لقاء، وحصني نفسك باليأس، فإن نفسي إذا انصرفت عن الشيء فلن تعود إليه.
ونادى خادمه عليا وأمره أن يسرع بالرسالة إلى دار عائشة. ثم اتجه إلى نائلة يقول: أسمعت بقصة طارق بن زياد حين أحرق سفنه على شاطئ بحر الزقاق؟ أنا اليوم أحرقت سفني، ولله الأمر من قبل ومن بعد!
الفصل الثالث
عرضنا على القارئ صورة لنائلة الدمشقية بقدر ما يستطيع القلم أن يصور، وتركناه يستشف صفاتها وطبائعها وأسلوب حياتها من حديثها الفياض الطويل الذيول، الحائر المذاهب، الذي يطرق كل باب، ويسلك كل سبيل. ولا نريد أن نتبرع للقارئ بذكر ما نعلم من حقيقة مزاجها وفلسفتها في الحياة، حتى لا نفسد عليه نهج تفكيره. على أنه قد يصل بنفسه وبالقليل مما مر ويمر عليه من أحوالها إلى أكثر مما نعلمه، أو إلى أدق مما نزعم أننا نعلمه. وأعظم ما يفسد على المرء تفكيره أو يشوه خياله، أن تخبره بكل شيء فلا تدع لتفكيره أو خياله مجالا يجول فيه، ويخلق من الصور ما تطمئن إليه نفسه.
अज्ञात पृष्ठ